الهلينية
إذا كان الجزء الأول من القرن الخامس ق.م. قد شهد اليونانيين يُحاربون الغزاة الفرس، فإن الجزء الأول من القرن الرابع قد أثبت أن إمبراطورية الملك العظيم (ملك فارس) كانت عملاقًا يرتكز على أقدام من الفخار. ألم يثبت «زينوفون» أن جماعة صغيرة من الجند اليونانيين الذين أحسن تدريبهم وقيادتهم تستطيع الصمود في وجه جبروت الفرس، حتى في أرضهم ذاتها؟
وهكذا أصبح علم الإغريق وفلسفتهم، والأهم من ذلك فنُّهم، يُمارِس تأثيره على الحضارات الشرقية القديمة، وتشهد الآثار الباقية من العملات والأواني والمباني والتماثيل، وكذلك المؤثرات الأدبية إلى حدٍّ أقل على هذا الغزو الثقافي، وبالمثل فإن الشرق مارس تأثيرًا جديدًا على الغرب، ولكن هذا التأثير كان أقربَ إلى التراجع والانتكاس؛ إذ يبدو أن ما استحوذ على خيال اليونانيين أكثر من أي شيءٍ آخر في ذلك الحين كان التنجيم البابلي. وهكذا كان العصر الهلينستي، برغم كل ما فيه من توسُّع علمي وثقافي، أشدَّ إيغالًا في الخرافة من العصور الكلاسيكية بكثير. وهذا أمر يحدث مثله في عصرنا هذا وأمام أعيننا، فعندما كنت شابًّا كان التنجيم مقتصرًا على قلة من المختلين المهووسين، أما اليوم فإن هذا المرض قد أصبح له من القوة ما يكفي لإقناع المهيمنين على الصِّحافة الشعبية بأن يُخصِّصوا أعمدة لما تُضمِره النجوم. وربما لم يكن ذلك بالأمر المستغرب؛ ذلك لأن العصر الهلينستي بأسره كان حتى مجيء الرومان غيرَ منضبط ولا مستقرٍّ ولا آمن، وكانت جيوش المرتزقة التي تنتمي إلى الجماعات المتنازعة تَعيث فسادًا في المناطق الريفية من آنٍ لآخر، أما المدن الجديدة التي بناها الإسكندر فكانت تفتقر سياسيًّا إلى استقرار المستعمرات الأقدمِ عهدًا، التي كانت تجمعها روابطُ تقليدية بوطنها الأم، وكانت الجو العامُّ في ذلك العصر يفتقر إلى الشعور بالأمان، إذ كانت إمبراطورياتٌ جبارة قد زالت، وكان خلفاؤها يتقاتلون على السيطرة في جوٍّ متقلب. وهكذا فإن تقلب الأحوال قد انتقل إلى نفوس الناس بطريقةٍ لا لبس فيها ولا غموض.
أما من الوجهة الثقافية، فقد انتشر التخصص على نحوٍ متزايد، وعلى حين أن كبار الشخصيات في العصر الكلاسيكي كانوا يستطيعون بوصفهم أفرادًا في دولة المدينة، أن ينتقلوا بين موضوعاتٍ شتى، حسبما تقتضيه الظروف، فإن باحثي العالم الهلينستي كانوا يقتصرون على ميدانٍ واحدٍ محدد. وانتقل مركز البحث العلمي من أثينا إلى الإسكندرية، وهي أنجحُ مدن الإسكندر الجديدة، وملتقى العلماء والكُتَّاب من كافة أرجاء العالم. فكان الجغرافي إراتوسثنيس خلال بعض الوقت أمينًا عامًّا لمكتبة الإسكندرية الكبرى، كما كان إقليدس يُعلِّم الرياضيات، وكذلك فعل أبولونيوس، على حين أن أرشميدس قد تعلَّم هناك. أما من الوجهة الاجتماعية فإن أساس الحياة المستقرة قد تزعزع بنمو عدد العبيد بين السكان، ولم يكن في استطاعة الأحرار أن يُنافِسوا العبيد بسهولة في الميادين التي اعتادوا العمل فيها، ومن هنا كان الشيء الوحيد الذي يُمكِنهم أن يفعلوه هو أن يُصبِحوا جنودًا مرتزقة، آمِلين أن يشتركوا في غزوةٍ تُتيح لهم الثراء عن طريق السلب والنهب، وعلى حين أن اتساع نطاق التأثير اليوناني قد علَّم الناس مُثلًا عليا أوسع نطاقًا مما تعلَّموه في دولة المدينة، فلم يكن هناك رجلٌ أو قضية لهما من القوة ما يجعل البقايا المبعثرة لعالم الإسكندر تلتفُّ حولهما.
