سُوق الكانتو
غاص حسونة في سوق الكانتو متأبطًا لُفافة كبيرة من الورق. كانت شمس الصيف الحامية تلهب الجموع الحاشدة، وقد اصطفَّت على الجانبين عشرات من عربات اليد مثقلة بالملابس والأوعية والأواني والأدوات القديمة. قصد حسُّونة عربة رمضان، ولكن منعه من الوصول إليها سياج من الجلابيب والملاءات اللف، ولم يُجدِ صياحه في اختراق هدير صاخب من أصوات النداءات والمساومة والسبِّ. ورصده حتى التفت ناحيته، فصرخ بأعلى صوته: يا معلم رمضان!
انتبه الرجل إلى مصدر الصوت؛ فلوح له حسونة بذراعه صائحًا: معي هدية!
وشق رمضان طريقه إليه بجهد قاسٍ حتى بلغه، ثم سأله: بيع أم شراء؟
فضحك حسونة عن أنياب كالأسياخ، وقال: ربنا لا يقطع لنا عادة.
– ما معك؟
– جاكتة.
وضح الاهتمام في وجه رمضان، فتناول اللفافة ثم استخرج الجاكتة ليتفحصها. جاكتة رمادية في حالة جيدة كبيرة الحجم حتى لتصلح معطفًا لحسونة. وسأله بلهجة ذات معنًى: من أين؟
فأجابه وهو يغمز بعين حمراء: اطمئن.
ودسَّ رمضان في يده ورقة من ذات الخمسة والعشرين، وهمَّ بالرجوع، ولكن حسونة تعلق بذراعه وهو يقول: عملي ليس نزهة، ليس نزهة.
وبعد دفع وجذب رمَى له بخمسة قروش بحركة نهائية قاطعة، ثم شقَّ طريقه مرة أخرى إلى عربته.
وجال حسونة في أطراف السوق فابتاع أربع سجائر، ورغيفًا، ولحمة رأس، ثم مضى إلى جدار المرحاض العمومي فجلس في ظلِّه، وراح يدخن سيجارة بهدوء مؤجلًا الأكل إلى حين. شنكل! تخيل وجهه القاسي ورأسه المشوه بالندوب. وارتعد جسمه الضئيل. لو شكَّ في لحظة واحدة انتهيت.
وتناول طعامه، ولكن وجه شنكل سد حلقه.
وفي الليل لبد عند المنور يتنصت. وسمع صوت شنكل وهو يسأل بغلظة: أين الجاكتة يا ولية؟
فأجابت المرأة: لم تلمسها يدي.
– زارك أحد؟
– أبدًا.
– خرجت؟
– أبدًا.
– عفريت أخذها؟
– ربنا يعلم.
وترامت إليه دمدمة عراك فارتعد في مكمنه.
– يا مجنون .. يا وحش.
– تعضينني يا كلبة؟
– يعني أموت وأنا ساكتة؟ .. ما قيمة جاكتة؟
– يا خرابي، فيها ما يساوي تعب عمر يا مجرمة.
ابتعد حسونة عن المنور، وهو يغمغم في ذهول: «تعب عمر!» انتقل من سطح الربع الذي يسكنه شنكل إلى السطح الملاصق له قاصدًا غرفته الخشبية. تعب العمر؟! ولكن كيف! لقد فتش الجيوب جيبًا جيبًا فلم يعثر على شيء! البطانة. أجَل البطانة. ولكن كيف كان له أن يتخيل ذلك؟! يجب أن يعثر على رمضان بأي ثمن. ولكن هل يرتاب شنكل في أمره؟ هل يتصور أن خروفًا يجرؤ على اقتحام عرين الأسد؟ إن عمره يُعدُّ بالدقائق إذا لم يحصل على تعب العمر، ويرحل عن البلد.
وغادر ربعه للبحث عن رمضان. وجَدَ سوق الكانتو خاليًا إلا من شعاع خافت ينبعث من مصباح عمومي في أقصى طرفه الشمالي. ولم يعثر له على أثر في قهوة الجوهري، ولا في مجلسه بسوق الخضار، ولا في غرزة أم الغلام. أتراه يعد النقود في بيته؟ ولما لم يكن يدري أين مسكنه فقد رجع إلى سوق الكانتو عازمًا على قضاء الليل فوق الطوار، ليكون أول مستقبِل له في الصباح.
