الحركة المدرسية
ولكي ندرك السبب الذي جعل الفلسفة ترتبط بالكنيسة إلى هذا الحد الوثيق، ينبغي أن نعرض بإيجازٍ لأهم خطوط التطور التي سارت فيها البابوية والقوى العلمانية خلال الفترة التي نبحثها ها هنا. فقد كان أهم الأسباب التي أتاحت للباباوات ضمانَ مركزهم المسيطِر في الغرب هو ذلك الفراغ السياسي الذي تركه زوال الإمبراطورية الرومانية. أما البطاركة الشرقيون، الذين كانت سلطة الإمبراطورية تحدُّ من نفوذهم، فلم يكونوا يستجيبون في أي وقت لمطالب أساقفة روما، وانتهى الأمر بالكنائس الشرقية إلى أن سلكَت طرقها الخاصة. وفضلًا عن ذلك فإن تأثير القبائل الهمجية الغازيَة في الغرب قد أدى إلى هبوط المستويات العامة للثقافة، التي كانت تسود خلال عصر الإمبراطورية في كافة أرجائها. وهكذا أصبح رجال الدين الذين حافظوا على ما تبقى من آثار العلم، جماعة مميزة تستطيع القراءة والكتابة؛ ولذلك فإن رجال الدين هم الذين أسسوا المدارس وأشرفوا عليها عندما دخلَت أوروبا بعد بضعة قرون من الصراع، مرحلةً أكثرَ استقرارًا. وظلت الفلسفة المدرسية بلا منافس حتى عصر النهضة.
لقد كانت البابوية في أوروبا الغربية تسير خلال القرنَين السابع والثامن في طريقٍ محفوف بالأخطار بين القوى السياسية المتنافسة للأباطرة البيزنطيين والملوك البرابرة. وكان الارتباط باليونان أفضلَ في بعض النواحي من الاعتماد على الغزاة؛ فقد كانت سُلطة الأباطرة على الأقل، مرتكِزةً على أسس شرعية، على حين أن حكام القبائل الغازية قد استولوا على السلطة بالقوة. وفضلًا عن ذلك فإن الإمبراطورية الشرقية حافظَت على المقاييس الحضارية التي كانت سائدة عندما كانت روما في أوج عظَمتِها، فاحتفظت على هذا النحو بقدرٍ من تلك النظرة الكلية الشاملة التي كانت تقف على طرَفَي نقيض مع القومية الضيقة الأفق السائدة لدى البرابرة. ولنُضِف إلى ذا أن القوط واللومبارديين كانوا حتى عهد قريب يدينون بمذهب الأريانية، على حين أن بيزنطة كانت متمسكة — مع تفاوت في الدرجة — بأصول العقيدة، حتى على الرغم من رفضها أن تنحنيَ أمام السلطة الكنَسيَّة لروما.
وفي غياب سلطة سياسية مركزية، أصبح لدى البابوية من القوة أكثرُ مما كان للكنيسة الشرقية في أي وقتٍ في ميدانها الخاص. وبالطبع فإن الاستيلاء على رافينا لم يكن صفقةً قانونية بأيِّ معنًى؛ ولذلك فقد عمد بعض القساوسة لكي يُضْفوا مسحة من الشرعية على هذه العملية إلى تزوير وثيقة أصبحت تُعرَف باسم «منحة قسطنطين»، يُفترَض أنها مرسوم من قسطنطين منح بموجبه إلى الحبر الأعظم جميع الأقاليم التي كانت تنتمي إلى روما الغربية. وعلى هذا النحو استقرت السلطة الزمنية للباباوات، وظلت قائمة طوال العصور الوسطى. ولم يتمَّ كشف التزوير إلا في القرن الخامس عشر.
ولقد حاول اللومبارديون مقاومة تدخُّل الفرنجة، لكن شرلمان، ابن بيبان، تمكَّن في النهاية من عبور جبال الألب في عام ٧٧٤م، وأوقع بالجيوش اللومباردية هزيمةً حاسمة، فاتخذ لنفسه لقب ملك اللومبارد، وسار نحو روما، حيث أكد المنحة التي قدَّمها أبوه في عام ٧٥٤م. وكانت البابوية ميَّالة إليه، كما أنه من جانبه قد بذل جهدًا كبيرًا من أجل نشر المسيحية في إقليم سكسونيا، وإن كان أسلوبه في تنصير الوثنيِّين قد اعتمد على قوة السيف أكثرَ مما اعتمد على الإقناع.
غير أن شرلمان كان يَستهدف ما هو أكثرُ من تأمينِ حدوده. فقد نظَر إلى نفسه على أنه الوريث الحقيقي للإمبراطورية الغربية.
وفي الوقت ذاته أصبحَت البابوية بفضل هذا الإجراء وثيقةَ الارتباط بالسُّلطة الإمبراطورية، ومن ثَم أصبح من الضروري أن يقوم البابا بالتصديق على تعيين الإمبراطور في منصبه عن طريق وضع التاج على رأسه، حتى في الحالات التي كان فيها بعضُ الأباطرة العنيدين يُعيِّنون البابا أو يعزلونه وَفْق هواهم. وهكذا ارتبطت السلطتان الروحية والزمنية ارتباطًا وثيقًا في اعتماد متبادل كان له تأثيره المصيري. وكان الخلاف محتدمًا بالطبع، وهكذا أخذ البابا والإمبراطور يتشابكان في حروبٍ لا تتوقف، تفاوَت فيها حظُّ كلٍّ منهما. وقد أُثيرَ أحد الأسباب الرئيسية للنزاع بسبب موضوع تعيين كبار رجال الكنيسة، وهو الموضوع الذي سنقول عنه المزيدَ فيما بعد.
وبحلول القرن الثالث عشر وجدَت الأطراف المتنازعة أن التوفيق بينها مستحيل، فنشب على إثر ذلك صراعٌ خرجَت منه البابوية منتصِرة، غير أنها فقدَت هذه الميزةَ التي كسبَتها بشِقِّ النفس؛ بسبب تدهور المستوى الأخلاقي للباباوات في أوائل عصر النهضة. وفي الوقت نفسه أطلق ظهورُ نظم ملَكية قومية في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا قُوًى جديدة قوَّضَت تلك الوحدة التي كانت قد حافظت عليها الزِّعامة الروحية للكنيسة، واستمرت الإمبراطورية إلى أن غزا نابليون أوروبا، أما البابوية فما زالت باقية إلى يومنا هذا، وإن كان نفوذها المسيطر قد انتهى منذ حركة الإصلاح الديني.
لقد ظل شرلمان طوالَ حياته يُقدِّم الحماية طواعيةً للباباوات، الذين حرَصوا من جانبهم على ألا يَقِفوا في وجه أهدافه، ولقد كان شرلمان ذاتُه أميًّا لا يعرف التقوى، ولكنه لم يكن ضد تعلُّم الآخرين أو تَقْواهم. وقد شجع حركةَ إحياء أدبي ورَعا العلماء، رغم أن أساليبه في الترويح عن نفسه كانت بعيدة عن هذا الطابع الثقافي. أما عن السلوك المسيحي القويم، فقد رآه مفيدًا لرعاياه، ولكن لا ينبغي السماح له بأن يُنغِّص حياة البلاط أكثر مما ينبغي.
وفي عهد خلفاء شرلمان تدهورت سلطة الإمبراطورية، ولا سيما حين عمل الأبناء الثلاثة «للويس الورع» على اقتسام أقاليمها فيما بينهم. ومن هذا التقسيم ظهر ذلك الانشقاق الذي جعل الألمانَ يقفون في وجه الفرنسيين في العصور اللاحقة. وخلال ذلك اكتسبَت البابوية من القوة بقدر ما فقدَت الإمبراطورية نتيجةً لنزاعاتها الدنيوية، وفي الوقت ذاته كان على روما أن تَفرِض سلطتها على الأساقفة الذين كانوا — كما رأينا من قبل — مُستقلِّين بدرجاتٍ متفاوتة في مناطقِ نفوذهما، وخاصةً في الحالات التي كانوا فيها بعيدين عن مقرِّ السلطة المركزية. وفيما يتعلق بموضوع التعيينات كان البابا نيكولاس الأول (٨٥٨–٨٦٧م) ناجحًا على وجه العموم في المحافظة على سلطة روما. ومع ذلك فقد ظلت هذه المسألة بأسرها مَثار نزاع، لا من السلطات الدنيوية فحسب، بل في داخل الكنيسة ذاتها. وكان في استطاعة الأسقفِّ الذكي القويِّ الإرادة أن يصمد في وجه البابا الذي يفتقر إلى هذه الصفات. ونتيجةً لذلك بدأَت السلطة البابوية تتدهور مرةً أخرى عندما مات نيكولاس.