ولقد أدى الإحساس المتأصل بانعدام الأمان إلى الإقلال من الاهتمام بالشئون العامة، وإلى هزالٍ عام في الكيان العقلي والأخلاقي، وإذا كان اليونانيون القدماء قد تهاوَنوا في المشاركة في مشاكل عصرهم السياسية، فإن يونانيِّي العصر الهلينستي قد تهاونوا على نفس النحو، وفي النهاية كان على الرومانيين، بما عُرِف عنهم من عبقرية التنظيم، أن يصنعوا من الفوضى نظامًا، وأن ينقلوا حضارة اليونان إلى العصور التالية.
وبانتهاء العصر الذهبي لدول المدن، أُصيبَ العالَم اليوناني بهبوطٍ عام في نضارته وحيويته، والواقع أنه إذا كانت هناك صفة بارزة يشترك فيها كل الفلاسفة الأثينيين الكبار، فهي موقفهم الإيجابي المقبل على الحياة؛ فلم يكن العالم في نظرهم مكانًا سيئًا للعيش، والدولة يمكن الإحاطة بجميع أطرافها في لمحةٍ واحدة.
وقد اتخذ أرسطو من هذه الصفة — كما رأينا — واحدة من صفات مدينته المثلى، غير أن التوسُّع المقدوني أدى إلى زعزعة هذه النظرة السعيدة الراضية، وانعكس ذلك في كل الاتجاهات الفلسفية السائدة في تلك الأيام على صورةِ تشاؤم شامل وإحساس بانعدام الأمان. أما الشعور بالثقة الذاتية، الذي كان يتملَّك المواطنين الأرستقراطيين من أمثال أفلاطون، فقد اختفى إلى غير رجعة.
ويُمكن القول بمعنًى معين إن موت سقراط كان هو الحدَّ الفاصل في الثقافة اليونانية. صحيح أن أعمال أفلاطون ستظهر بعد ذلك، غير أننا نشعر بالفعل بأننا بدأنا نهبط إلى وديان الثقافة الهلينستية، وبدأ يظهر في الفلسفة عددٌ من الحركات الجديدة؛ أُولاها ترتبط مباشرةً بأنتيسثنيس، وهو أحد تلاميذ سقراط، ويرتبط اسم أنتيسثنيس بإحدى المفارقات في التراث الإيلي، وهي المفارقة التي تقول إن من المستحيل إصدارَ أحكام ذاتِ معنًى؛ فإما أن تقول: أ هي أ، وهو حكم صحيح، ولكنه لا يستحق أن يُقال، وإما أن تقول: أ هي ب، ولما كانت ب ليست هي أ، فلا بد أن يكون الحكم باطلًا، فلا عجب إذن أن يفقد أنتيسثنيس ثقته بالفلسفة، ويعتزل في أُخرَيات أيامه حياةَ الطبقة العليا التي كان يحياها، ويعيش الحياة البسيطة للناس العاديِّين، وقد تمرَّد على عادات عصره، وكان يتمنى أن يعود إلى حياةٍ بدائية لا تشوبها شائبةٌ من أعراف المجتمع المنظِّم وقيوده.
وهناك نتاجٌ آخر، مختلفٌ إلى حدٍّ ما لفترة التدهور الفلسفي هذه، هو حركة الشكاك، وإذا كان اسم هذه الحركة مُستمَدًّا من مجرد الشك أو الارتياب، فإن المذهب بوصفه فلسفة يرتفع بالشك إلى مرتبة العقيدة الراسخة؛ فهو يُنكِر أن يكون في وُسعِ أي شخص أن يعرف أي شيء معرفة يقينية، ولكن المشكلة بالطبع هي أن المرء يود أن يعرف من أين جاء الفيلسوف الشكَّاك بهذه المعلومة.
فكيف يعرف أن الأمر كذلك إذا كان موقفه يُنكِر صراحةً إمكان المعرفة؟ إن هذا قد يصبح منطقيًّا بمجرد أن نُحوِّل طابع الشك في آرائنا إلى مبدأ، أما إذا كان الهدف من هذا الشك هو أن يُذكِّرنا بفائدة الحذر، فإن هذا وضع صحي لا حرج عليه.
وبعد أن مات تيمون في عام ٢٣٥ق.م. لم يعد مذهب الشك بدوره مدرسةً مستقلة، وإنما اندمج في الأكاديمية، التي ظلت تتمسك بطابعٍ من الشك قرابة مائتَي عام، وكان ذلك بطبيعة الحال تشويهًا للتراث الأفلاطوني، صحيحٌ أننا نجد عند أفلاطون فقرات لو انتُزِعَت من سياقها لبدَت وكأنها دعوةٌ إلى التخلي عن أية محاولة للتفكير البنَّاء، ويتمثل ذلك في الألغاز الجدَلية في محاورة «بارمنيدس»، غير أن الجدل عند أفلاطون ليس أبدًا غايةً في ذاته، ولا يمكن تحريفه بمعنًى شكًّا إلا إذا أُسيء فَهمُه على هذا النحو. ومع ذلك ففي عصر كانت الخرافات قد بدأت تُغرِقه، يمكن القول إن الشكاك قد أدَّوْا خدمة جليلة بوصفهم فاضحين لهذه الخرافات، ولكنهم في الوقت ذاته كان يُمكن أن يُقرِّروا ممارسة بعض الطقوس الخرافية دون أن يشعروا داخليًّا بأنهم ملتزمون بها. وهذا الموقف السلبي الكامل هو الذي جعل حركة الشك، بوصفها مذهبًا تتجه إلى أن تجعل من مُعتنِقيها جيلًا يُعرِب عن ازدرائه بغير حماس، ويتميز بالذكاء أكثر مما يتميز بالسداد.
