المسيحية المبكرة
كانت الفلسفة في العصر اليوناني الروماني — كما هي اليوم — مستقلة في الأساس عن الدين. صحيح أن الفلاسفة يمكنهم أن يطرحوا أسئلة يمكن أن تكون لها في الوقت ذاته أهمية بالنسبة إلى من تعنيهم المسائل الدينية. غير أن المنظمات الكهنوتية لم يكن لها تأثير أو سلطة على مُفكِّري تلك العصور، ومن هنا فإن الفترة الواقعة بين سقوط روما ونهاية العصور الوسطى تختلف في هذه الناحية عن العهد السابق والعهد اللاحق لها، فقد أصبحت الفلسفة في الغرب نشاطًا يزدهر تحت رعاية الكنيسة، وفي ظل توجيهاتها، ولهذه الظاهرة أسباب عدة؛ ذلك لأنه عند انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، كانت مهام الأباطرة الآلهة عند الرومان قد توزعت بين سُلطتَين.
فمنذ أن أصبحت المسيحية عقيدة الدولة في عهد قسطنطين، استحوذت الكنيسة على جميع المسائل المتعلقة بالله والعقيدة، تاركةً للإمبراطور الاهتمام بالشئون الدنيوية، وظلت سلطة الكنيسة قائمة لا ينازعها من حيث المبدأُ شيء، وإن كانت قد أخذت تتناقص بالتدريج، حتى قضت حركة الإصلاح الديني على سيطرتها عندما أكدت أن علاقات الإنسان بالله ذات طابع شخصي، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنائس أدواتٍ في يد الدول القومية الناشئة.
ولكن لم يكن أي من أنواع التراث هذه ممثَّلًا بفلسفة اجتماعية متماسكة، فكان ذلك من أهم الأسباب التي جعلته عاجزًا عن تحدي سلطة الكنيسة بنجاح، ولكن منذ النهضة الإيطالية التي بدأت منذ القرن الرابع عشر، أخذ التراث الروماني يُعيد تأكيد ذاته بالتدريج، كما أن التراث الروماني انطلق مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، أما خلال العصور الوسطى فقد ظلت الفلسفة وثيقة الصلة بالكنيسة.
ولقد برزت في هذه الفترة ثنائيات أخرى كثيرة كانت موجودة في حالة كُمون، إلى جانب الاستعاضة عن الإمبراطور الإله بسُلطتَيِ البابا بوصفه ممثلًا لله من جهة، والإمبراطور من جهةٍ أخرى.
هذا، باختصار شديد، هو العالم الذي تطور فيه ما يمكن أن يُطلَق عليه إيجازًا اسم الفلسفة الكاثوليكية، وقد وصلت هذه الفلسفة إلى أول مراحل نضوجها على يد القديس أوغسطين، الذي تأثر بأفلاطون أساسًا، وبلغت قمتها على يد القديس توما الأكويني، الذي أرسى الكنيسة على أسس أرسطية ظل كبار أنصارها يُدافعون عنها منذ ذلك الحين، ونظرًا إلى أن هذه الفلسفة ترتبط بالكنيسة أوثق الارتباط، فإن أي عرض لتطورها وتأثيرها في العصور اللاحقة لا بد أن يتضمن قدرًا من السرد التاريخي قد يبدو لأول وهلة زائدًا عن الحد، ولكنه في الواقع ضروري لفهم روح ذلك العصر وفلسفته.
إن المسيحية التي أصبحت لها السيطرة في الغرب، منبثقة من عقيدة اليهود، مع بعض العناصر اليونانية والشرقية؛ فالمسيحية تشترك مع اليهودية في الرأي القائل إن الله يصطفي أناسًا مُعيَّنين، وإن كان نوع الناس المختارين يختلف بالطبع في الحالتَين.
ولكي نفهم كيف تطورت هذه المعتقدات، ينبغي أن نتذكر أن «يَهْوه»، إلهَ اليهود، كان في البداية إلهًا لقبيلة سامية قبل كل شيء، وكان يتولى حماية شعبة الخاص، بينما توجد إلى جانبه آلهة ترعى شئون القبائل الأخرى. ولما يكن يوجد في ذلك الحين أي تلميح إلى عالَمٍ آخر، فربُّ إسرائيل يُدير الشئون الدنيوية لقبيلته، وهو إله غيور لا يقبل أن يرى لدى قومه آلهة غيره. أما الأنبياء القدامى فكانوا زعماء سياسيين قضَوا وقتًا طويلًا في القضاء على عبادة الآلهة الآخرين، اتقاءً لغضب «يهوه» وتحريض تماسك اليهود الاجتماعي للخطر. هذا الطابع القومي والقبَلي للعقيدة اليهودية أذْكَته مجموعة من الكوارث التي حلت بهؤلاء القوم؛ ففي ٧٢٢ق.م. سقطت إسرائيل المملكة الشمالية في أيدي الآشوريين الذين رحلوا معظم سكانها، وفي ٦٠٦ق.م. استولى البابليون على نينوى ودمروا الإمبراطورية الآشورية، أما مملكة «جودا» الجنوبية فقد غزاها نبوخذ نصر ملك بابل، الذي استولى على أورشليم في عام ٥٨٦ق.م، وحرق المعبد وأخذ أعدادًا كبيرة من اليهود أسرى إلى بابل.