فقد شهد القرن العاشر البابوية تخضع لتحكم الأرستقراطية المحلية في روما، وكانت المدينة قد غرقت في حالةٍ من الهمجية والفوضى نتيجةً للتخريب المستمرِّ الذي أحدثَته الصراعات بين الجيوش البيزنطية واللومباردية والفرنجية. وانتشر في جميع أرجاء الغرب أقنان مستقلون يعيثون في الأرض فسادًا، ولا يستطيع سادتهما الإقطاعيون كبح جماحهم. كما عجز الإمبراطور وملك فرنسا عن فرض أي نوع من الرقابة الفعلية على باروناتهم المتمرِّدين. وتعدى الغزاة الهنغاريون على الأرض الإيطالية في الشمال، على حين أن المغامِرين من الفايكنج أشاعوا الرعب والفوضى في جميع سواحل أوروبا وأراضيها النهرية. وخلال ذلك نال النورمنديون شريطًا من الأرض في فرنسا، واعتنقوا المسيحية في المقابل. أما التهديد العربي بالسيطرة من الجنوب، الذي ظل يتصاعد طوال القرن التاسع، فقد أمكن تجنُّبه عندما هزمت روما الشرقيةُ الغزاةَ على نهر جاريليانو بالقرب من نابولي في عام ٩١٥م، ولكنَّ قوى الإمبراطورية كانت أضعفَ من أن تحكم الغرب مرةً أخرى، كما حاولت في عهد جستينيان. وفي هذه الفوضى الشاملة التي اضطُرَّت فيها البابوية إلى تلبية نزوات أشراف روما ذَوي النوايا السيِّئة، فقدت البابوية ما كان يمكن أن يتبقى لها من النفوذ في إدارة شئون الكنيسة الشرقية، بل إنها وجدَت قبضتها تتراخى على رجال الدين في الغرب، في الوقت الذي أكد فيه الأساقفة المحليون مرةً أخرى استقلالهم. غير أنهم لم ينجحوا في ذلك، إذ إن ضعف الروابط مع روما قد اقترن بتقوية الصِّلات مع القوى الدنيوية المحلية، كما أن أخلاق الكثيرين ممن اعتلَوْا عرش القدِّيس بطرس (أي من الباباوات) في تلك الفترة لم تكن من النوع الذي يضمن الوقوف ضد تيار الانحلال الاجتماعي والأخلاقي.
ومع مجيء القرن الحادي عشر، أخذت تنتهي الحركة الكبرى للشعوب، كما أمكن تجنُّب الخطر الخارجي الذي كان يُهدِّد أوروبا من الغزو الإسلامي، ومنذ ذلك الحينِ أخذ الغربُ ينتقل إلى موقع الهجوم.
كانت المعرفة الإغريقية قد ظلت باقية في أيرلندا النائية، في الوقت الذي كانت قد نسيت فيه في معظم أرجاء الغرب، وازدهرت ثقافة أيرلندا في نفس الوقت الذي كان فيه الغرب في عمومه يُعاني تدهورًا. غير أن قدوم الغزاة الدنمركيين هو الذي أدى في النهاية إلى القضاء على هذا الجيب الحضاري.
والواقع أن حيوية الثقافة الأيرلندية في ذلك العصر كانت ترجع إلى مجموعة من الظروف المواتية؛ فعندما بدأت بلال الغال تُعاني من موجات متلاحقة من غزو البرابرة، حدث انتقالٌ واسع النطاق لرجال العلم نحو الغرب الأقصى الذي يَكفُل لهم مزيدًا من الحماية.
كان يوحنا واقعيًّا في فلسفته بالمعنى المدرسي لكلمة الواقعية، وهذا استعمال اصطلاحي للفظٍ ينبغي أن يكون واضحًا في أذهاننا.
وتظهر واقعية يوحنا بوضوحٍ في كتابه الفلسفي الرئيسي «عن تقسيم الطبيعة». في هذا الكتاب يرى أن للطبيعة تقسيمًا رُباعيًّا؛ تبعًا لكون الأشياء خالقةً، أو غيرَ خالقة، ومخلوقة، أو غيرَ مخلوقة. فهناك أولًا الخالق غير المخلوق، ومن الواضح أن المقصود هنا هو الله، ثم يأتي الخالق المخلوق، وهي فئة تندرج تحتها المثل بالمعنى الذي قال به أفلاطون وسقراط؛ لأنها تخلق الجزئيات ويخلقها الله الذي تستمد كيانها منه. ولدينا ثالثًا الأشياء الموجودة في المكان والزمان، التي هي مخلوقة غير خالقة. وأخيرًا يتبقى غير الخالق وغير المخلوق، وهنا نعود بعد دورةٍ كاملةٍ إلى الله بوصفه الهدف النهائي الذي ينبغي أن تسعى إليه الأشياء جميعًا. وبهذا المعنى لا يكون الله خالقًا؛ لأنه لا يتميز عن غايته الخاصة.
هذا فيما يتعلق بالأشياء التي توجد، غير أنه يُدرِج في الطبيعة أيضًا الأشياء التي لا توجد، وأولها الأشياء المادية العادية، التي تُستبعَد، بطريقةٍ دالةٍ على اتجاهه الأفلاطوني الجديد، من العالم المعقول. وبالمثل ينظر إلى الخطيئة على أنها نقص أو حرمان، وتباعُدٌ عن النموذج الإلهي، ومن ثَم فهي تنتمي إلى عالَمِ ما هو غير موجود. وهذا كله يعود بنا إلى النظرية الأفلاطونية التي يكون فيها الخير كما رأينا مُساويًا للمعرفة.
وفي القرن الحادي عشر بدأت أوروبا أخيرًا تدخل فترة من الانتعاش. فقد استطاع النورمنديون إيقاف التهديدات الآتية من الشمال والجنوب، ووضع غزوهما لإنجلترا حدًّا للغارات الإسكندنافية، على حين أن حملاتهما في صقلية أزالت الحكم العربي نهائيًّا من هذه الجزيرة. وبدأت تترسخ دعائم إصلاح مؤسسات الأديرة، كما أُعيدَ النظر في مبادئ انتخاب البابا وتنظيم الكنيسة. وأخذت الأمية تتراجع بتقدم التعليم، لا بين رجال الدين فحسب، بل بين أبناء الطبقة الأرستقراطية أيضًا.
على أن الصعوبتَين الأساسيتَين اللتَين كانتا تعترضان الكنيسة في ذلك الوقت هما شراء المناصب الكنسيَّة بالمال، ومسألة الامتناع عن الزواج. والأمران يرتبطان بوضع السلك الكهنوتي كما تطور عبر السنين، فنظرًا إلى أن القُسُسَ كانوا هم المشرفين على المعجزات والسلطات الدينية، فإنهم أخذوا يُمارسون بالتدريج تأثيرًا كبيرًا على الشئون الدنيوية، وهو تأثير لا يمكن أن تدوم فعاليته إلا إذا ظل الناس في عمومتهم يعتقدون أن هذه القدرات أصلية. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا بإخلاص ومنتشرًا طوال العصور الوسطى، غير أن تذوق طعم السلطة يُثير الشهوات والأطماع، وما لم تكن هناك تقاليدُ أخلاقية قوية وفعالة تُوجِّه من يحتلون مواقع السلطة، فإنهم يتجهون إلى الانتفاع إلى أقصى حد من مراكزهم، وهكذا أصبح منح المنصب الكنسي لقاء المال مصدرًا للثروة والقوة عند من يملكون منح مثل هذه التكريمات، وأدت هذه الممارسات في النهاية إلى إفساد المؤسسة، كما كانت تُبذَل من آنٍ لآخرَ جهودٌ لمكافحة هذا الداء.
أما مسألة امتناع رجال الدين عن الزواج فلم تكن الآراء فيها قاطعة، ولم يُبَتَّ في جوانبها الأخلاقية أبدًا على نحو نهائي. فلم يحدث في الكنيسة الشرقية، ولا في الكنائس الإصلاحية الغربية فيما بعد، أنْ نُظِر إلى الامتناع عن الزواج على أنه ذو قيمة أخلاقية، أما الإسلام فيذهب إلى حدِّ التنديد به. ويمكن القول إنه كانت هناك أسباب معقولة من الوجهة السياسية للتغيُّرات التي حدثت في هذه الفترة، فلو تزوج رجال الدين لاتجهوا إلى تكوين طائفة وراثية، وخاصةً إذا أُضيفَ إلى ذلك الدافع الاقتصادي الخاص بالمحافظة على الثروة. وفضلًا عن ذلك فينبغي ألا يكون رجل الدين مُماثلًا لأي رجل آخر، وخير وسيلة لتأكيد هذا التمييز بينهما هي العزوف عن الزواج.
وفي رأي دميان أن الفلسفة خادمة للاهوت، كما أنه عارض الجدل.
والواقع أن الدعوة إلى أن يكون الله قادرًا على تجاوز مبدأ التناقض تُثير ضِمنًا صعوبةً في مسألة القدرة الإلهية الشاملة؛ فمثلًا ألن يستطيع الله بفضل قدرته الشاملة أن يخلق حجرًا يبلغ من الثِّقل حدًّا لا يستطيع معه أن يرفعه؟ ومع ذلك فلا بد أن يكون قادرًا على أن يرفعه، ما دامت قدرته شاملة. وعلى ذلك يبدو أنه يستطيع ولا يستطيع أن يرفعه. وهكذا تُصبِح القدرة الشاملة فكرةً مستحيلة، ما لم يتخلَّ المرء عن مبدأ التناقض، على أن الاستغناء عن مبدأ التناقض يجعل الحديث والتفاهم مستحيلًا؛ ولهذا السبب كان من الضروري رفضُ نظرية دميان.
فرغم أن أعداء هنري كانوا قد انتخبوا منافسًا له بدلًا منه، فإن هنري انتصر مع الوقت على خصومه، وعندما أعلن جريجوري في عام ١٠٨٠م تأييده للإمبراطور رودلف المنافس، كان الأوان قد فات، فقد انتخب هنري بابا منافسًا، ودخل به روما في ١٠٨٤م لكي يُتوَّج هناك. على أن جريجوري استطاع بمساعدةٍ نورمندية آتية من صقلية، أن يُرغِم هنري والبابا المنافسَ على الانسحاب على عجل، ولكنه ظل أسيرًا لدى القوات الحامية له، ومات في العام التالي. ومع ذلك فعلى الرغم من عدم نجاح جريجوري فإن سياسته قد قُدِّر لها النجاح فيما بعد.