وُلِد أبيقور في عام ٣٤٢ق.م. لأبوَين أثينيَّين، وعندما بلغ الثامنة عشرة انتقل من ساموس إلى أثينا، ثم رحل بعد وقتٍ قصير إلى آسيا الصغرى، حيث بهرَته فلسفة ديمقريطسن. وبعد أن تجاوز سن الثلاثين بقليل أسس مدرسة كان مقرها أثينا منذ عام ٣٥٧ق.م. حتى وفاته في عام ٢٧٠ق.م، وكانت المدرسة أشبهَ بجماعةٍ صغيرة تعيش في بيته وأرضه، وتسعى بقدر الإمكان إلى الانعزال عن صخب الحياة الخارجية ونزاعاتها، وقد ظلت الأمراض تُداهم أبيقور طوال حياته، فتعلم كيف يتحملها دون أن يشكو. وهكذا كان الهدف الرئيسي لمذهبه هو بلوغَ حالة من الطمأنينة لا يُعكِّر صفوها شيء.
إن الخير الأسمى عند أبيقور هو اللذة، ولولاها لكانت الحياة السعيدة مستحيلة، وتشمل اللذات التي كان يعنيها، ملذات الجسم وملذات العقل معًا. أما الأخيرة فقوامها تأمُّل الملذات الجسمية، وهي ليست أسمى من الأولى بأيِّ معنًى حقيقي، ومع ذلك فلما كانت لدينا سيطرة أكبر على اتجاه أنشطتنا العقلية، فإننا نستطيع إلى حدٍّ ما أن نختار موضوعات تأملنا، على حين أن انفعالات الجسم تُفرَض علينا إلى حدٍّ بعيد، وهنا تكمن الميزة الوحيدة للملذات العقلية، وتبعًا لهذا الرأي فإن الإنسان الفاضل يحصر همه في السعي إلى ملذاته.
هذه النظرية العامة تؤدي إلى ظهور مفهوم للحياة الخيرة يختلف كلَّ الاختلاف عن مفهوم سقراط وأفلاطون، ويتجه كليةً إلى الابتعاد عن الفاعلية والمسئولية، وبطبيعة الحال فإن سقراط كان ينظر بالفعل إلى حياة التأمل العقلي على أنها أفضل حياة على الإطلاق. غير أن ذلك لم يكن يعني عنده الانعزالَ والعزوف، بل إن من صميم واجبات الصفوة أن يقوموا بدورٍ فعال في إدارة دفة الشئون العامة.
كذلك كان أفلاطون متشبِّعًا بقوةٍ بهذا الإحساس بأداء الواجب.
فالفيلسوف الذي خرج من الكهف ينبغي أن يرجع ويُساعد على تحرير أولئك الذين لا يملكون ما يملكه من نفاذ البصيرة، وكان اقتناعه هذا هو الذي دفعه إلى القيام بمغامراته في صقلية. أما عند أبيقور فلا يتبقى شيء من فاعلية الحياة ونشاطها. صحيح أنه يُميِّز بين اللذات الإيجابية والسلبية، ولكنه يعطي الأولوية للثانية، أما اللذة الإيجابية فتُمارَس في السعي إلى غاية تنطوي على لذة، بدافع الرغبة في الشيء الذي نفتقر إليه، وما أن يتم بلوغ الهدف، حتى تتحقق لذة سلبية في غياب أية رغبة أخرى، إنه انتشاءٌ تخديري بحالةٍ من الاكتفاء والتشبُّع.
وفي وُسع المرء أن يَفهم أن هذا النوع من أخلاق الحذر والفطنة كان مطلوبًا في عصرٍ يُعاني من انعدام الاستقرار واليقين في الحياة.
أما من حيث هو إيضاح لطبيعة الخير، فهو بلا شك أُحادي الجانب إلى أبعدِ حد؛ فهو يُغفِل، من بين ما يُغفله، أن غياب الرغبة أو الشعور الشخصي سمة للسعي الإيجابي إلى المعرفة بالذات، ولقد كان سقراط على حقٍّ تمامًا حين ذهب إلى أن المعرفة خير؛ ذلك لأن السعي المتجرِّد إلى الفَهم هو الذي يجعلنا نصل إلى ذلك النوع من اليقظة المنزَّهة التي كان يبحث عنها أبيقور.