ولم يسمح لليهود بالعودة إلى أرض فلسطين إلا بعد السنة التي تمكَّن فيها قورش ملك فارس من الاستيلاء على بابل في عام ٥٣٨، والواقع أن العقيدة الجامدة والطابع القومي للدين اليهودي قد اتخذا طابعًا متصلبًا خلال فترة الأسر في بابل، ولما كان المعبد قد دُمِّر، فقد اضطُرَّ اليهود إلى الاستغناء عنه بطقوس للتضحية، وإلى هذه الفترة يعود جزء كبير من الشعائر التقليدية لعقيدتهم كما ظلت إلى اليوم.
ولقد كان نجاح مقاومة المكابيين هو أهمَّ العوامل التي ضمنت بقاء العقيدة اليهودية في الوقت الذي أخذ فيه اليهود المشتتون يصطبغون بسرعة بالصبغة الهلينية، وهيأ بذلك الشروط التي ما كان من الممكن بدونها أن تظهر العقائد التالية، وكان هذا أيضًا هو الوقت الذي ظهرت فيه عقيدة العالم الآخر في الديانة اليهودية؛ لأن أحداث الثورة أظهرت أن الكوارث، لا هذه الحياة الدنيا، كثيرًا ما تحل بأفضل الناس، وخلال القرن الأول ق.م. أدى التأثير الهلينستي إلى تطوير حركة أخرى، إلى جانب العقيدة الرسمية، كانت أكثر اعتدالًا، وكانت تعاليمها تُمهِّد الطريق لعملية المراجعة الأخلاقية التي قام بها يسوع في الأناجيل، فحقيقة الأمر هي أن المسيحية الأولى كانت يهودية إصلاحية أو معدلة، تمامًا كما كانت البروتستانتية في البداية حركةَ إصلاح داخل الكنيسة.
ومن هذا الحادث أتى الشتات الثاني والأخير لليهود، وأصبحَت العقيدة الرسمية أكثر تشددًا، كما حدث وقت الأسر في بابل، وبعد القرن الأول الميلادي أصبحت اليهودية والمسيحية تُواجه كلٌّ منهما الأخرى بوصفهما عقيدتَين متميزتَين ومتعارضتَين؛ ففي الغرب أثارت المسيحية شعورًا قويًّا بالعداء للسامية، بحيث أصبح اليهود منذ ذلك الحين يعيشون على هامش المجتمع، مضطهَدين ومستغَلين، حتى وقت تحريرهما في القرن التاسع عشر. وكان المكان الوحيد الذي ازدهروا فيه هو البلاد الإسلامية، وخاصةً في أسبانيا. وعندما أُخرِج العرب من أسبانيا أخيرًا كانت جهود المفكرين اليهود الذين يُتقِنون عدة لغات، والذين عاشوا في أسبانيا العربية، قد أسهمت في نقل التراث الكلاسيكي، وكذلك علم العرب، إلى المثقفين في الغرب.
وينبغي أن نلاحظ أن الجماعات اليهودية المنشقة التي تكونت منها المسيحية البدائية، لم تكن تنوي في البداية أن تجعل العقيدة الجديدة تنتشر بين الجماعات غير المسيحية؛ فقد كان هؤلاء المسيحيون الأوائل محافظين، بحكم عزلتهم، على التقاليد القديمة، ولم تحاول اليهودية أبدًا أن تنشر دعوتها بين الغرباء، ولا هي قادرة على أن تجذب أتباعًا في الوقت الراهن، حتى بعد أن اتخذت صورة معدلة، ما دامت تُطبِّق الختان والتحريمات في الطعام. وهكذا كان من الممكن أن تظل المسيحية طائفة يهودية منشقة، لولا أن أحد أتباعها أخذ على عاتقه أن يُوسِّع نطاق الإنماء إليها؛ فقد عمل بولس الطرسوسي، الذي كان يهوديًّا ومسيحيًّا ذا ثقافة هلينية، على إزاحة هذه العقبات الخارجية، وبذلك جعل المسيحية مقبولة على أوسع نطاق.
ومع ذلك فإن مواطني الإمبراطورية الرومانية المتأثرين بالثقافة الهلينية لا يكفيهما أن يُقال عن المسيح إنه ابن إله اليهود. وهكذا عملت الغنوصية، وهي حركة تلفيقية ظهرت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية، على تجنُّب هذا العيب؛ ففي رأي الغنوصية أن العالم المادي المحسوس خلقه «يهوه» الذي كان في الواقع إلهًا ثانويًّا، هبط عن مكانه مع الإله الأعلى، وبدأ بعد ذلك يُمارس الشر. وأخيرًا جاء ابن الإله الأعلى ليعيش بين البشر على هيئة إنسان فانٍ؛ حتى يُفنِّد التعاليم الزائفة للعهد القديم.