وجلس القرفصاء أقرب ما يكون إلى المصباح. ضيعت ثروة يا حسونة الكلب. ولكن من كان يصدق أن شنكل يترك ثروة في باطن جاكتة مسروقة؟ وسمع وقع أقدام تقترب، فنظر نحو الظلام فرأى شبحًا قادمًا. وعندما دخل القادم مجال الشعاع وضحت معالمه بعضَ الشيء فإذا به شنكل! ملأه الرعب فانتتر واقفًا بلا وعي، فعرفه الرجل ورماه بنظرة سمَّرت قدميه في موضعه: حسونة!
فقال بصوت متهدِّج: نعم يا معلم.
– ما لك مكومًا كالزبالة!
– رأسي ثقيل، فقلت أنام في الهواء.
وصفعه كأنما يجود عليه بإحسان، وسار في طريقه. لم يصدق عينيه، وتبعه بنظره حتى اختفى وهو لا يصدق عينيه، كلا، إنه لا يشك فيه؛ وإلا ما أعلن عطفه بتلك الصفعة! ما أعمى الخوف! أليس هذا بطريقه الذي يخترقه كل ليلة إلى سوق الخضار؟ وتنهد في إعياء ثم تداعى على الأرض.
واستيقظ مبكرًا والحياة تدب في السوق. وما لبث أن رأى رمضان قادمًا يدفع عربته، هُرع إليه بلا تدبير وقال بلا تمهيد: معلم رمضان، أين الجاكتة؟
رمقه الرجل بازدراء وهو يتمتم: «يا فتاح يا عليم.» لما كرر الآخر سؤاله بلهفة أحد سأله: لمَ تسأل عن شيء لا يخصُّك؟
– الجاكتة يا رمضان؟
– عليك عفريت اسمه جاكتة؟! بعتها.
– بعتها! يا خبر أسود، بعتها يا رمضان؟ لمَن؟
أجاب بارتياب: عطية الحلواني.
– يا خبر أسود يا رمضان.
وضاق به فزعق: انطق!
سأله بعينين مجنونتين: ماذا وجدت فيها؟
فصفعه إعرابًا عن حسرته، وهو يسأله بكراهية: ماذا كان فيها؟
– تعب عمر!
– عمر مَن؟
– شنكل.
ارتعد الرجل فهتف: شنكل! .. تبيع لي مصيبة!
– ولكن مصيبة بيعها أكبر.
– صحيح إنك نحس.
– البطانة يا رمضان.
فكَّر رمضان يائسًا، ثم قال متنهدًا: لا فائدة من النُّواح، انتظر الليل حتى يرجع الحلواني من حلوان.
وقطع الكلام عندما رأى زبونًا واقفًا ينتظر لم يدرِ متى ولا كيف جاء! وتفحَّص حسونة الزبون باهتمام وقلق ثم ابتعد.
وعند المساء ذهبا معًا إلى قهوة الجوهري، فوجدا عطية الحلواني منهمكًا في عشرة دومينو. فصافحه رمضان وقدم له حسونة، ثم اشتركا في اللعب. وغادروا القهوة معًا لإتمام السهرة في حجرة الحلواني، فمشوا جنبًا إلى جنب في شارع الموسكي في شبه ظلام تتخلله أنوار متباعدة خافتة. وجعلا يحاوران الشاب بجهد متكلف، وهما يفكران في شيء واحد، ودون مناسبة قال رمضان: إن شاء الله تكون الجاكتة موفَّقة.
فقال الحلواني وهو يتثاءب: طبعًا، ولكنها تحتاج إلى تضييق، (ثم وهو يلكزه ضاحكًا) وتغيير لون، سلمتها أمس إلى عبدون الرفَّاء.
وماتت رغبتهما في مصاحبته، ولكنهما لم يجدا بدًّا من الذهاب. وغادروا الحجرة قبيل الفجر، وهما يترنحان فقال حسونة متأوهًا: فاز عبدون بتعب العمر.
فهتف به: سنرى، أنت من يوم مولدك نحس.
– أنا في حاجة إلى النقود لأهرب.
فقبض على قفاه وهو يسأله: وأنا؟ سيظنني شريكك.
فتخلص من يده قائلًا: إنه لا يدري شيئًا عن علاقتنا.
وفي الصباح ذهبا معًا إلى دكَّان عبدون الرفاء وهو يتأهب للعمل، وعانقه رمضان معانقة الخلَّان، ثم جلس ثلاثتهم على أريكة في نهاية الدكَّان التي كانت أشبه بدهليز ضيِّقٍ غائص في الجدار.