غير أن مزاج أبيقور الشخصي أدى به إلى أن يكون أقلَّ اتساقًا مما توحي به آراؤه الأقربُ إلى التقشف؛ فقد كان يُقدِّر الصداقة فوق كل شيءٍ آخر، على الرغم من أن الصداقة لا يمكن أن تُعَد — كما هو واضح — ضمن اللذات السلبية، أما أن كلمة «الأبيقوري» أصبحت تُستخدَم علامة على حياة الترف والمتعة، فذلك يرجع إلى أن قدرًا كبيرًا من الافتراء قد حل بأبيقور على أيدي معاصريه من الرواقيين وخلفائهم، الذين استنكَروا ما بدا لهم أنه نظرة إلى الحياة مُفرِطة في المادية لدى الأبيقوريين. وهذا رأي يزداد خطؤه وتضليله وضوحًا إذا أدركنا أن مجموعة الأبيقوريين كانت تحيا بالفعل حياة متقشِّفة.
لقد كان أبيقور ماديًّا بمعنى أنه كان يؤمن بالمذهب الذري عند ديمقريطس، غير أنه لم يأخذ بالرأي القائل إن حركة الذرات تحكمها قوانينُ صارمة؛ ففكرة القانون — كما أوضحنا من قبل — مستمدة في الأصل من المجال الاجتماعي. ولم تُطبَّق على أحداث العالم الطبيعي إلا فيما بعد، والدِّين بدوره ظاهرةٌ إجماعية، ومن هنا فإن هذَين الاتجاهَين الفِكريَّين يتلاقيان في قولهما بمفهوم الضرورة.
فالآلهة هي المشرِّعة النهائية للقوانين، وهكذا فإن أبيقور في رفضه للدِّين اضطُرَّ إلى استبعاد قانون الضرورة الصارم بدوره. وعلى ذلك فإن الذرات عند أبيقور يُسمَح لها بقدرٍ معينٍ من الاستقلال التلقائي، وإن كانت أية عملية معيَّنة ما إن تبدأ في الحدوث، حتى يُصبِح مجراها التالي مُتمشيًا مع القوانين كما هي الحال عند ديمقريطس.
أما عن النفس، فإنها لا تعدو أن تكون نوعًا من المادة تختلط جزيئاته بالذرات المكوِّنة للجسم. ويُفسَّر الإحساس بأنه تصادم انبعاثات من الأشياء مع ذرات النفس، وحين يحل الموت تفقد ذرات النفس تماسكها مع الجسم وتتبعثر، فتظل باقيةً بوصفها ذرات، ولكنها لا تعود قادرة على الإحساس، وعلى هذا النحو يُثبِت أبيقور أن الخوف من الموت أمرٌ يتنافى مع العقل؛ لأن الموت ذاتَه ليس شيئًا يمكننا أن نُجرِّبه، وعلى الرغم من أنه كان يعارض الدين بشدة، فإنه لم يرفض فكرة وجود الآلهة، غير أن وجودها لا يَزيد حياتنا خيرًا أو شرًّا؛ ذلك لأن الآلهة ذاتها تُمارِس المبادئ الأبيقورية بكل شغف، ومن ثَم فهي لا تكترث بمشاكل البشر، ولا تفرض ثوابًا أو عقابًا.
ومجمل القول إن من واجبنا أن نسلك سبيل الحرص والاعتدال بهدف بلوغ حالة من التوازن الذي لا يُعكِّره شيء، وهو أرفع اللذات، ومن ثم فهو الخير الأسمى.
إن الرواقية — من حيث هي نظرية أخلاقية — تبدو نظامًا صارمًا لا لون له، إذا ما قُورِن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهبٌ في اجتذاب محدَّد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يُقبَل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يُصبِح الفلاسفة ملوكًا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.
ولم يتبقَّ لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوينُ فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيًّا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تَشغَل الاهتمامَ طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلةُ الحتمية وحريةِ الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدرٍ من الحيوية جعلها موضوعًا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهَمَت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسًا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمُضيِّ الوقت، وذلك على نحوٍ يُشبِه نظريات أنكساجوراس إلى حدٍّ ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتَها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقًا لها فتَصدُر عن سُلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحوٍ مقدَّر مقدمًا. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تُعَد شيئًا خارجًا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزءٌ منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورًا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.
وأسمى خيرٍ هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وَحْدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصوَّر هذه الفكرة على أنها تحصيلُ حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلًا من أن تُعارِضَها، أما النعم الدنيوية فلا تُعَد ذاتَ قيمة كبيرة؛ فقد يَحرِم طاغيةٌ إنسانًا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يَسلبه فضيلته، التي هي مِلكٌ له مُتأصِّل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تُصبِح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيءُ الجدير بالاهتمام، لا يُمكِن أن يُؤثِّر فيها أي ضغط خارجي.