من هذه العناصر، مصحوبةً ببعض الآراء الأفلاطونية، كانت تتألف الغنوصية؛ فهي تجمع عناصرَ من الأساطير اليونانية وتصوف الأورفية مع التعاليم المسيحية وغيرها من المؤثرات الشرقية، وتضم هذا كله في إطار في المزيج الفلسفي التلفيقي، يشمل عادة أفلاطون والرواقية، أما المانوية، التي تفرعت فيما بعد عن الغنوصية، فقد ذهبت إلى حد القول إن التمييز بين الروح والمادة يُساوي التضادَّ بين الخير والشر. وهكذا ذهبوا في احتقارهم للأشياء المادية أبعدَ من كل ما تجاسر عليه الرواقيون. وقد نهَوا عن أكل اللحم، وأعلنوا أن الجنس بكافة أشكاله أو صوره عمل آثمٌ كل الإثم، ومن حق المرء أن يستدل، من استمرار هذه الدعوة طوال بضعة قرون، على أن هذه المذاهب الزاهدة لم تكن تُمارَس بنجاحٍ تام.
وإذ أصبحت المسيحية أشد رسوخًا، ازداد عداؤها لعقيدة العهد القديم ضراوة؛ فقد ذهبت إلى أن اليهود لم يعترفوا بالمسيح الذي بشَّر به قدامى الأنبياء، ومن ثَم فلا بد أن تكون شرًّا. ومن عهد قسطنطين فصاعدًا أصبح العداء للسامية شكلًا له احترامه من أشكال التقوى المسيحية، وإن لم يكن الدافع الديني هو الوحيدَ في واقع الأمر. وإنه لمن الغريب حقًّا أن نجد المسيحية، التي كانت قد عانت هي ذاتها من اضطهاد مخيف، تنقلب بنفس الضراوة بمجرد إمساكها بزمام الأمور على أقلية لا تقل عنها تمسكًا بمعتقداتها.
هنا نرى لأول مرة ذلك النوع من الحجج الدفاعية التي تؤكد أن الكتاب المقدس مُوحًى به من الله، ومن بين الحجج التي يُقدِّمها، القول بأن الإيمان صحيح نظرًا إلى تأثيره المفيد اجتماعيًّا على المؤمنين، وهو رأي برجماتي قال به مفكر قريب العهد هو وليم جيمس. ولكن من السهل أن نرى أن هذه الحجة سلاح ذو حدَّين؛ ذلك لأن كل شيء يتوقف على ما تراه مفيدًا. فالماركسيون الذين لا يؤمنون بالمسيحية من حيث هي مؤسسة، يعتبرون الدين أفيونًا للشعوب، ومن ثَم يكون لهم كلُّ الحق في أن يفعلوا لأسباب برجماتية كلَّ ما في وسعهم من أجل معارضتها.
ولقد كان ثالث هؤلاء الثلاثة فقط (أي أوغسطين) فيلسوفًا، أما أمبروز، وهو مدافع غيرُ هيَّاب عن سلطة الكنيسة، فقد وضع أسس العلاقة بين الكنيسة والدولة كما ظلت سائدة طوال القرون الوسطى. وأما جيروم فكان أولَ من وضع ترجمة لاتينية للكتاب المقدس. وقد كانت لأوغسطين تأملات في اللاهوت والميتافيزيقا.
وإليه أساسًا يرجع الإطار اللاهوتي للكاثوليكية حتى عصر الإصلاح الديني، وكذلك المبادئ الرئيسية للمعتقدات الإصلاحية. وقد كان لوثر نفسه راهبًا أوغسطينيًّا.
ولكنه، لسببٍ غير معروف، تخلى عن الحياة الدنيوية في هذه المرحلة، وإن لم يتخلَّ عن نشاطه السياسي، وانتُخِب أسقفًّا لميلانو، التي كانت عندئذٍ عاصمة الإمبراطورية الغربية. وقد مارس أمبروز من خلال منصبه الكنسيِّ تأثيرًا سياسيًّا واسع المدى عن طريق إصراره الجريء، الذي اتسم بالصلابة وعدم المهادنة، على السيادة الروحية للكنيسة.
لقد كان الخلاف بين أمبروز وجوستينا راجعًا إلى اعتناقها للمذهب الأرياني، ومطالبتها بأن يُخصَّص مكان للعبادة في ميلانو من أجل الفرق القوطية التي كانت تابعةً لهذا المذهب، غير أن الأسقف لم يقبل ذلك، وانحاز الناس إليه في موقفه هذا. وعندما أرسَل جنود قوطيون للاستيلاء على الكنيسة، اندمجوا مع الشعب، ورفضوا استخدام القوة. والواقع أنه كان من أوضح علائم الشجاعة عند أمبروز عدم استسلامه في مواجهة مرتزقة مسلَّحين من البرابرة، واضطرَّه إصراره إلى الاستسلام مما أعطى أمبروز نصرًا معنويًّا هائلًا في كفاحه من أجل استقلال الكنيسة.