ومال رمضان على أذن عبدون، رغم أنه لم يكن معهم رابع وهمس: لا أحب أن أشغلك عن عملك في ساعة الصبح، ولكنا جئنا بخصوص الجاكتة التي سلَّمها لك عطية الحلواني.
فسأله عبدون بدهشة: ما لها؟
– هل قمت بالمطلوب لها؟
– لم أمسها بعدُ.
تنهد رمضان وحسونة بارتياح، وقال رمضان: تلزمنا بعض الوقت، دقائق لا أكثر.
فقال الرجل بقلق: حدَّ الله! .. إنها أمانة.
– عيب يا عبدون، ستكون عندك بعد دقائق.
نظر إليه بارتياب، وردد عينيه بين الرجلين، وابتسم ابتسامة خبير، ثم نهض إلى كومة من الملابس المعلقة في الجدار، ففرَّها بسرعة حتى استقرت يده على الجاكتة الرمادية فنزعها، وراح يتحسسها باهتمام حتى استكنَّت يده فوق أسفل البطانة. وحدج رمضان بنظرة ساخرة، فقال الرجل: أحببت أن نقوم بشغلنا بعيدًا عنك.
هزَّ عبدون منكبيه استهانة، ورمى الطريق بنظرة حذرة، ثم رجع إلى الأريكة ويده تفك البطانة بخفة، ثم استخرج رزمة من الأوراق المالية. ندَّ عن حسونة صوت كالشهقة، وقلق رمضان في مجلسه، أما عبدون فبدا نهمًا مصممًا، وقال رمضان بلهفة: فلنقتسمها بسرعة قبل أن يجيء أحد.
عند ذاك اختفى النور الهادئ الوارد من الطريق، ولكنهم لم ينتبهوا لذلك. وارتفع صوت كالخُوار يقول بقسوة: عفارم عليكم.
تحولت الرءوس في فزعٍ نحو الباب. وجدوا أمامهم شنكل. شنكل بكل ما أُوتي من طول وعرض وكريه منظر يسد الباب سدًّا. صاح عبدون: أنا عبد المأمور، ولا دخل لي في شيء!
وصاح رمضان: عليَّ الطلاق ما أعرف صاحبها!
وخرس حسونة فلم ينطق. ودخل الرجل على مهَل، حتى تناول الرزمة من يد عبدون المرتجفة. والتفت نحو حسونة قائلًا: هل ظننت أن عيني غفلت عنك دقيقة واحدة؟
فتح الرجل فاه، ولكن شنكل لطمه بيد كالمطرقة؛ فاندلق من ركن الأريكة فوق الأرض وهو يتأوه وكأنه يتقايأ. وقال له بهدوء مخيف: اختفِ إن كنت تحب الحياة.
واستدار ليغادر المكان ولكن صفارة انطلقت. وطُوق باب الدكان في ثوانٍ بالمخبرين.
ودخل الضابط شاهرًا مسدسه، وهو يقول بلهجة آمرة: كل واحد في مكانه.
وانقض عليهم المخبرون قبل أن يفيقوا من ذهولهم. وقال الضابط يخاطب شنكل: أتعبتنا أسبوعًا كاملًا، الله يتعبك.
وعند الظهر وقفت سيارة مرسيدس أمام القسم، وغادرها رجل ربعة بدين ذو لغد هائل. قابل ضابط المباحث فصافحه، ثم جلس وهو يقول: جئت بناءً على إشارتك.
فقال الضابط: قُبِضَ على سارق جاكتتك، ووُجدت نقودك كاملة لم تُمَس، وسوف تتسلَّمها في الوقت المناسب، ولكن ينبغي أن نبقى لإتمام بعض الإجراءات.
رمق الوجيه على سيف الضابط بنظرة امتنان، وتمتم: همَّة عظيمة حقًّا!
فقال الضابط بلهجة ساخرة، وهو يتفحصه بنظرة ذات معنًى: أرجو أن تكون في موضعها.
وقلق الوجيه وتأكدت ظنون طالما ساورته، ولكنه كان شديد الحذر، وعليه أن يستزيد من هذا الحذر مستقبلًا. واستطرد الضابط قائلًا بلهجته الساخرة: مبارك عليك. المال الحلال لا يضيع!