ولكن بغضِّ النظر تمامًا عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاءً واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤسُ بوجهٍ عام مؤديًا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلًا عن ذلك فإن مِن الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أنَّ مِن الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيمَ إرادة أي شخص تقريبًا مهما كانت صلابةُ مَعدِنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهمُّ بمعنًى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائمًا أن نُعوِّض بقدرٍ معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحطُّ إلى ما دون مستوى البشر.
كذلك اخترع الرواقيون مصطلحاتٍ للنحو الذي أصبح لأول مرة على أيديهم ميدانًا للبحث العلمي المنظم؛ فأسماء الحالات النحوية اختراع رواقي، وقد وصلت الترجمات اللاتينية لهذه الحالات إلى اللغات الأجنبية الحديثة عن طريق النحويين الرومان، وما زالت تستخدم حتى اليوم.
أما إبكتيتوس فكان يونانيًّا، وُلِد حوالي عام ٦٠ ميلادية، ويُذكِّرنا اسمه ذاتُه بأنه كان عبدًا؛ لأن معنى الاسم هو الشخص المقتنى. ولقد ترك فيه سوء المعاملة الذي تعرَّض له خلال سنواته الأولى آثارًا دائمة هي رِجل عرجاء، واعتلال عام في صحته.
ولو كان الإمبراطور قد نظر إلى واجباته بطريقةٍ أقل تشددًا لازداد الشقاق بلا جدال بالنسبة إلى ما كان موجودًا من قبل. على أن الرواقية لم تستطع قط أن تهتدي إلى حل مقنع لهذه الصعوبة.
أما فيما يتعلق بمسألة المبادئ الأولى، التي كانت مشكلة تخلَّفَت من عصر أفلاطون وأرسطو، فقد وضع الرواقيون نظرية في الأفكار الفطرية، التي هي نقاط بداية بديهية وواضحة بذاتها، يمكن أن تبدأ بها العملية الاستنباطية. وقد أصبح هذا الرأي سائدًا في فلسفة العصور الوسطى، كما قال به بعض أصحاب المذهب العقلي من المحْدَثين؛ إذ إنه يُعَد حجر الزاوية من الوجهة الميتافيزيقية في المنهج الديكارتي. وقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرمَ من نظريات العصر الكلاسيكي؛ فأرسطو — كما ذكرنا من قبل — قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدًا لأي واحد من مواطنيه، أما الرواقية فإنها ذهبت إلى أن الناس جميعًا، بمعنًى معيَّن، متساوون، وكانت في ذلك تسير على هَدْي الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهدٍ مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري، أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم، والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناءً على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعضُ التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حُرِموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أُعيدَ إحياء هذه النظرية لأسبابٍ مماثلة، في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.
وعلى الرغم من أن اليونان كانت هي ذاتها المركز الثقافي للعالم، فإنها لم تتمكن من الاستمرار بوصفها أمة حرة مستقلة. ومن جهة أخرى فإن التقاليد الثقافية اليونانية قد انتشرت طولًا وعرضًا، وخلَّفَت آثارًا دائمة، وذلك في الحضارة الغربية على الأقل؛ فقد اصطبَغ الشرق الأوسط بالصِّبغة اليونانية بفضل تأثير الإسكندر، أما في الغرب فقد أصبحت روما حاملة لواء التراث اليوناني.
كان أول اتصال بين اليونان وروما هو ذلك الذي حدث عن طريق المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا، ولم يترتب على حملات الإسكندر تعكيرٌ للأوضاع في البلاد التي تقع غرب اليونان.
وخلال هذه العمليات العسكرية ضمَّت أسبانيا، وقد شهد القرن الثاني غزو اليونان ومقدونيا، ثم نشبت حرب «بونية» ثالثة انتهت بتدمير شامل لمدينة قرطاجة في عام ١٤٦. وفي العام نفسِه لقيت كورنثة نفس المصير على أيدي الجحافل الرومانية، على أن عمليات التدمير هذه، التي كانت تتسم بقسوة متعمدة، كانت هي الاستثناء، وقد وجدت من ينتقدونها في ذلك العصر، كما في العصور التالية. ومن هذه الناحية يمكننا أن نقول إن عصرنا الحاضر يعود بسرعة إلى العصور البربرية.
وخلال القرن الأول ق.م. أُضيفَت آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبلاد الغال إلى الأقاليم الرومانية، بينما بريطانيا في القرن الأول الميلادي. ولم تكن هذه الغزوات المتعاقبة نتيجةَ تعطشٍ إلى المغامرة فحسب، بل لقد أملاها البحث عن حدود طبيعية يمكن الدفاع عنها دون صعوبة كبيرة في وجه إغارات القبائل المعادية التي تعيش وراء هذه الحدود، وقد أمكن بلوغ هذا الهدف في السنوات الأولى للإمبراطورية؛ إذ كانت أراضي روما تُحَدُّ من الشمال بنهرَين كبيرَين، هما الراين والدانوب، ومن الشرق بالفرات والصحراء العربية، ومن الجنوب بالصحراء الكبرى، ومن المغيط بالمحيط. وفي هذا الإطار عاشت الإمبراطورية الرومانية في سلام واستقرار نسبيَّين خلال القرنَين الأوَّلَين بعد الميلاد.