غير أن أعمال الأسقف لم تكن كلها جديرة بالثناء كهذا العمل.
ففي خلال حكم ثيودوسيوس، عارض الإمبراطور الذي كان قد أمر أسقفًّا محليًّا بأن يدفع تعويضًا مقابل تحريضه على حرق كنيس يهودي، وكان الإمبراطور حريصًا على ألا يُشجِّع هذا النوع من الإرهاب، ولكن أمبروز ذهب إلى أنه ليس من الواجب بأي حالٍ أن يَعُد أي مسيحي مسئولًا عن تعويض مثل هذا الضرر، وهو مبدأ خطير أدى إلى قدر كبير من الاضطهاد في العصور الوسطى.
ولقد أصبح لجيروم، بفضل أسلوب حياته، تأثير قوي في تشجيع حركة الرهبنة التي كانت تزداد قوة في ذلك الوقت. فقامت مجموعة المريدين الرومان الذين اصطحبوه إلى بيت لحم بتأسيس أربعة أديرة هناك. وقد كتب، مثل أمبروز، عددًا كبيرًا من الرسائل، كان الكثير منها موجهًا إلى فتيات، يحثُّهن فيها على التزام طريق العفة والفضيلة. وعندما نهب الغزاة القوط روما في عام ٤١٠م، كان موقفه على ما يبدو استسلاميًّا، وظل مشغولًا بامتداح قيمة العذرية أكثر من البحث عن وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية.
ويُقدِّم إلينا أوغسطين في كتابه «الاعترافات» وصفًا شيقًا لصراعه مع الخطيئة، وقد ظلت حادثة وقعت له في حداثته راسخةً في ذهنه طوال حياته، على الرغم من تفاهتها، فقد سرق ذات مرة شجرة كُمَّثرى من حديقة أحد الجيران، وذلك بدافع السلب المتعمد، وعمل انشغاله المرَضيُّ بالخطيئة على تضخيم هذا الخطأ إلى حد أنه لم يستطع أبدًا أن يغتفره لنفسه. ويبدو أن العبث بأشجار الفاكهة هو في كل العصور عملية لا تخلو من مخاطر، وعلى حين أن حالة الإثم والخطيئة كانت في العهد القديم تُعَد عيبًا يتسم به شعبٌ بأسره، فقد تحولت بالتدريج في نظر الناس إلى نقيصة في الفرد ذاته، وكان هذا التحول أساسيًّا بالنسبة إلى المسيحية؛ لأن الكنيسة بوصفها مؤسَّسةً لا يمكن أن تُخطِئ، وإنما المسيحيون الأفراد هم الذين يمكن أن يرتكبوا خطايا. والواقع أن أوغسطين قد استبق البروتستانتية بتأكيده لذلك الجانب الفردي، أما الكاثوليكية فكانت تنظر إلى وظيفة الكنيسة على أنها هي الشيء الأساسي. ولقد كان أوغسطين يرى أن للجانبَين معًا أهميتهما؛ فالإنسان من حيث هو في جوهره عاصٍ آثم، يُحقِّق الخلاص بتوسط الكنيسة. غير أن أداء الشعائر الدينية، بل والتزام الحياة الفاضلة لا يكفيان لضمان الخلاص.
ذلك لأنه لما كان الله خيرًا، والإنسان شريرًا، فإن منح الخلاص فضل إلهي، على حين أن منعه ليس بالشيء الذي يستحق اللوم، وهنا نجد نظرية قدرية أخذتها اللاهوتية الإصلاحية المتزمتة فيما بعد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن رأيه القائل إن الشر ليس مبدأً أساسيًّا، كما اعتقد المانويون، وإنما هو نتيجة إرادة شريرة، كان فكرة قيمة أخذت بها العقائد الإصلاحية فيما بعد، وهي أساس مفهوم المسئولية في البروتستانتية.
كانت اهتمامات أوغسطين لاهوتية في الأساس، وحتى في الحالات التي كان فيها يهتم بالمسائل الفلسفية، كان هدفه الأكبر هو التوفيق بين تعاليم الكتاب المقدس والتراث الفلسفي للمدرسة الأفلاطونية، وقد استبق في ذلك تراث اللاهوتيين المدافعين عن العقيدة بالحجة العقلية. ومع ذلك فإن تأملاته الفلسفية لها أهميتها في ذاتها، وهي تكشف عن وجود قدر من التعمق في تفكيره.
وهذه المادة الفلسفية توجد في الكتاب الحادي عشر من الاعترافات، ولما كان مختلفًا عن أسلوب الثرثرة الذي اعتاده الناس، فإنه يُحذَف عادة في الطبعات الشعبية.