ولم يكن العرب في البدء يعتزمون القيام بفتوحاتٍ منظمة؛ إذ إنهم كانوا يقومون بغاراتٍ على الحدود يحصلون منها على غنائم تُعوِّضهم عن فقر أراضيهم وجدبها، ولكن ضعف المقاومة أحال المغيرين إلى فاتحين. وفي حالاتٍ كثيرة ظلت إدارة الأقاليم الجديدة على ما هي عليه في ظل السادة الجدد. وكان يحكم الإمبراطوريةَ العربية خلفاء، والمقصود بهم خلفاء الرسول وورثة سلطته.
وبعد موت علي ابن عم الرسول في عام ٦٦١م انقسم المؤمنون إلى سُنَّة وشيعة، وكانت الطائفة الأخيرة أقلِّية تدين بالولاء لعلي، ولا تقبل بحكم الأمويين. وإلى هذه الأقلية كان ينتمي الفُرس الذين كان تأثيرهم هو العامِلَ الأكبر في إزاحة الأسرة الأموية، وحلول الأسرة العباسية محلَّها، وانتقال العاصمة على أيدي العباسيين من دمشق إلى بغداد. وكانت سياسة هذه الأسرة الجديدة تُقدِّم مزيدًا من الحرية للطوائف المتعصبة في الإسلام، غير أن العباسيِّين فقدوا أسبانيا (الأندلس)، حيث أُقيمَت في مدينة قرطبة خلافةٌ مستقلَّة أنشأها الأمير الأموي الوحيد الذي عاش بعد انهيار جماعته، وقد بلغَت الإمبراطورية في عهد العباسيين شأوًا كبيرًا من العظَمة، وخاصة في عهد هارون الرشيد معاصر شرلمان، الذي اشتهر بفضل أساطير «ألف ليلة وليلة». وبعد موته في عام ٨٠٩م بدأت الإمبراطورية تُعاني من استخدام المرتزقة الأتراك على نطاقٍ واسع، مثلما سبق أن عانت روما من استخدام الجنود البرابرة. وقد تدهورت الخلافة العباسية وسقطت عندما اجتاح المغولُ بغداد وخربوها في ١٢٥٦م.
أما الثقافة الإسلامية فقد بدأ ظهورها في الشام، ثم تركَّزَت في بلاد الفُرس والأندلس. ففي الشام ورث العرب التراث الأرسطي الذي كان يتمسَّك به النساطرة، في الوقت الذي كانت فيه الكاثوليكية التقليدية تدين بالتعاليم الأفلاطونية الجديدة. غير أنه حدث خلطٌ كثير نتيجةً لامتزاج النظريات الأرسطية بنوعٍ من التأثير الأفلاطوني الجديد، وفي بلاد الفرس عرَف المسلمون الرياضيَّات الهندية، وأدخلوا الأرقام العربية التي ينبغي في الواقع أن تُسمَّى هندية. وقد أنتجَت حضارة الفرس شعراءَ كالفردوسي، وحافظت على مقاييسها الفنية الرفيعة، على الرغم من الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.
كذلك أنجبَت الأندلس فيلسوفًا مسلمًا مرموقًا، هو ابن رشد (١١٢٩–١١٩٨م)، الذي وُلِد في قرطبة لأسرةٍ توارَث رجالُها مهنة القضاء. وقد درَس هو ذاتُه الشريعة من بين ما درَس، وكان قاضيًا في إشبيلية، ثم في قرطبة، وفي عام ١١٨٤م أصبح طبيب البلاط، ولكنه نُفِي آخِرَ الأمر إلى المغرب لاعتناقه آراءً فلسفية بدلًا من أن يَكتفيَ بالإيمان، ولقد كان إسهامه الأكبر في تحرير الدراسات الأرسطية من تحريفات الأفلاطونية الجديدة. وكان يعتقد كما سيعتقد توما الأكويني من بعده أن من الممكن إثباتَ وجود الله على الأسس العقلية وحدها. أما عن النفس فهو يذهب مع أرسطو إلى أنها ليست خالدة، وإن كان العقل الفعَّال خالدًا. ولما كان هذا العقل المجرَّد موحدًا، فإن بقاءه لا يعني الخلودَ الشخصي، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الفلاسفةُ المسيحيون هذه الآراء. على أن ابن رشد في ترجماته اللاتينية لم يُؤثِّر في المدرسيِّين الغربيين فحسب، بل كان يستهوي كافة المفكرين الخارجين عن حرفية العقيدة ممن كانوا يرفضون فكرة الخلود، وهم الذين أصبحوا يُعرَفون باسم الرُّشديِّين.
لقد بدا في وقت موت جريجوري السابع عام ١٠٨٥م أن سياسته قد انتزَعَت من الحبر الأعظم سُلطته وتأثيره في شئون الإمبراطورية، ولكن تبين فيما بعدُ أن المعركة بين السلطتَين الروحية والزمنية لم تَنتهِ على الإطلاق، بل إن البابوية لم تكن قد وصلَت بعدُ إلى ذروة قدرتها السياسية. وخلال ذلك قويت سلطة البابا في المسائل الروحية بفضل تأييد المدن الناشئة في لومبارديا، على حين أن الحروب الصليبية دعمَت نفوذه في البداية.
وقد استُؤنِفَ الصراع حول الترسيم في عهد البابا إيربان الثاني (١٠٨٨–٩٩م) الذي عاد إلى استرداد هذه الحقوق لنفسه، وعندما تمرَّد كونراد، ابن هنري الرابع، على أبيه التمس العون لدى إيربان الذي رحب بتقديم هذا العون. وكانت المدن الشمالية مؤيدة للبابا، بحيث كان من السهل غزوُ لومبارديا كلها. وكذلك أمكن عَقدُ اتفاق مع فيليب ملك فرنسا، واستطاع إيربان في عام ١٠٩٤م أن يبدأ مسيرة ظافرة نحو لومبارديا وفرنسا. وهناك في مجمع كليرمون في العام التالي دعا إلى الحرب الصليبية الأولى.
وقد واصل خليفة إيربان وهو باسكال الثاني السياسة البابوية في موضوع الترسيم بنجاح حتى موت هنري الرابع عام ١١٠٦م.
والواقع أن الصراع بين الكنيسة والإمبراطورية لم ينفع أيًّا من الطرفَين في النهاية، ولكن مدن الدول في شمال إيطاليا هي التي بدأت تظهر بوصفها قوة جديدة، وكانت هذه المدن تُساعد البابا بقدر ما كان الإمبراطور يُهدِّد استقلالها. وعندما اختفى هذا التهديد فيما بعد، أصبحت هذه المدن تعمل لحسابها الخاص، وبدأت تتكون فيها ثقافة دنيوية مستقلة عن ثقافة الكنيسة. وعلى الرغم من أنها كانت مُنتمِية اسميًّا إلى المسيحية، فإن نظرتها العامة كانت متحررة فكريًّا إلى حدٍّ بعيد، وذلك على نحو يُماثِل ما اتجه إليه المجتمع البروتستانتي بعد القرن السابع عشر، وقد اكتسبت المدن البحرية في شمال إيطاليا أهمية عظمى بوصفها مُورِّدة للسفن والمؤن خلال الحروب الصليبية. وإذا كان من الجائز أن الحماس الديني كان إحدى القوى الأصلية التي أسهمت في الحركة الصليبية، فإن الدوافع الاقتصادية القوية كان لها تأثيرُها أيضًا؛ فقد كان الشرق يُبشِّر بأن يكون مصدرًا ضخمًا للغنائم، والأهم من ذلك أنها غنائمُ تُكتسَب في سبيل قضية فاضلة مقدسة، كما أن يهود أوروبا الذين هم في متناول اليد كانوا من جهةٍ أخرى يُشكِّلون هدفًا مفيدًا للسخط الديني، ولم يكن واضحًا لفرسان المسيحية في البداية أنهم إنما كانوا يُواجِهون في العالم الإسلامي ثقافةً أسمى من ثقافتهم بما لا يُقاس.
إن الحركة المدرسية تختلف عن الفلسفة الكلاسيكية في أن نتائجها كانت محدَّدة مقدمًا. فلا بد لها أن تعمل في حدود التعاليم الأصلية للدين. وكان راعيها المقدَّس بين القدماء هو أرسطو، الذي حلَّ تأثيرُه بالتدريج محلَّ تأثير أفلاطون. وتتجه هذه الحركة في منهجها إلى اتباع المنهج التصنيفي لأرسطو مُستخدِمة البرهانَ الجدلي دون أن تربطه بالواقع إلا في أحوالٍ نادرة. وكان من أهم المسائل النظرية مشكلةُ الكليات التي قسَّمَت العالم الفلسفي إلى مُعسكرَين متضادَّين، فقد رأي الواقعيون أن الكليات أشياء، وارتكزوا على آراء أفلاطون ونظرية المثل، أما الاسميون فرأَوا أن الكليات مجرد أسماء وارتكزوا على سلطة أرسطو.
وخلال القرن الثالثَ عشر بلَغَت الحركة المدرسية أعلى قممها، كما دخل الصراع بين البابا والإمبراطور أشرسَ مراحله. وتُعَد هذه المرحلة قمةَ العصور الوسطى في أوروبا؛ ففي القرون التالية أخذَت تظهر قُوًى جديدة منذ النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر حتى إحياء العلم والفلسفة في القرن السابع عشر.
ولقد كانت هذه بالنسبة إلى طريقة تفكير البابا، طريقة عقلانية أكثرَ مما ينبغي لتهدئة الخلافات، ولكن كان عليه بعد نجاح هذه الطريقة أن يعقد صُلحًا مع الإمبراطور عام ١٢٣٠م، وأعقبَت ذلك فترةٌ من الإصلاح أصبحَت فيها لمملكة صقلية إدارةٌ حديثة وتشريعٌ جديد، وشجعَت الحكومة التِّجارة عن طريق إلغاء جميع الحواجز الجمركية في الداخل، كما ارتفع مستوى التعليم بإنشاء جامعة في نابولي، وفي عام ١٢٣٧م نشبت المعارك من جديد مع لوميارديا، وانشغل فريدريك حتى موته في عام ١٢٥٠م بحروبٍ دائمة مع الباباوات المتعاقبين، وأضْفَت الوحشيةُ المتزايدة للصراع ظلًّا قاتمًا على هذه الفترة بالقياس إلى السنوات الأولى والأكثر استنارة من حكمه.