ولقد ظلت الإمبراطورية الرومانية تعيش — على وجه العموم — في سلام طَوال ما يقرب من مائتَي عام بعد موت أغسطس في عام ٤١ ميلادية. صحيح أنه قد ثارت بعض القلاقل الداخلية، وحدثت اضطهادات، ولكنها لم تكن ذاتَ أبعاد تُؤدِّي إلى زعزعة أركان الحكم الإمبراطوري. وهكذا كانت الحروب تُشَن على طول الحدود، على حين أن روما كانت تحيا حياة هادئة منظَّمة.
وفي النهاية أخذ الجيش ذاته يعمل على استغلال قوَّته، التي كان يستخدمها في الحصول على الذهب مقابل منحه التأييد للحاكم.
ولقد أسهم طابع النقد والتشكيك الذي اتسم به التراث اليوناني، مقرونًا بالانهيار الذي حدث في العصور الهلينستية، في التخفيف من صرامة الفضائل الرومانية القديمة، وخاصةً عندما تدفقت على البلاد ثرواتٌ هائلة نتيجةً للتوسع فيما وراء البحار.
صحيحٌ أن التأثير الإغريقي الأصيل قد تناقصت قوَّته، وأصبح مُركزًا في أفرادٍ قلائل، وخاصة بين الطبقة الأرستقراطية في مدينة روما.
وهكذا فإن أعظم دور قامت به روما كان نقل ثقافة أقدمَ من ثقافتها وأرفعَ منها. وقد تحقق ذلك بفضل العبقرية التنظيمية للحكام الرومان، والتماسك الاجتماعي للإمبراطورية. وما زالت بقايا شبكة الطرق الواسعة في كافة أرجاء الأقاليم الرومانية تشهد بعظمة هذه القدرة التنظيمية. فقد أتاح التوسُّع الروماني لجزء كبير من أوروبا أن يُصبِح وحدةً ثقافية واحدة، برغم الاختلافات القومية والعداوات التي نشبت في عصورٍ لاحقة، وحتى الغزوات البربرية لم تتمكن من تحطيم هذا الأساس الثقافي إلى الحد الذي يستحيل إصلاحه. أما في الشرق فإن تأثير روما كان أقلَّ دوامًا؛ وذلك بسبب الحيوية الهائلة التي اتسم بها العرب المسلمون الفاتحون.
وعلى حين أن الغُزاة في الغرب قد اندمجوا في تراث يدين بالكثير لروما، فإن الشرق الأوسط كله تقريبًا قد اعتنق عقيدة الفاتحين.
ولكن الغرب يدين للعرب بقدرٍ كبيرٍ من معرفته باليونانيين، وهي المعرفة التي نقلها إلى أوروبا مفكرون مسلمون، وخاصةً عن طريق أسبانيا.
وفي بريطانيا التي ظلت رومانية لمدة ثلاثة قرون، يبدو أن الغزوات الأنجلوسكسونية قد أدت إلى انفصال كامل عن التراث الروماني، وترتب على ذلك أن التراث الروماني العظيم في مجال القانون، الذي ظل باقيًا في جميع أرجاء أوروبا الغربية الخاضعة لحكم روما، لم ترسخ أقدامه في بريطانيا، وما زال القانون العام الإنجليزي حتى يومنا هذا أنجلوسكسونيًّا. ولهذه المسألة نتيجةٌ جديرة بالملاحظة في ميدان الفلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى ترتبط بالقانون ارتباطًا وثيقًا، وكان علم التفسير الفلسفي يسير جنبًا إلى جنب مع الممارسة الشكلية الصارمة للتراث الروماني القديم. أما في إنجلترا حيث كان التراث القانوني الأنجلوسكسوني هو السائد، فإن الفلسفة ظلت في معظم الأحيان تحتفظ بطابَعٍ أكثر تجريبية حتى في ذروة العصر المدرسي.
ولقد اقترنت الاتجاهات التلفيقية التي كانت في ظل الإمبراطورية تُمارِس تأثيرها في ميدان الدين، بتطور مماثل في الفلسفة؛ فقد كان التيار الرئيسي للفلسفة رواقيًّا بوجهٍ عام في العهد الأول من الإمبراطورية، على حين أن المذاهب الأفلاطونية والأرسطية الأكثر تفاؤلًا قد استُبعِدَت، ولكن بحلول القرن الثالث برز تفسير جديد للأخلاق القديمة في ضوء المذهب الرواقي، وهو تطور يتمشى إلى حدٍّ بعيد مع الأوضاع العامة للعصر. وأصبح هذا المزيج بين نظرياتٍ مختلفة يُعرَف باسم الأفلاطونية الجديدة، التي قُدِّر لها أن تُمارِس تأثيرًا كبيرًا على اللاهوت المسيحي، فهي بمعنًى ما جسر يمتد من العالم القديم إلى العصور الوسطى، بها انتهت فلسفة القدماء، ومنها بدأ الفكر الوسيط.