والزمان في رأي أوغسطين هو حاضر ذو ثلاثة أوجه؛ فالحاضر الفعلي هو الشيء الحقيقي الوحيد، أما الماضي فيحيا بوصفه ذاكرة في الحاضر، والمستقبل يحيا بوصفه توقُّعًا في الحاضر. ولا تخلو هذه النظرية من عيوب، غير أن أهميتها تكمن في تأكيدها الطابع الذاتي للزمان بوصفه جزءًا من التجرِبة الذهنية للإنسان، الذي هو كائن مخلوق. لذلك فلا معنى، تبعًا لهذا الرأي، من التساؤل عما جاء قبل الخلق. وفي وسعنا أن نجد تفسيرًا ذاتيًّا مماثلًا للزمان عند «كانت»، الذي جعله صورة من الصور الذهنية. وقد أدت هذه النظرة الذاتية بأوغسطين إلى استباق رأي ديكارت القائل: إن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يَشُك فيه المرء هو أنه يُفكِّر. إن الذاتية في نهاية المطاف نظرية لا تصمد أمام الاختبار المنطقي، ومع ذلك فقد كان أوغسطين واحدًا من أقدر الفلاسفة الذين عرضوها. كان عصر أوغسطين يتميز بأنه العصر الذي سقطت فيه الإمبراطورية الغربية.
وربما رأى المسيحيون في ذلك عقابًا يُكفِّر عن خطاياهم، أما بالنسبة إلى العقل الوثني فقد كانت المسألة مختلفة؛ إذ إن الناس تخلَّوا عن الآلهة القدامى، فعاملهم جوبيتر بما يستحقون، وحرمهم من حمايته؛ لذا كتب أوغسطين كتابه «مدينة الله» لكي يرد على هذه الحجة من وجهة نظر مسيحية، وتحوَّل هذا الكتاب خلال تأليفه إلى نظرية مسيحية كاملة في التاريخ. وعلى الرغم من أن الكثير مما يتضمنه هذا الكتاب لم تعد له الآن إلا قيمة تاريخية، فإن القضية التي دار حولها، وهي استقلال الكنيسة عن الدولة، كانت لها أهمية كبرى في العصور الوسطى، وما زالت لها أهميتها في بعض الأماكن حتى الآن. والواقع أن الرأي القائل إن الدولة ينبغي أن تُطيع الكنيسة؛ لكي تصل إلى الخلاص، مبنيٌّ على نموذج الدولة اليهودية في العهد القديم.
كان بويتيوس حتى في عصره مشهورًا بالحكمة والعلم، وإليه يرجع الفضل في تقديم أُولى الترجمات اللاتينية لمؤلَّفات أرسطو المنطقية، كما كتب شروحًا ومؤلفاتٍ خاصةً به على المنطق الأرسطي. وظلت دراساته في الموسيقى والحساب والهندسة تُعَد لفترة طويلة مراجعَ أساسية في مدارس الفنون والآداب في العصور الوسطى، ولكن لسوء الحظ أنَّ خططه من أجل القيام بترجمة كاملة لأفلاطون وأرسطو لم تتحقق.
ومع ذلك، فإن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة هو أن العصور الوسطى لم تكن تُقدِّره بوصفه باحثًا عظيمًا في الفلسفة الكلاسيكية، بل كانت تُكِنُّ له تقديرًا كبيرًا بوصفه مسيحيًّا. صحيح أنه نشر بعض الدراسات في المسائل اللاهوتية، كان يُعتقَد أنه هو كاتبها، وإن لم يكن من المرجح أن تكون نسبتها إليه صحيحة، غير أن موقفه كما عرضه في كتاب «عزاء الفلسفة» أفلاطوني. وبطبيعة الحال فإن الاحتمال كبير في أنه كان بالفعل مسيحيًّا، كما كان معظم الناس في ذلك الحين، ولكن إذا صح هذا فإن مسيحيته — إذا حكمنا عليها في ضوء فكره — لم تكن إلا اسمية؛ ذلك لأن تأثير فلسفة أفلاطون عليه كان أقوى بكثير من تأثير التأملات اللاهوتية لآباء الكنيسة. ومع ذلك فربما كان من حسن الحظ أنه اعتُبِر متدينًا لا شبهة على إيمانه؛ لأن هذا هو الذي جعل رجال الدين في القرون التالية يستوعبون قدرًا كبيرًا من المذهب الأفلاطوني في وقتٍ كانت فيه أدنى شبهة من الهرطقة كفيلةً بأن تَطويَ مؤلفاته في زوايا النسيان.
وعلى أية حال، فإن كتاب «عزاء الفلسفة» خالٍ من اللاهوت المسيحي، وهو يتألف من أقسام يتناوب فيها الشعر والنثر؛ إذ يتحدث بويتيوس نفسه نثرًا، بينما ترد عليه الفلسفة، بلسان امرأة، شِعرًا. ويختلف الكتاب في مذهبه وفي نظرته العامة اختلافًا كبيرًا عن الاهتمامات التي كانت تَشغَل رجال الكنيسة في ذلك الحين؛ فهو يُستهَلُّ بفِقرة تُعيد تأكيد أولوية الفلاسفة الأثينيين الثلاثة الكبار.