وهكذا فإن القرن الثالث عشر لم يكن فترةَ سيادةٍ مطلقة للكنيسة، حتى في المجال الكنسي البحت، على الرغم من القوة الهائلة التي اكتسبتها في ذلك الحين، ولكن إذا كانت الكنيسة الرسمية لها تلتزم كليةً بتعاليم مُؤسِّسها، فقد ظهرَت في داخلها طريقتان أعادَتا التوازُنَ إلى حدٍّ ما في البداية، وهما الطريقتان الدومنيكية والفرنسيسكانية، اللتان كانتا في أول عهدهما تتبعان تعاليمَ مؤسسَيهما القديس دومينيك (١١٧٠–١٢٢١م)، والقدِّيس فرنسيس الأسيزي (١١٨١–١٢٢٦م)، ولكن على الرغم من أن هاتَين الطريقتَين كانتا في البداية زاهِدتَين، فإن الالتزام بالفقر لم يُقيِّدهما طويلًا. فقد أصبح الدومنيكان والفرنسسكان معًا يشتهران بتولِّي شئون محاكم التفتيش، وهي مؤسسة لم تصل، لحسن الحظ، لا إلى إنجلترا ولا إلى الدول الإسكندنافية. ومن المحتمل أن التعذيب الذي كانت تُمارِسه كان يستهدف في وقتٍ ما صالحَ الضحايا، على أساس أن العذاب الدنيوي في هذا العالم قد يُخلِّص الروحَ من اللعنة الأبدية.
ولكن لا شك في أن هناك اعتباراتٍ عمليةً كانت تعمل من آنٍ لآخر على دعمها النوايا الطيبةَ للقُضاة. وهكذا لم يُبدِ الإنجليز اعتراضًا وهم يرون جان دارك يتمُّ التخلص منه على هذا النحو.
على أن الطريقتَين الدومنيكية والفرنسسكانية أصبحتا تُتابعان العلم بشغَف، وهو اتجاه يتعارض مع مقاصد مؤسِّسَيهما؛ فقد كان ألبرتوس الأكبر وتلميذه توما الأكويني من الدومنيكان، على حين أن روجر بيكن ودنز سكوتس ووليام الأوكامي ينتمون إلى الطريقة الفرنسسكانية. وقد كان الدور الذي أسهموا به إسهامًا ذا قيمة حقيقية في ثقافة عصرهم هو دورهم في ميدان الفلسفة.
إذا كان رجال الكنيسة قد استمدوا الوحي الفلسفي طوال الفترة السابقة من مصادر أفلاطونية جديدة، فإن القرن الثالث عشر قد شهد انتصار أرسطو؛ فقد سعى توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤م) إلى إقامة المذهب الكاثوليكي على أساس فلسفة أرسطو. وبطبيعة الحال، فإن من المشكوك فيه أن تُحرِز هذه المهمة نجاحًا إذا ما أُنجِزَت بطريقة فلسفية خالصة؛ ذلك لأن الإلهيات عند أرسطو كانت متعارضة تمامًا مع مفهوم الألوهية المسيحي، ولكن الذي لا شك فيه هو أن نزعة توما الأرسطية، من حيث هي عامل فلسفي مؤثِّر داخلَ الكنيسة، قد اكتسبت مكانة أصبحت مكتملة ودائمة، وصارت التوماوية هي المذهبَ الرسمي للكنيسة الرومانية، وهي تعلم بهذا الوصف في جميع معاهدها ومدارسها. ولا توجد اليوم فلسفة أخرى تتمتع بمثل هذه المكانة البارزة وهذا التأييد القوي، فيما عدا المادية الديالكتيكية التي هي المذهب الرسمي للشيوعية، وبالطبع فإن فلسفة توما لم تصل في عصره إلى هذه المكانة المميزة على الفور، غير أن رسوخ سلطته على نحوٍ أخذ يزداد جمودًا فيما بعد، أدى إلى سير التيار الفلسفي الرئيسي مرةً أخرى في القنوات العلمانية، بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسوده فلسفة القدماء.
كان توما ينتمي إلى أسرة يحمل كِبارُها لقبَ كونت أكوينو، وكان موطنها قرية تحمل هذا الاسم قريبة من مونتي كاسينو، حيث بدأ دراسته. وبعد أن قضى ستَّ سنوات في جامعة نابولي، انضم إلى سلك الدومينيكان عام ١٢٤٤م، وواصل العمل في كولونيا متتلمذًا على ألبرتوس الكبير، وهو أشهر معلم وباحث أرسطي في عصره.
وسرعان ما اكتسب مذهبه الفلسفي اعترافًا واسعًا؛ ففي عام ١٣٠٩م أعلن أنه هو المذهب الرسمي للطريقة الدومينيكانية، وبعد وقتٍ قصير أي في عام ١٣٢٣م رُسِّم توما قديسًا، وربما لم تكن لمذهب توما من الوجهة الفلسفية تلك الأهميةُ التي يُوحي بها تأثيره التاريخي؛ فمن عيوبه أن نتائجه مفروضة مقدمًا بطريقةٍ حتمية في إطار العقيدة المسيحية، أي إننا لا نجد هنا ذلك التجرُّد النزيهَ الذي نجده عند سقراط وأفلاطون، حيث يُسمَح للحُجة بأن تقودنا إلى أي اتجاهٍ نشاء. غير أن المذاهب الكبرى التي عُرِضَت في كتاب «الخلاصة» هي من جهةٍ أخرى صروحٌ ضخمة من الجهد العقلي تُعرَض فيها الآراء المتعارضة دائمًا بوضوحٍ وإنصاف، أما في شروح توما على أرسطو، فإنه يظهر تلميذًا ذكيًّا دقيقًا لأرسطو، وهو أمر يتجاوز ما يمكن أن يُقال عن أي واحد من السابقين عليه، وضمنهما معلمه (ألبرتوس)، ولقد كان مُعاصروه يُسمُّونه «العالم الملائكي»، وبالفعل كان توما الأكويني بالنسبة إلى كنيسة روما رسولًا ومعلمًا.
كانت ثنائية العقل والنقل عند اللاهوتيِّين السابقين من أتباع الأفلاطونية الجديدة، خارجةً عن ذلك المذهب، أما التوماوية فأحدثَت انقلابًا فكريًّا ضد النظرية الأفلاطونية الجديدة. ولقد كانت الأفلاطونية الجديدة تقول بثنائيةٍ في مجال الوجود بين الكليات والجزئيات، أو لنقُل بعبارةٍ أدقَّ إن هناك تسلسلًا متدرجًا للوجود، يبدأ بالواحد ويهبط من خلال المثل إلى الجزئيات، التي هي الأدنى من حيث الوجود، ويتم عبور الهوَّة بين الكليات والجزئيات على نحوٍ ما، عن طريق الكلمة (اللوجوس) وهو رأي يبدو معقولًا تمامًا لو عبَّرنا عنه بلُغةٍ أقربَ إلى واقع الناس؛ ذلك لأن للألفاظ معنًى عامًّا، ولكن من الممكن استخدامها للإشارة إلى أشياء جزئية. وإلى جانب هذه النظرية الثنائية في الوجود، نجد نظرية موحدة في المعرفة؛ فهناك عقل لديه طريقة في المعرفة هي جدلية في الأساس، أما عند توما فإن الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ يرى — على طريقة أرسطو — أن الوجود إنما يكمن في الجزئيات وحدها، ومن هذا يستدل على وجود الله بطريقةٍ ما. وبقدر ما تُقبَل الجزئيات على أنها مادة خام يكون هذا الرأي تجريبيًّا في مقابل محاولة العقليين استنباط الجزئيات بالعقل. غير أن موقف توما مع أخذه بنظرةٍ موحدةٍ إلى الوجود يؤدي إلى ثنائية في ميدان المعرفة؛ إذ يفترض مصدرَين للمعرفة؛ أولهما: العقل الذي يستمد مادة فكره من تجربة الحواس، وهناك صيغة مدرسية مشهورة تقول إنه لا يوجد في العقل شيء لم يكن من قبل في التجربة الحسية. ولكن هناك بالإضافة إلى العقل الوحي بوصفه مصدرًا مستقلًا للمعرفة. وعلى حين أن العقل يُولِّد معرفة عقلية، فإن الوحي يُزوِّد الناس بالإيمان. فهناك أمور تبعد تمامًا عن متناول العقل، ولا سبيل إلى إدراكها إلا بتوجيهٍ من الوحي، وإلى هذه الفئة تنتمي مسائل معينة في العقيدة الدينية، مثل أركان الإيمان التي تتجاوز الفهم، ومن قبيل ذلك الطبيعة الثلاثية للإله، والبعث، والمعاد المسيحي، غير أن وجود الله، وإن كان قد يتكشَّف للوهلة الأولى من خلال الوحي، يمكن أيضًا أن يُبرهَن عليه جدليًّا عن طريق أدلة عقلية، ومن هنا تأتي المحاولات المتعددة لإثبات هذه القضية. وعلى ذلك فبقدر ما تكون مبادئ العقيدة قابلة للمعالجة العقلية، يمكن إجراء حوار عقلي مع غير المؤمنين، أما فيما عدا ذلك فإن الوحي هو الوسيلة الوحيدة التي تُؤدِّي بنا إلى رؤية النور. على أن التوماوية لا تضع مصدَرَي المعرفة هذَين في نهاية الأمر على قدم المساواة؛ إذ ترى أن الإيمان لازم قبل السير في طريق المعرفة العقلية. فلا بد أن يؤمن الناس قبل أن يستطيعوا الاستدلال بالعقل؛ ذلك لأنه على الرغم من أن حقائق العقل مستقلة، فإن مسألة السعي إليها هي في ذاتها مسألة وحيٌ أو نقل.