إن «الواحد» في ثالوث أفلوطين يُشبِه إلى حدٍّ بعيد الفلَك الواحد عند بارمنيدس، الذي لا يُمكِننا أن نقول عنه أكثر من أنه «يوجد».
أما تقديم أي وصف آخر له، فيعني أنه قد تكون هناك أشياء أخرى أعظم منه. ويتحدث أفلوطين عن هذا الواحد أحيانًا، وكأنه هو الإله، وأحيانًا أخرى على أنه «الخير» على طريقة محاورة «الجمهورية». غير أنه أعظم من «الوجود»، حاضر في كل مكان، وليس في مكان شامل، ولكنه لا يُعرَف، وأفضل ما يُمكِن أن يفعله المرء إزاءه هو أن يصمت بدلًا من أن يقول أي شيء، وهنا نرى بوضوحٍ تأثير التصوف؛ ذلك لأن المتصوف بدوره يلوذ وراء حاجز الصمت والعجز عن الاتصال، ونستطيع أن نقول إن عظمة الفلسفة اليونانية تَكمُن آخرَ الأمر في اعترافها بالدور الأساسي للكلمة «اللوجوس». وهكذا فإن الفكر اليوناني، على الرغم من وجود بعض العناصر الصوفية فيه، كان في أساسه مُضادًّا للتصوف.
والعنصر التالي في ثالوث أفلوطين هو ما يُسمِّيه بالعقل أو النوس، وهي كلمة يكاد يكون من المستحيل إيجاد ترجمة مطابقة لها، والمقصود هنا شيء يُشبِه الروح، لا بمعنًى صوفي، بل بمعنًى عقلي. وخير سبيل إلى إيضاح العلاقة بين النوس والواحد، هو استخدام تشبيه.
فالواحد أشبهُ بالشمس التي تبعث نورها الخاص، وعندئذٍ يكون النوس هو ذلك النورَ الذي يرى به الواحدُ ذاتَه. ويمكن بمعنًى معين أن نُشبِّهه بالوعي الذاتي، وحين نستخدم أذهاننا في الاتجاه الذي يبعدنا عن الحس يُمكِننا أن نصل إلى معرفة النوس، ومن خلاله إلى «الواحد» الذي يُعَد النوس صورة له. وهنا نجد نظيرًا لفكرة الجدل في جمهورية أفلاطون، حيث يُقال إن عمليةً مماثلة تُؤدِّي بنا إلى رؤية صورة الخير.
أما في موضوع الخلود، فقد أخذ أفلوطين بالرأي الذي عرض في محاورة «فيدون». إذ يقال إن نفس الإنسان ماهية، ولما كانت الماهيات أزلية فلا بد أن تكون النفس أزلية، وهذا يُوازي رأي سقراط القائل إن النفس تدخل ضمن إطار الصور، ومع ذلك فقد تضمنت نظرية أفلوطين عنصرًا أرسطيًّا مُعينًا. فعلى الرغم من أزلية النفس، فإنها تتجه إلى الاندماج في النفوس، ومن ثَم فإنها تفقد طابعها الشخصي، حتى لو لم تكن تفقد هُويتها.
إن المرء حين يعود بأنظاره إلى الإنجازات الفلسفية للعالم القديم، يشعر بالانبهار إزاء القوة غير العادية التي أبداها العقل اليوناني في إدراكه للمشكلات العامة.
وإذا كان أفلاطون قد قال إن بداية الفلسفة تكمن في الحيرة، فإن هذه القدرة على التعجب والدهشة قد توافرت لدى اليونانيين الأوائل بدرجةٍ غير عادية، والواقع أن الفكرة العامة للبحث والتمحيص هي من الاختراعات اليونانية الكبرى التي أضْفَت على العالم الغربي طابَعَه الخاص. وبطبيعة الحال، فإنَّ مِن غير المستحب في جميع الأحوال أن يُجرِيَ المرء مقارناتٍ بين ثقافاتٍ مختلفة، ولكن المرء لو شاء أن يُلخِّص الحضارة الغربية في جملةٍ واحدةٍ قصيرة، لأمكن القول إنها مبنيَّة على نزوع أخلاقي إلى بذل الجهد العقلي، وهو نزوع يوناني في المحل الأول.
أما السمة الأخرى الحيوية للفلسفة اليونانية، فهي أنها تستهدف العلانية أساسًا؛ فحقائقها، على النحو الذي وُجِدت عليه، لا تدَّعي لنفسها هالةَ العصمة من الخطأ، ومنذ البداية أبدت تلك الفلسفة اهتمامًا كبيرًا باللُّغة والاتصال. صحيح أنها تنطوي أيضًا على بعض العناصر الصوفية، وذلك منذ أقدم عهودها، تتمثل في ذلك التيار الصوفي الفيثاغوري الذي يمتد طوال مجرى الفلسفة القديمة.