وقد التزم بويتيوس في حياته الفاضلة تقاليدَ الفيثاغوريين.
إن أعمال بويتيوس تُثير في إطارها التاريخي مشكلة قديمة العهد، هي مدى التزام الإنسان بأن يكون نِتاجًا لعصره؛ فقد عاش بويتيوس في عالم مُعادٍ للبحث المنطقي النزيه، وفي عصرٍ تفشت فيه الخرافات وأعماه التعصب القاتل. ومع ذلك لا يبدو أن شيئًا من هذه المؤثرات الخارجية يظهر في أعماله، كما أن مشكلاته ليست بأي حالٍ تلك التي تُميِّز عصره على وجه التخصيص. وبالطبع فمن الصحيح أن الأوساط الأرستقراطية في روما كانت أقلَّ تعرضًا للخضوع للأذواق المتقلبة والأمزجة المتغيرة من يومٍ لآخر؛ ففي هذه الأوساط وحدها ظلَّت بعضُ الفضائل القديمة باقيةً بعد وقتٍ طويل من زوال الإمبراطورية، وربما كان هذا تعليلًا جزئيًّا للروح الرواقية التي تسري في فكر بويتيوس الأخلاقي. غير أن هذه الحقيقة ذاتها — أعني استمرار وجود مجموعة كهذه على الرغم من الغارات البربرية من الخارج والتعصب الأعمى في الداخل — تحتاج بدورها إلى تفسير.
وفي اعتقادي أن التفسير المنشود مزدوج؛ فصحيحٌ أن الناس نِتاجُ تراثهم؛ فهم يتشكَّلون أولًا بالبيئة التي ينشَئون فيها، وفيما بعد يجد أسلوب حياتهم دعمًا من ذلك التراث الذي يدين له بالولاء، إما عن وعي كامل، أو عن طاعةٍ عمياء. غير أن هذا التراث — من جهةٍ أخرى — ليس خاضعًا لتقلبات الزمان على هذا النحو، وإنما هو يكتسب حياة خاصة به، ويظل باقيًا لفتراتٍ طويلة، مختفيًا وراء السطح، حتى يظهر مرةً أخرى إلى النور عندما يكتسب دعمًا متجددًا. ولقد ظل تراث العصور الكلاسيكية باقيًا على نحوٍ ما في الظروف الصعبة للغزوات البربرية، وعلى هذا النحو أمكن ظهورُ شخص مثل بويتيوس. ومع ذلك فلا بد أنه كان على وعي بالفجوة التي كانت تَفصِله عن مُعاصريه. فالدفاع عن تراثٍ ما يحتاج إلى قدرٍ من الشجاعة يتناسب مع قوة هذا التراث، ومن المؤكد أن بويتيوس كان في حاجةٍ إلى كل ما كان يستطيع أن يستجمعه من الشجاعة.
وفي إمكاننا الآن أن نُجيب عن سؤالٍ آخر مرتبط بالسابق، فهل من الضروري دراسةُ تاريخ الفلسفة من أجل فهم مسألةٍ فلسفية؟ وهل نحن في حاجةٍ إلى الإلمام بتاريخ فترةٍ معينة كيما نفهم فلسفتها؟ من الواضح تبعًا للرأي الذي عرَضْناه من قبل أن هناك قدرًا من التأثير المتبادل بين التراث الاجتماعي والتراث الفلسفي؛ فالتراث الذي تسوده الخرافة لا يُنتِج مُفكِّرين مُتحرِّرين من الخرافة.
والتراث الذي يعزو إلى العفة قيمةً أكبر من النشاط البنَّاء لا يُفرِز تدابيرَ سياسية إيجابية لمواجهة تحديات العصر. ومن جهةٍ أخرى فإن المسألة الفلسفة يمكن أن تُفهَم بالفعل دون خلفية كاملة من المعرفة التاريخية. وقيمة دراسة تاريخ الفلسفة تكمن في أنه يُتيح لنا إدراك أن معظم الأسئلة قد طُرِحت من قبل، وأن بعض الإجابات الذكية عنها قد قُدِّمَت في الماضي.