على أن هذه الطريقة في الكلام لا تخلو من مخاطر؛ ذلك لأن حقائق النقل اعتباطية، وعلى الرغم من أنه لا يوجد تعارض في نظر الأكويني بين العقل والنقل، ومن ثَم لا تضادَّ بين الفلسفة واللاهوت؛ فإن كلًّا منهما يؤدي في الواقع إلى هدم الآخر، فحيثما يكون في استطاعة العقل التعاملُ مع الواقع يكون النقل زائدًا عن الحاجة والعكس بالعكس.
أما فيما يتعلق باللاهوت، فينبغي أن نتذكر أنه ينقسم في الواقع قسمَين؛ فهناك أولًا ما يُسمَّى باللاهوت الطبيعي، الذي يبحث في الله في إطار موضوعات كالعلل الأولى، والمحركات الأولى، وما شابهها. وهذا ما يُسمِّيه أرسطو بالإلهيات، ويمكن أن يُدرَج ضمن الميتافيزيقا غير أن الأكويني بوصفه مسيحيًّا قد وضع أيضًا ما يمكن تسميته باللاهوت العقائدي، الذي لا يُعالِج إلا الأمور التي نصل إليها بالوحي أو النقل. وهو هنا يرتدُّ ثانيةً إلى موقف كُتَّاب المسيحية الأوائل، وخاصةً أوغسطين الذي يبدو أن توما يُؤيِّد على وجه العموم آراءه في اللطف الإلهي والخلاص. وهذه بالفعل أمور تتجاوز نطاق العقل. وبطبيعة الحال فإن اللاهوت العقائدي غريبٌ تمامًا عن روح الفلسفة القديمة، ولا نجد شيئًا مشابهًا له عند أرسطو.
ولقد كان هذا العنصر اللاهوتي هو الذي أدى بتوما الأكويني إلى أن يتجاوز أرسطو في مذهبه الميتافيزيقي في مسألةٍ هامة؛ فنحن نذكر أن إله أرسطو كان أشبهَ بمِعماري متجرِّد. أما الأشياء الجزئية فلسنا مُضطرِّين إلى أن ننسب إليها الوجود؛ لأنها هناك فحسب، وكذلك المادة الخام التي شُكِّلَت منها. أما عند الأكويني فإن الله منبع كل وجود، والشيء المتناهي لا يتصف بالوجود إلا عرَضًا، فهو في وجوده يعتمد، إما بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، على حقيقةٍ توجد بالضرورة، وهي الله. وتُعبِّر اللغة المدرسية عن ذلك من خلال مفهومَيِ الماهية والوجود؛ فماهيَّة الشيء هي على وجه الإجمال صفة، وهي ما يَكونه الشيء. أما الوجود فهو لفظ يشير إلى حقيقة أن الشيء كائن، أي إنه ما به يكون الشيء. وبالطبع فإن هذَين اللفظَين معًا تجريدان، بمعنى أنه لا الماهية ولا الوجود يمكن أن يكون مستقلًّا بذاته. وفي كل الأحوال يكون للشيء الملموس ماهيةٌ ووجود معًا، غير أن هناك حقائقَ لغويةً تُوحي بتمييزٍ بينهما.
ولنلاحظ أن النظرية الميتافيزيقية القائلة بأن الموجود المتناهيَ يتوقف وجوده على غيره، هي التي تؤدي إلى البرهان الثالث من براهين وجود الله في «الخلاصة اللاهوتية»، وهو البرهان الذي نبدأ فيه من واقعة تجريبية عادية هي أن الأشياء تظهر وتختفي، مما يَعني أن وجودها ليس واجبًا، بالمعنى التخصصي لهذه الكلمة. ويستمر البرهان قائلًا إن هذا النوع من الأشياء يأتي عليه وقت لا يعود فيه موجودًا، ولكن إذا كان الأمر كذلك فلا بد أنه كان هناك وقت لها يكن يوجد فيه شيء، والنتيجة التي تترتَّب على ذلك هي ألا يكون هناك شيء موجودًا الآن، ما دام أي شيءٍ مُتناهٍ عاجزًا عن أن يُضفِيَ الوجود على نفسه. فلا بد إذن أن يكون ثمة موجود واجبُ الوجود هو الله.
ومن المفيد أن نُقدِّم بضعة تعليقات على هذه الحجة؛ أولها بالطبع هو أنها تُسلِّم بأن وجود أي شيءٍ هناك يحتاج على إطلاقه إلى تعليل أو تبرير. وتلك نقطة رئيسية في الميتافيزيقا التوماوية، ولو لم نَقُل بهذا الرأي — الذي لم يَقُل به أرسطو بالفعل — لما أمكن قولُ أي آراء بعد ذلك، ولكن إذا سلَّمْنا جدلًا بهذه المقدمة وجدنا ضعفًا باطنًا في الحجة يجعلها متهافتة؛ إذ إن القول بأن أيَّ شيءٍ مُتناهٍ لا يكون موجودًا في وقتٍ ما لا يلزم عنه القولُ بأنه كان هناك وقت لم يكن يوجد فيه أي شيء.
ويدعم توما الأكويني مصطلح الماهية والوجود بنظرية القوة (أو الإمكان) والفعل (أو التحقق) الأرسطية، فالماهية إمكان محض، والوجود تحقُّق محض، والوجود تحقق محض، وهكذا يوجد في الأشياء المتناهية مزيجٌ من هذَين دائمًا؛ فوجود الشيء هو ممارسة فاعلية ما، وهذه الفاعلية ينبغي بالنسبة إلى أي موضوع متناهٍ أن تكون مستمَدَّة من شيءٍ آخر.
أما الدليلان الأول والثاني على وجود الله فلهما في الواقع طابع أرسطي؛ ففيهما يستدل الأكويني على وجود مُحرِّك غير متحرك، وعلةٍ غيرِ معلولة، مفترضًا في كل حالة استحالة تسلل العلل أو المحركات إلى ما لا نهاية. غير أن هذا يؤدي ببساطة إلى هدم المقدمة التي ترتكز عليها الحجة. فلنأخذ مثلًا الحجة الثانية؛ فإذا كان لكل علة علةٌ أخرى، كان من غير الممكن أن نقول في الآنِ نفسِه إن هناك علةً ليست لها علةٌ أخرى؛ إذ إن هذا ببساطة تناقض، ولكن ينبغي أن نذكر أن الأكويني لا يبحث في سلاسل العلل في الزمان، فالمسألة عنده تعاقب للعلل بحيث تعتمد إحداها على الأخرى في هذه اللحظة على نحوٍ يُشبِه حلقات سلسلة معلَّقة من خُطَّاف في السقف، فهنا يكون السقف هو العلة الأولى أو العلة غير المعلولة؛ لأنه ليس حلقة معلقة من أي شيءٍ آخر، ولكن ليس ثمة سبب معقول يدعو إلى رفض التسلسل إلى ما لا نهاية، وذلك بشرطٍ واحد هو ألا يُفضِيَ إلى تناقض؛ فسلسلة الأعداد الجذرية التي تزيد عن الصفر وتصل إلى الواحد بما فيها الواحد نفسُه لا متناهية، ومع ذلك فليس لها عضو أول. أما في حالة الحركة فإن مسألة التسلسل لا يتعيَّن حتى طرحها؛ ذلك لأن أي جسمَين متجاذبَين يدوران حول بعضهما، وكأنهما شمس وكوكب، يَظلان على هذا النحو إلى ما لا نهاية.
أما الدليل الرابع على وجود الله، فيبدأ من الاعتراف بوجود درجاتٍ مختلفة للكمال في الأشياء المتناهية، ثم يقول إن هذا يفترض وجود كائن تامِّ الكمال. وأخيرًا فإن الدليل الخامس يشير إلى أن الأشياء غير الحية في الطبيعة تبدو موجَّهة نحو غايةٍ ما؛ لأن العالم يسوده نوعٌ من النظام، وهذا دليل على وجود عقل خارجٍ عن العالم تُلبَّى غايات على هذا النحو، ما دام من المستحيل أن تكون للأشياء الجامدة غاياتٌ في ذاتها. هذه الحجة التي تُسمَّى بالحجة الغائية أو برهان التنظيم والتصميم، تفترض ضرورة إيجاد تعليل للنظام. ومن المؤكد أن هذا الافتراض لا يوجد له سبب منطقي؛ إذ قد يكون من حقِّنا بنفس المقدار أن نُطالِبَ بتفسير لعدم النظام، وعندئذٍ تسير الحجة في الطريق المضاد. أما الدليل الأنطولوجي الذي قال به القديس أنسلم، والذي تحدَّثنا عنه من قبل، فقد رفضه الأكويني، وإن كان من الغريب أنه رفَضه لأسبابٍ عملية لا لأسبابٍ منطقية، فلما كان من المستحيل على أيِّ عقل مخلوق، وبالتالي متناهٍ، أن يُحيط بالماهية الإلهية، فمن المحال أن يستنبط على هذا النحو وجوده الذي تُطوَى عليه ماهيته.