غير أن هذه الصوفية هي في واقع الأمر خارجة عن البحث العقلي ذاتِه. فهدفها هو في الواقع توجيهُ أخلاق الباحث نفسه، ولم يُصبِح للتصوف دورٌ أهمُّ من ذلك إلا عندما دب الانحلال، فالتصوف كما قلنا عند مناقشتنا لأفلوطين مضادٌّ لروح الفلسفة اليونانية.
ومن أبرز المشكلات التي واجهت المفكِّرين القدامى بحِدَّة تَفوق مواجهة المحدَثين لها بكثير أن الفلاسفة اليونانيين الأوائل لم يكونوا يرتكزون على دعامة من التراث الماضي، على حين أننا اليوم نستطيع أن نعود دومًا إلى هذا التراث، فنحن نستمد الجانب الأكبر من مصطلحنا الفلسفي والعِلمي والتكنولوجي من مصادرَ كلاسيكية، وكثيرًا ما يفوتنا أن نَقدُرَ أهميتها حقَّ قدرِها. أما بالنسبة إلى الباحث اليوناني فقد كان لزامًا عليه أن يبدأ كلَّ شيء من البداية، وأن يصطنع طرقًا جديدة للتعبير، وينحت مصطلحاتٍ فنيةً جديدة، بُنِيَت على أساس المادة التي تُقدِّمها لغة الحديث اليومي، فإذا بدا أحيانًا أن طريقتهم في التعبير غير موفقة، فلا بد أن نتذكر أنهم كانوا في أحيان كثيرة يتلمسون طريق التعبير عن أنفسهم في وقتٍ كانت فيه الأدوات اللازمة ما تزال في طور الإعداد. ولا بد للمرء من جهد عقلي لكي يعود بذهنه إلى تصوُّر موقف كهذا، هو في الواقع أشبهُ بموقف الإنجليز الذين يجدون أنفسهم مُضطرِّين إلى التفلسف بلغة أنجلوسكسونية، منفصلة عن اليونانية واللاتينية. وكان لا بد أن ينقضي اثنا عشر قرنًا منذ العصر الذي وصلنا إليه حتى عهد إحياء المعرفة، وظهور العلم الحديث على أساس العودة إلى المصادر القديمة، وربما كان من قبيل إضاعة الوقت أن نتساءل: لماذا كان ينبغي أن تَحدث فترةُ توقف النمو هذه؟ لأن أية محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تكون مُفرِطة في التبسيط، ومع ذلك فمن الصحيح بلا شك أن مُفكِّري اليونان وروما لم ينجحوا في تطوير نظرية سياسية صالحة للتطبيق.
وإذا كان سبب إخفاق اليونانيين هو نوع من الغرور الذي ولَّدَته قدراتهم العقلية المتفوقة، فإن الرومان أخفقوا بسبب افتقارهما إلى الخيال فحَسْب. ويتمثَّل هذا الجمود الذهني على أنحاء شتى؛ من أبرزها العمارة الضخمة في عصور الإمبراطورية. فمن الممكن أن نرمز للفرق بين الروح اليونانية والروح الرومانية عن طريق تأمل معبد يوناني في مقابل كنيسة رومانية، وسنجد عندئذٍ أن التراث العقلي اليوناني قد تحول على أيدي الرومان إلى شيءٍ أقلَّ رقةً ورشاقةً بكثير.
لقد كان التراث الفلسفيُّ اليوناني في أساسه حركةَ تنوير وتحرر؛ ذلك لأنه يستهدف تحرير العقل من نير الجهل، والتخلصَ من الخوف من المجهول عن طريق تصوير العالم على أنه قابل لأن يُعرَف بالعقل. وكانت أداة هذا التراث هي اللوجوس (العقل أو الكلمة)، وهدفه هو السعي إلى المعرفة في إطار مثال الخير. ولقد نظروا إلى البحث المنزَّه على أنه غير أخلاقي، يوصل الناس إلى الحياة الصالحة بدلًا من أن يصلوا إليها عن طريق الأسرار الدينية. وإلى جانب تراث البحث العقلي، نجد نوعًا من النظرة المتفائلة التي تخلو من المشاعر الزائفة؛ ففي رأي سقراط أن الحياة التي لا تخضع للنقد لا تستحق أن تُعاش، وفي رأي أرسطو أن المهم ليس أن يعيش الإنسان طويلًا، بل أن يعيش جيدًا. ومن الصحيح أن جانبًا من هذه النضارة قد فُقِد في العصور الهلينستية والرومانية، عندما توطدَت أقدام مذهبٍ رواقي كان وعيه بذاته أقوى. ولكن يظل من الصحيح أيضًا أن أفضل ما في التكوين العقلي للحضارة الغربية يرجع إلى تراث المفكرين اليونانيين.