أما في إيطاليا فإن الغزاة القوط لم يُدمِّروا النسيج الاجتماعي تدميرًا أعمى؛ ذلك لأن تيودوريك، الذي حكم حتى موته في عام ٥٢٦م، احتفظ بالإدارة المدنية القديمة. ويبدو أنه كان معتدلًا في المسائل الدينية. وقد كان هو ذاته يؤمن بالمذهب الأرياني، ويبدو أنه تسامح مع العناصر غير المسيحية التي ظلت باقية، وخاصة بين العائلات العريقة في روما. فقد كان بويتيوس المنتمي إلى الأفلاطونية المحدثة وزيرًا لتيودوريك. أما الإمبراطور جستين الأول فكان أضيقَ أفقًا؛ ولذا أصدر في عام ٥٢٣م أمرًا ينص على أن الهراطقة الأريانيين خارجون عن القانون، وهي خطوة أحرجت تيودوريك؛ لأن أراضيَه الإيطالية كانت كاثوليكية متمسكة، على حين أن قوته الخاصة لم تكن كافية للصمود في وجه الإمبراطور. ونظرًا إلى أنه كان يخشى وقوع مؤامرة بين أنصاره أنفسهم، فقد أمر بسجن بويتيوس وإعدامه في عام ٥٢٤م. ومات تيودوريك عام ٥٢٦م، ثم جستين في العام التالي، وخلَفه جستينيان الأول.
ولقد كانت تيودورا زوجة الإمبراطور الشهيرة تُشارِكه اهتماماته الدينية، وكانت سيدة لها ماضٍ عابث، كما أنها كانت من الأنصار المتحمسين لفكرة الطبيعة الواحدة للمسيح. ومن أجلها خاض جستينيان المعركة المعروفة باسم «معركة القسُس الثلاثة».
ففي قلقدون أعلن انتماء ثلاثة آباء للكنيسة لهم ميول نسطورية إلى العقيدة الرسمية، وكان في ذلك إهانة صارخة لآراء القائلين بالطبيعة الواحدة. فأمر جستينيان بإعلان هرطقة الرجال الثلاثة، مما أثار مناقشات طويلة في الكنيسة. وفي نهاية الأمر وقع هو ذاته في الهرطقة؛ إذ أخذ بالرأي القائل إن جسد المسيح لا يفنى، وهو رأي يُمثِّل نتيجةً من نتائج مذهب الطبيعة الواحدة.
وقد بذلت في عهد جستينيان محاولة أخيرة لاسترداد المقاطعات الغربية من مغتصِبيها البرابرة. فهوجمت إيطاليا عام ٥٣٥م، وظلت الحرب تُمزِّقها قرابة ثمانية عشر عامًا. كذلك أُعيدَ فتح شمال أفريقيا، ولكن الحكم البيزنطي أثبت أنه نعمة غير مضمونة. وعلى أية حال، فإن قُوًى بيزنطة لم تكن أهلًا لمهمة استعادة الإمبراطورية كلها، على الرغم من أن الكنيسة كانت في صف الإمبراطور. وتُوفِّي جستينيان عام ٥٦٥م، وبعد ثلاث سنوات تعرَّضَت أيدي لهجوم جديد من البرابرة. وتمكن الغزاة اللومبارديون من احتلال المناطق الشمالية بصفة دائمة، وأصبحت هذه المناطق تُعرَف باسم لومبارديا. وظل اللومبارديون لمدة قرنَين يكافحون البيزنطيين، الذين انسحبوا في نهاية الأمر بعد أن تعرَّضوا لضغط العرب من الجنوب. وسقطت رافينا آخر معقل بيزنطي في أيدي، في أوائل اللومبارديين عام ٧٥١م.
إن ظهور شخصية مثل بويتيوس خلال الفترة التي نتحدث عنها كان ظاهرة استثنائية تمامًا؛ إذ لم يكن مزاج العصر فلسفيًّا. ومع ذلك ينبغي أن نذكر تطورَين أصبحت لهما نتائجُ هامة بالنسبة إلى فلسفة العصور الوسطى؛ أولهما: هو نموُّ حركة الرهبنة في الغرب، والثاني: زيادة قوة البابوية وسلطتها. ويرتبط هذان التطوران باسْمَي بندكت وجريجوري على التوالي.
وكانت السلطة والقوة تُترَك لكبير الرهبان، الذي كان يُعيَّن مدى الحياة. وفي العهود اللاحقة أصبحت للطرق البندكية تقاليدُها الخاصة التي كانت تتباين إلى حدٍّ ما مع مقاصد مؤسسها. وقد جمعت مكتبة كبيرة في مونتي كاسينو، وبذل العلماء البندكتيون جهودًا كبيرة في سبيل المحافظة على ما تبقى من تراث العلم الكلاسيكي.
وظل بندكت في مونتي كاسينو حتى وفاته عام ٥٤٣م، وبعد حوالي أربعين عامًا نهب اللومبارديون الدير، وفرَّت الطائفة إلى روما. وقد واجه مونتي كاسينو الدمار مرتَين خلال تاريخه الطويل؛ كانت الأولى خلال الفتح العربي في القرن التاسع، والثانية في الحرب العالمية الثانية، ولكن من حسن الحظ أن مكتبته قد أُنقِذَت، وقد أُعيدَ بناء الدير الآن من جديد.