وعلى حين أن إله الأفلاطونية الجديدة كان مندمجًا في وجوده بالعالم على نحوٍ ما، فإن إله الأكويني أشبهُ بكاهنٍ أعظمَ غير متجسِّد، يترفع على عالم المخلوقات. وبهذا الوصف فإنه يتمتَّع بكافة الأوصاف الإيجابية بدرجةٍ لا متناهية، وهو أمر يُعَد لازمًا عن مجرد وجوده، وإن كنا لا نستطيع أن نقول عن هذا الموضوع إلا أوصافًا سلبية؛ لأن العقل المتناهيَ عاجزٌ عن الوصول إلى تعريفٍ إيجابي.
وهكذا سيطر أرسطو على الميدان الفلسفي حتى عصر النهضة، ولكن في الصيغة التي وضعها توما الأكويني. وعندما جاء عصر النهضة لم يكن ما رفَضه ذلك العصر هو تعاليم أرسطو أو حتى الأكويني، بقدر ما كان مجموعةً من العادات السيئة في استخدام النظر والتأمل الميتافيزيقي.
أما روجر بيكن فقد أكد أهمية الدراسة التجريبية في مقابل التأمُّل الميتافيزيقي، وكان روجر بيكن هذا واحدًا من سلسلة الباحثين الفرنسسكان الذين أدى تأثيرهم إلى بدء انهيار أساليب التفكير السائد في العصور الوسطى. وقد كان معاصرًا لتوما الأكويني، ولم يكن معارضًا للاهوت بأي حال؛ فهو حين وضع الأسس التي تطور بناء عليها المزيدُ من الاتجاهات الحديثة فيما بعد، لم يكن يهدف إلى هدم سلطة الكنيسة في الأمور الروحية. وهذا يَصدُق بوجهٍ عام على المفكرين الفرنسسكان في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. ومع ذلك فإن الطريقة التي عالجوا بها مشكلة العقل والإيمان قد عجَّلَت بانهيار العصور الوسطى.
كان المذهب التوماوي يرى كما ذكرنا منذ قليل أن العقل والوحي يمكن أن يتداخلا ويتلاقيا، ولكن العلماء الفرنسسكان أعادوا النظر في هذا الموضوع، وأخذوا يبحثون عن فوارقَ أوضح بين الاثنَين. وكان هدفهم من الفصل القاطع بين ميدان العقل وميدان الإيمان هو تحرير اللاهوت بمعناه الصحيح من اعتماده على الفلسفة الكلاسيكية. ولكن هذا أدى في الوقت ذاتِه إلى تحرير الفلسفة من الخضوع للغايات اللاهوتية، ولا بد أن يُصاحب السعيَ الحرَّ إلى النظر الفلسفي عكوفٌ على البحث العلمي. وقد أكد الفرنسسكان بوجهٍ خاص تأثير الأفلاطونية الجديدة مرةً أخرى.
وكان معنى ذلك تشجيع دراسة الرياضيات. ومنذ ذلك الحين أصبح الفصل القاطع للبحث العقلي عن ميدان الإيمان يقتضي أن يكفَّ العلم والفلسفة عن الدخول في صراع مع عقائد الإيمان، ولكن كان ينبغي على الإيمان بدوره ألا يدَّعيَ أنه يُعلِن عقائدَ لا تُناقَش في الميادين التي يستطيع فيها العلم والفلسفة أن يستقلَّا بذاتهما. على أن هذا الوضع يُهيِّئ ظروفًا لصراعاتٍ أشدَّ حدة مما كان يحدث حتى ذلك الحين؛ ذلك لأنه إذا كان الحريصون على الإيمان يُصدِرون أحكامهم، في مسائل يتضح أنها لا تدخل في نطاق الإيمان، فإن هذا أمر يلزم عنه ضرورةُ انسحابهم، أو خوضهم معركة في أرض ليست من حقهم. وهكذا فإن الوحي لا يستطيع الاحتفاظ باستقلاله إلا بالامتناع عن خوض المسائل الجدلية. وبهذه الطريقة يستطيع الناس أن يُكرِّسوا حياتهم للبحث العلمي، ويكون لدى كلٍّ منهم في الوقت ذاته معتقَدُه الإلهي الخاص. والواقع أن التوماويين قد أضعفوا مركزهم اللاهوتي عندما حاولوا إثبات وجود الله، بغض النظر عن مسألة عدم نجاح البراهين ذاتها. وهذا يعني من ناحية الإيمان الديني أن معايير العقل لا تنطبق فحسب، وأن للروح بمعنًى ما الحريةَ في أن تدين بالولاء لما تشاء.
لقد عاش روجر بيكن على ما يبدو من ١٢١٤م حتى ١٢٩٤م، وإن كان التاريخان غيرَ مؤكَّدَين، وقد درس في أكسفورد وباريس، واكتسب معرفة موسوعية بكل فروع العلم على طريقة الفلاسفة العرب السابقين. وقد كان صريحًا في معارضته للتوماوية؛ فقد بدا من الغريب في نظره أن يكتب توما الأكويني عن أرسطو، وكأنه حُجة في موضوعه، مع أنه لا يستطيع قراءته؛ ذلك لأن الترجمات لا يمكن الوثوقُ بها أو الاعتماد عليها. وفضلًا عن ذلك فمع أهمية أرسطو هناك أشياء أخرى لا تقل عنه أهمية؛ أوَّلها الرياضيات التي كان يجهلها التوماويون. أما إذا شئنا اكتسابَ معرفة جديدة، فعلينا أن نلجأ إلى التجربة بدلًا من أن نرتد إلى ما قاله مشاهير القدماء. ومن الملاحظ أن بيكن لم يهاجم المنهج الاستنباطي المتبَع في الجدل المدرسي لذاته، بل أكد أن استخلاص النتائج ليس كافيًا، ولا بد لكي تكون هذه النتائج مقنِعة من أن تَصمد لاختبار التجربة.
وليس من المعروف بالضبط ما هي المسألة التي وجدوه فيها مذنبًا، ولكنه قضى خمسة عشر عامًا في السجن، ولم يُطلَق سَراحُه إلا عام ١٢٩٢م، ثم مات بعد سنتَين.
وكما أن القدرة العليا إنما تكمن في الإرادة الإلهية، فكذلك يرى دنز أن الإرادة في الإنسان هي التي تحكم العقل. وتضمن قوة الإرادة للبشر حريتهم، على حين أن العقل يتقيد بالموضوع الذي يبحثه، ويترتب على ذلك أن الإرادة لا تستطيع أن تُحيط إلا بما هو مُتناهٍ، ما دام وجود كائن لا متناهٍ أمرًا ضروريًّا، ومن ثَم فهو يُلْغي الحرية. والواقع أن فكرة الحرية في مقابل الضرورة إنما تتمشى مع تراث أوغسطين. وقد أصبحت في أيدي الباحثين الفرنسسكان أداة قوية للشك؛ ذلك لأنه إذا كان الله غيرَ مقيَّد بالقوانين الأزلية للعالم، فعندئذٍ قد يكون من الممكن الشكُّ فيما نعتقده بشأنه أيضًا.
وخلال الصراع بين القوتَين، ساند البابا إمبراطورًا منافسًا للويس، وطُرِد هذا الأخير من الكنيسة، فرد هذا بأن وجه إلى البابا تهمة الهرطقة عن طريق مجلس كنسي عام. ووجد الإمبراطور في شخص أوكام كاتبًا قويَّ الحجة، على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجهة نظر حليفه، وذلك في مقابل الحماية التي كان هذا الأخير يكفلها له. وقد صاغ العالم الإنجليزي بعض الكتابات التي هاجم فيها البابا وانغماسه في الأمور الدنيوية. ومات لويس عام ١٣٤٧م، ولكن أوكان ظل في ميونيخ إلى أن تُوفِّي في عام ١٣٤٩م.
ولقد كان مارسيليو من بادوا (١٢٧٠–١٣٤٢م)، وهو صديق أوكام ورفيقه في المنفى، معارضًا للبابا بنفس القوة، وقد عرض بعض الآراء الحديثة عن تنظيم السلطتَين الروحية والزمنية واختصاصاتهما. ففي كلتا الحالتَين ينبغي أن تكون السيادة الحقيقية للأغلبية الشعبية. وينبغي تشكيل المجالس العامة بانتخابات شعبية، ومثل هذا المجلس وحده هو الذي يكون من حقه إصدارُ الأوامر بالطرد من الكنيسة، وحتى في هذه الحالة لا بد أن يكون هناك جزاءٌ دنيوي. وهذه المجالس هي وحدها التي يحق لها أن تضع معايير التدين القويم، أما الكنيسة فلا ينبغي لها أن تتدخل في شئون الدولة. ولقد تأثر تفكير أوكام السياسي بمارسيليو إلى حدٍّ بعيد، وقلَّما يصل إلى هذا الحد من التطرف.
ولقد سارت فلسفة أوكام في طريق المذهب التجريبي أبعدَ مما سار أي مفكر آخر من الفرنسسكان؛ ذلك لأن دنز سكوت مع أنه فصل بين الله وبين ميدان التفكير العقلي، قد ظل مع ذلك محتفظًا بقدر يزيد أو ينقص من الميتافيزيقا التقليدية. أما أوكام فكان معاديًا للميتافيزيقا على طولي الخط؛ ففي رأيه أن الأنطولوجيا العامة من ذلك النوع الذي تجده لدى أفلاطون وأرسطو وأتباعهما مستحيلة تمامًا. فالأشياء الفردية الجزئية هي وحدها الحقيقية، وهي وحدها التي يمكن أن تكون موضوعًا لتجربة تُزوِّدنا بمعرفة يقينية مباشرة. ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تفسيرًا للوجود، فلن يُفيدنا ذلك الجهاز الضخم الذي تُؤلِّفه الميتافيزيقا الأرسطية في شيء. وبهذا المعنى ينبغي أن نُفسِّر قول أوكام: «من العبث أن نستخدم الكثير فيما يمكن أن نستخدمَ فيه القليل»، وهذا هو أساس كلمته الأخرى الأوسع شهرةً التي تقول: «لا ينبغي الإكثار من الكيانات إلى حدٍّ يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة». وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا ترد في كتاباته، فقد أصبحت تُعرَف باسم «سكين أوكام». وبالطبع فإن الكيانات التي يقصدها هي الصور والجواهر وما شابهها، مما كانت تهتم به الميتافيزيقا التقليدية. ومع ذلك فإن مفكري العصور اللاحقة الذين كانوا يهتمون أساسًا بمُشكِلات المنهج العلمي، قد فسروا هذه الصيغة على نحوٍ أضفى عليها طابعًا مختلفًا إلى حدٍّ ما. فقد أصبح سكين أوكام وفقًا لهذا التفسير مظهرًا عامًّا للاقتصاد في عملية حفظ المظاهر (بمعنى تفسير الظواهر). فإذا كان هناك تفسير بسيط كافٍ، فمن العبث أن نبحث عن تفسيرٍ معقَّد.
ومع تأكيد أوكام أن الوجود إنما ينتمي إلى ما هو فردي، اعترف بأنه يوجد في مجال المنطق، الذي يبحث في الألفاظ نوع من المعرفة العامة بالمعاني. هذه المعرفة ليست مسألةَ إدراك مباشر، كما هي الحال في الأفراد، وإنما هي تجريد. وفضلًا عن ذلك فليس هناك ما يضمن أن ما وصلنا إليه على هذا النحو له وجود بوصفه شيئًا. وهكذا كان أوكام اسميًّا على طول الخط. فلا بد أن يُعَد المنطق بالمعنى الأرسطي الدقيق أداةً لفظية، وهو يختص بمعنى الألفاظ. وهنا نجد أوكام يتوسع في آراء الاسميِّين السابقين المنتمين إلى القرن الحادي عشر، بل إن بويتيوس كان قد أكد من قبل أن مقولات أرسطو تنصبُّ على الألفاظ.
إن المفاهيم أو الألفاظ المستخدمة في التخاطب نتاج بحت للذهن. وبقدر ما لا تكون قد صِيغَت في ألفاظ، فإنها تُسمَّى كُلِّياتٍ أو علاماتٍ طبيعيةً في مقابل الألفاظ ذاتها التي هي علامات اصطلاحية، ولكي نتجنب الوصول إلى نتائج ممتنعة، هي أن نحرص على عدم الخلط بين العبارات المتعلقة بأشياء والعبارات المتعلقة بكلمات، فعندما نعلم عن الأشياء كما في حالة العلم، تسمى الألفاظ المستخدمة ألفاظًا ذات مقصد أول. أما حين نتكلم عن الكلمات كمًّا فالأشياء الحال في المنطق، فإن الألفاظ تكون ذات مقصدٍ ثانٍ. ومن المهم في أي جدال أو حجة أن نتأكد من أن جميع الألفاظ لها نفس المقصد، وباستخدام هذه التعريفات نستطيع أن نُعبِّر عن الموقف الاسميِّ فنقول: إن اللفظ «كلي» ذو مقصد ثانٍ. أما الواقعيون فيعتقدون أن له مقصدًا أول، وهم في ذلك على خطأ. وهنا تتفق التوماوية مع أوكام في رفض فكرة الكليات بوصفها أشياء، كما يتفق الاثنان في الاعتراف بوجود الكليات قبل الأشياء بوصفها أفكارًا في العقل الإلهي، وهي صيغة ترجع أصلًا إلى ابن سينا، كما رأينا من قبل، ولكن على حين أن توما الأكويني رأى أن هذه حقيقة ميتافيزيقية يمكن تأييدها بالعقل، فإن أوكام رآها قضية لاهوتية بالمعنى الخاص به، وبذلك أبعدها عن الميدان العقلي. أما اللاهوت فكان في نظر أوكام مسألة إيمان فحسب، فوجود الله لا يمكن إثباته بالبرهان العقلي. وهو هنا يسير أبعدَ من دنز سكوتس، ويرفض أنسلم كما يرفض الأكويني. كذلك لا يمكن أن نعرف ألذ بالتجربة الحسية، ولا يمكن إثبات شيء بشأنه عن طريق جهازنا العقلي، بل إن الاعتقاد بالله وصفاته يعتمد على الإيمان، وكذلك الحال في تلك المجموعة الكاملة من المعتقدات الدينية المتعلقة بالثالوث وخلود النفس والخلق وما شابهها.
كان دانتي في فكره السياسي نصيرًا للسلطة الإمبراطورية القوية في وقتٍ كانت فيه الإمبراطورية قد فقدت قدرًا كبيرًا من نفوذها الواسع. وكانت الدول القومية من أمثال فرنسا وإنجلترا في صعود، على حين أخذت فكرة الإمبراطورية العالمية تتوارى. ونظرًا إلى أن نظرة دانتي كانت في عمومتها أقرب إلى العصر الوسيط، فإن هذا التغيير في مركز الثقل السياسي لم يكن في نظره هامًّا. ولو كان قد أدرك أهميته لكان من الجائز أن تتطور إيطاليا إلى دولة حديثة في وقت أقرب بكثير. وليس معنى ذلك أن التراث القديم لدولة إمبراطورية تضم كل شيء لم تكن له مزايا، وكل ما في الأمر أن العصر لم يعد يُلائمه. وكانت نتيجة ذلك أن ظلت نظريات دانتي السياسية منعدمةَ الأهمية في ميدان السياسة العملية.
وتتضمن الكوميديا الإلهية بعض المشكلات العارضة المتعلقة بوضع القدماء، وهي مشكلاتٍ تبدو لنا غيرَ ذات أهمية؛ فهو يرى أن كبار فلاسفة العصور الكلاسيكية القديمة لا ينبغي أن يُعَدوا مجرد وثنيين يستحقون العذاب الأبدي. ويستحق أرسطو «سيد العارفين» ثناءً خاصًّا. ومع ذلك فمن المؤكَّد أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا مسيحيين؛ لأنهم لم يغمدوا. وهكذا يبحث دانتي عن حلٍّ وسط؛ فالفلاسفة الأقدمون من حيث هم وثنيُّون يستحقون الجحيم، وهذا بالفعل هو المكان الذي نجدهم فيه. غير أن هناك ركنًا خاصًّا لهم هو أشبهُ بكهف مبارك وسط مكانٍ كئيب. وهكذا فإن قيود العقيدة الجامدة كانت في ذلك الحين من القوة، بحيث كان الكاتب يشعر بأن تحديد المكان الذي يستحقه كبار الفلاسفة غير المسيحيين في الماضي هو مشكلة حقيقية.
لقد كانت حياة العصور الوسطى برغم مخاوفها وخرافاتها منظمة في جوهرها؛ فالمرء يُولَد في إطار مركز معين، ويدين بالولاء للسيد الإقطاعي الذي ينتمي إليه. والكيان السياسي مقسم ومرتَّب بطريقةٍ منسقة إلى مَراتبَ لا يمكن أن يُغيِّرها شيء. وقد عمل مارسيليو وأوكام على هدم هذه التقاليد في ميدان النظرية السياسية. أما عن السلطة الروحية وهي المصدر الأول لتلك المخاوف التي قيَّدَت حرية الناس، فإن تأثيرها بدأ يضمحلُّ بمجرد أن ساد الاعتقاد بإمكان الاستغناء عن العقائد الجامدة. ولا يمكن أن يكون هذا ما قصده أوكام، ولكن من المؤكد أن هذا هو التأثير الذي مارسته تعاليمه فيما بعد على المصلحين، فلقد كان لوثر يُكِن لأوكام تقديرًا يفوق تقديره لأي واحد غيره من المدرسيين، ولكن لا يظهر لدى دانتي أيُّ أثر لهذه التحولات العنيفة. فلم تكن معارضته للبابا مبنية على أي خروج عن الخط الرسمي للكنيسة، وإنما كانت ترجع إلى تدخل الكنيسة في مسائل كانت تدخل في اختصاص الإمبراطور.
ولكن على الرغم من أن سلطة البابا كانت قد تقلصت كثيرًا في أيام داشي، فإنه لم يَعُد في وُسع أي إمبراطور ألماني أن يحتفظ بسلطته في إيطاليا، وبعد عام ١٣٥٩م عندما نُقِل مقر البابا إلى أفينيون أصبح البابا يكاد يكون أداة في يد ملك فرنسا، وأصبح الخلاف بين البابا والإمبراطور صراعًا بين فرنسا وألمانيا، أما إنجلترا فقد انحازت إلى صف الإمبراطورية الألمانية، وعندما أصبح هنري السابع أمير لوكسمبرج إمبراطورًا في عام ١٣٠٨م، بدا وكأن الإمبراطورية قد تستعيد قواها مرةً أخرى، وتغنى به دانتي بوصفه منقذًا، غير أن نجاح هنري كان ناقصًا ووقتيًّا؛ فبرغم زحفه إلى إيطاليا وتتويجه في روما عام ١٣١٢م، عجز عن تأكيد سلطته إزاء نابولي وفلورنسه، ومات في العام التالي، أما دانتي فمات منفيًّا في رافينا عام ١٣٢١م.