وقد سجل جريجوري في كتاب المحاورات الثاني بعض تفاصيل حياة بندكت، كان معظمها رواياتٍ عن خوارقَ ومعجزات، تُلقي بعض الضوء على الحالة الذهنية العامة للمتعلمين في ذلك الحين.
ولا بد أن نذكر أن القراءة كانت قد هبطت في ذلك الحين إلى مستوى الصنعة التي تُتقِنها أقليةٌ ضئيلة جدًّا، أي إن هذه الكتابات لم تكن موجَّهة إلى مجموعة من الأمِّيين الجهلاء، كما هي الحال في قصص سوبرمان وتفاهات الخيال العلمي الشائعة في أيامنا هذه. والمهم في الأمر أن هذه المحاورات تُؤلِّف مصدر معلوماتنا الرئيسي عن بندكت. ويُعَد مؤلِّفها جريجوري الأكبر رابعَ علماء الكنيسة الغربية، وقد وُلِد عام ٥٤٠م، وكان منتميًا إلى أسرة من النبلاء الرومان. ونشأ في بيئة من الترف والبذخ، وتلقى نوع التعليم اللائق بمركزه الاجتماعي، وإن لم يتعلم اليونانية، وهو قصور لم يستطع أبدًا أن يُعوِّضه على الرغم من إقامته لمدة ست سنوات في البلاط الإمبراطوري في سنوات لاحقة. وفي عام ٥٧٣م اشتغل عمدة للمدينة. ولكن يبدو أنه بعد فترة وجيزة شعر بأن هناك رسالةً ينبغي أن يُكرِّس لها حياته، فاستقال من منصبه وتخلى عن ثرواته لكي يصبح راهبًا بندكتيا. وقد أدَّت الحياة القاسية المتقشِّفة التي أعقبت هذا التحوُّل المفاجئ إلى إلحاق ضرر دائم بصحته. ومع ذلك لم يُقدَّر له أن يحيا حياة التأمل التي كان يحنُّ إليها، إذ لم ينسَ البابا بلاجيوس الثاني مواهبه السياسية، فاختاره سفيرًا له لدى البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية، التي كان الغرب لا يزال يدين لها بولاءٍ نسبي. ومنذ عام ٥٨٥م ظل جريجوري في البلاط، ولكنه أخفق في مهمته الرئيسية، وهي حث الإمبراطور على أن يشنَّ حربًا ضد اللومبارديين؛ إذ كانت فرصة التدخل العسكري قد ضاعت، وكانت آخر محاولة من هذا القبيل في عهد جستينيان قد أدت إلى نجاحٍ مؤقَّت، ولكنها لم تُسفِر عن شيء في النهاية. وعندما عاد جريجوري إلى روما قضى خمس سنوات في الدير الذي كان قد أنشئ في قصره السابق. وعندما تُوفِّي البابا عام ٥٩٠م اختِيرَ جريجوري خليفةً له، على الرغم من أنه كان يُفضِّل كثيرًا أن يظل راهبًا.
ولقد احتاج الأمر إلى كلِّ ما يملكه جريجوري من حنكة سياسية لكي يتعامل مع الموقف الخطير الذي تردَّت فيه البلاد بعد انهيار السلطة الرومانية الغربية؛ ذلك لأن اللومبارديين كانوا يَعيثون في إيطاليا فسادًا، وكانت أفريقيا مسرحًا للصراعات بين حكم بيزنطي ضعيف وقبائل البربر المناوئة، وكانت بلاد الغال ساحةً للحرب بين الفيزيقوط والفرنجة، أما بريطانيا فقد أصبحت إنجلترا الوثنية بعد أن أزال عنها الغزاةُ الأنجلوسكسون طابَعَها المسيحي. واستمرت الهرطقات تُثير المتاعب للكنيسة، وأدى التدهور العام للقيم إلى القضاء على نفس المبادئ المسيحية التي كان ينبغي أن تحكم أسلوبَ حياة رجال الدين؛ إذ كانت عادةُ شراءِ المناصب الكنيسة بالمال منتشرة، ولم يُصبِح من الممكن مُكافحتُها بصورةٍ فعالة طوال ما يقرب من خَمسمائة عام.
وعلى الرغم من كل جهود جريجوري الدائبة في دعم مركز الكاثوليكية الرومانية، فقد كان رجلًا ذا نظرة انتهازية إلى حدٍّ ما.
ففي السياسة كان على استعداد للتغاضي عن الشطط الذي يُبديه الأباطرة إذا كان ذلك يخدم مصالحه، أو إذا شعر بأن المعارضة قد تُعرِّضه للخطر. وهكذا فإنه إذا ما قُورِن برجل مثل أمبروز، يبدو انتهازيًّا ماكرًا. ولقد بذل الكثير من أجل نشر نفوذ الطريقة البندكتية، التي أصبحت نموذجًا لمؤسَّسات الرهبنة، غير أن الكنيسة لم تُظهِر في عهده إلا احترامًا ضئيلًا للمعرفة العلمانية، ولم يكن جريجوري استثناءً من هذه القاعدة.