ومع نهوض اللغات الشعبية، فقدت الكنيسة قدرًا من سيطرتها على الأنشطة العقلية في الفلسفة والعلم، وفي الوقت ذاته حدث تفجر هائل للأدب الدنيوي، بدأ في إيطاليا وانتقل تدريجيًّا إلى الشمال. وأدى اتساع مجال البحث مصحوبًا بقدرٍ من روح الشك، ناتج عن الفجوة بين الإيمان والعقل إلى إبعاد أذهان الناس عن الأمور التي لا تنتمي إلى هذا العالم، وعلمهم أن يُحاولوا تحسين أوضاعهم أو تغييرها على الأقل، كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتكشف في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ولكن دانتي لم يتنبَّأ بها، وإنما كانت عيونه تنظر أساسًا إلى الوراء؛ إلى عصر فردريك الثاني، وبينما كان عالم العصور الوسطى يتسم من حيث المبدأُ بالمركزية، فإن القُوى الجديدة في عصر النهضة اتجهت إلى كسر طوق البناء الموحد للمجتمع الوسيط، ولكن يبدو أن فكرة الحكم العالمي قد تعود إلى الظهور مرةً أخرى في عصرنا هذا، وإن كان ذلك راجعًا إلى أسبابٍ مختلفة.
وفي عام ١٣٥٢م نجح البابا كليمنت السادس في إيقاع رينزي في الأسر، ولم يُطلَق سراحه إلا بعد عامَين من موت البابا. وقد عاد رينزي إلى الحكم في روما، غير أن الجماهير فتكَت به بعد بضعة أشهر.
وكان ويكليف قَسًّا دنيويًّا، وتُعَد أعماله الفلسفية الخالصة أقلَّ أهمية من أعمال الفرنسسكان. وقد تخلى عن نزعة أوكام الاسمية، وكان ميالًا إلى نوع من الواقعية الأفلاطونية، وعلى حين أن أوكام قد نسب إلى الله حرية وقدرة مطلقة، فإن ويكليف كان يميل إلى أن يرى الأمر الإلهيَّ ضروريًّا وملزمًا له، ولا يمكن أن يكون العالم على خلاف ما هو عليه، وهو رأي كان مستوحًى كما هو واضح من المذهب الأفلاطوني الجديد، وقد عاد إلى الظهور في القرن السابع عشر في فلسفة اسبينوزا، وفي أخريات حياة ويكليف أصبح يعارض الكنيسة، وذلك أولًا بسبب طريقة الحياة الدنيوية التي كان ينغمس فيها البابوات والأساقفة، في الوقت الذي كانت فيه جماهير المؤمنين تُعاني من فقر مُدقِع، وفي عام ١٣٧٦م أعرب عن رأي جديد في الحكم المدني خلال مجموعة محاضرات ألقاها في أكسفورد.
لو تساءلنا عن الفارق الأساسي بين النظرة اليونانية ونظرة العصور الوسطى إلى العالم لأمكننا القول إن الأولى لم تكن تنطوي على شعور بالخطيئة. فالإنسان عند اليونانيين لا يبدو في صورة من يحمل عبئًا شخصيًّا موروثًا من الإحساس بالإثم. صحيح أنهم ربما لاحظوا أن الحياة في هذه الدنيا شيء محفوف بالخطر، يمكن أن يُسحَق بفعل نزوة من نزوات الآلهة. غير أن هذا لم يكن يُتصوَّر أبدًا على أنه قصاص حق وعدل على شرور ارتُكِبَت في الماضي، وترتب على ذلك أن العقل اليوناني لم يعرف مشكلة الخلاص أو النجاة، ومن هنا كان التفكير الأخلاقي لليونانيين في عمومه بعيدَ الصلة عن الميتافيزيقا، أما في العصور الهلينستية، وخاصة عند الرواقيين، فقد تسللَت إلى الأخلاق نغمةُ استسلام قانع انتقلت فيما بعد إلى الفرق المسيحية الأولى، ولكن مجمل القول إن الفلسفة اليونانية لم تُواجَه بمشكلاتٍ لاهوتية، ومن ثَم ظلت دنيوية تمامًا.
أما عندما سيطرت العقيدة المسيحية على الغرب، فقد طرأ على الموقف الأخلاقي تغيرٌ جذري؛ ذلك لأن المسيحي نظر إلى الحياة الأرضية على أنها مرحلة إعداد لحياة آتية أعظم شأنًا، ونظر إلى تعاسة الحياة البشرية على أنها امتحانٌ فُرِض عليه؛ لكي يُطهِّره من وزر الخطيئة الذي ورثه منذ مولده. غير أن هذه في الحقيقة مهمة تفوق طاقة البشر، فلكي يجتاز الإنسان الامتحان بنجاح، يحتاج إلى المعونة الإلهية التي قد تستجيب أو لا تستجيب، وبينما كانت الفضيلة عند اليونانيين هي في ذاتها مكافأةً وجزاءً لنفسها، فإن المسيحي يتعين عليه أن يكون فاضلًا لأن الله يأمره بذلك، وبالرغم من أن اتباع طريق الفضيلة الضيق قد لا يضمن في ذاته الخلاص، فإنه على أية حال شرطٌ ضروري له. وبالطبع فإن بعض هذه التعاليم ينبغي أن يُؤخَذ على أساس الثقة والإيمان، وهذه هي الحالات التي تتدخل فيها المعونة الإلهية قبل غيرها؛ ذلك لأن الفضل الإلهي هو الذي يُكسِب الإنسان الإيمان، ومن ثم يجعله يلتزم بأحكامه. أما أولئك الذين يعجزون عن أن يَخطوا هذه الخطوة الأولى ذاتها، فإن اللعنة تلحقهم إلى الأبد.
ولكن عندما أنكر المفكرون الفرنسسكان هذا الاحتمال، ورأَوا أن العقل والإيمان لا صلة لأحدهما بالآخر، أصبح المسرح مهيئًا لاضمحلال تدريجي لوجهة نظر العصور الوسطى. ولم تعد للفلسفة وظيفة تُمارِسها في الميدان اللاهوتي، وهكذا فإن أوكام بتحريره للإيمان من كل ارتباطٍ ممكن بالبحث العقلي وضَع الفلسفة على الطريق المؤدي ثانيةً إلى العلمانية. ومنذ القرن السادس عشر لم تعد الكنيسة هي المسيطرةَ في هذا الميدان.
وفي الوقت ذاته أتاحت هذه الازدواجية للناس أن يحتفظوا بالانفصال القاطع بين أوجه نشاطهم في كلٍّ من الميدان العقلي والميدان الديني، وإنه لمن الخطأ البيِّن أن نرى في هذا نفاقًا؛ فقد كانت هناك وما تزال أعداد كبيرة من البشر لا يسمحون لمعتقداتهم العملية بالتدخل في معتقداتهم الدينية، بل إن من المؤكد، على عكس ذلك، أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُخلِّص العقيدة من هجمات الشك؛ ذلك لأنه عندما يدخل اللاهوت في ساحة الجدل يكون لِزامًا عليه أن يُسايِرَ قواعد المناقشة المنطقية.
ومن جهةٍ أخرى، فإن المرء يصل إلى طريقٍ مسدود تمامًا كلما حاول أن يَقبل بالإيمان قضية لا تتمشى مع نتائج البحث التجريبي.
فلنتأمل مثلًا عمر الكوكب الذي نعيش فيه؛ إن العهد القديم يحسبه بحوالي خمسة آلاف وثلاثة أرباع الألف، ومن يتمسك بحرفية العقيدة، فعليه أن يؤمن بذلك، ولكن الجيولوجيين يُقدِّمون إلينا أدلة تُقنِعنا بأن عمر الأرض يَزيد عن أربعة آلاف مليون سنة، وهكذا ينبغي تعديل أحد هذَين الاعتقادَين ما لم يكن الباحث المتدين على استعداد لأن يؤمن بأحد الرأيَين يوم الأحد وبالرأي الآخر بقية الأسبوع. والمسألة الهامة هنا هي أنه حينما تتعارض المبادئ الدينية مع نتائج البحث العلمي، يكون الدين دائمًا في موقف دفاعي، ويتعين عليه أن يُعدِّل موقفه؛ ذلك لأن الأمر الطبيعي هو أن الإيمان ينبغي ألَّا يتعارض مع العقل. ولما كان التعارض يقع هنا في ميدان الجدل العقلي، فإن الدين هو الذي ينبغي عليه أن ينسحب دائمًا، ولكن باستثناء هذا التحفظ، فإن الموقف الديني بعد الانسحاب يظلُّ متميزًا ومنفصلًا.
لقد أظهر الفلاسفة المدرسون، في محاولاتهم تقديم تفسير عقلي للعقائد الدينية بقدر ما يكون ذلك ممكنًا، قدرًا كبيرًا من الذكاء وحِدَّة الذهن في أحيانٍ كثيرة، وكان تأثير هذه التدريبات العقلية على المدى الطويل هو شحْذَ الأدوات اللغوية التي ورثها مفكرو عصر النهضة فيما بعد. وربما كان هذا أعظم إنجاز حققته الحركة المدرسية. أما الشيء الذي يعيبها فهو أنها لم تُعطِ الأهمية الكافية للبحث التجريبي، وهو نقصٌ كان على العلماء الفرنسسكان أن يلفتوا الأنظارَ إليه. ولقد كان من الطبيعي أن يتم التقليل من قدر النتائج التي تتوصل إليها التجربة في عصر كان يهتم بالإلهيات والعالم الآخر أكثر من اهتمامه بمشكلات هذا العالم. أما مُفكِّرو عصر النهضة، فقد أعادوا الإنسان مرةً أخرى إلى مكان الصدارة. وفي مثل هذا الجو يُقدِّر النشاط الإنساني لذاته، وبالتالي يخطو البحث العلمي بدوره، خطواتٍ جديدةً جبارة.
لقد كان الشيء الذي ميز الغرب عن بقية العالم خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية هو في نهاية المطاف أخلاق الفعالية والنشاط، وكما أن التكنولوجيا الغربية قد غزَت العالم، فكذلك اكتسبَت الأخلاقُ المتمشِّية معها قدرًا لا يُستهان به من النفوذ المتجدِّد.