وجهًا لوجه
في أقصى مكان بالحديقة جلسا شبه منفردين. وطيلة الوقت تبادلا نظرة مفعمة بالتطلع والهناء، وهما يحسوان الليمونادة: ستكون سهرة طيبة بسينما ركس.
– والفيلم عن قصة غرامية مشهورة، فهو يناسبنا جدًّا.
ابتسمت لتعليقه. وكان الفانوس الأنيق يبعث ضوءًا هادئًا، فأضفى عليهما غموضًا فاتنًا. وسطعت رائحة الياسمين المطل من ثغرات التكعيبة المطوقة للحديقة الصغيرة، ولم يكن بطرفها الآخر إلا زوجان مثلهما غارقان في التهامس. ونسمة لطيفة مشحونة برطوبة أغسطس ترددت من آن لآن.
وقال حامد: كالحلم، كثيرًا ما قلت ذلك لنفسي.
– هو كذلك، لكنه حلم جميل.
منذ رآها في رأس البر في يوليو الماضي وهو يردد ذلك. بعد اختفاء خمسة عشر عامًا رآها عند اللسان ساعة القيلولة. التقت عيناهما في نظرة تذكر وعرفان. وابتسما بلا خطة. تقدم منها مادًّا يده فصافحته. أتذكرين مصر الجديدة؟ نعم .. شارع الزقازيق. منذ ذلك الوقت لم أركِ.
بلى، متزوجة وخارج القاهرة أكثر الوقت. وتقابلا في الصباح التالي، فعلم أنها مطلقة من عام، وأن ابنها الوحيد قد ضُم إلى حضانة أبيه. وغادرا المصيف في يومين متعاقبين، وهما على تفاهم وميعاد.
– ها نحن الآن نفكر فيما كان يجب أن نفكِّر فيه منذ خمسة عشر عامًا!
فابتسمت سهام قائلة: القسمة والنصيب.
– وكنت أراك كل يوم تقريبًا.
– أذكر ذلك.
– وكنت معجبًا بكِ.
– ولكنك .. أعني لم تفصح بأي وسيلة عن ذلك الإعجاب.
قال بنبرة المعتذر: كنت وقتذاك مترجمًا صغيرًا بالخارجية، ومرشحًا لبعثة.
– والعواطف أكانت محرمة على صغار المترجمين؟
فضحك ضحكة مقتضبة، ثم قال: ليس من السهل التحدث عن خيال الشباب!
– أمَّا أنا فقد انتظرت حتى ضقت بالصمت.
– وبلغت أنا الأربعين ولم أتزوج.
بعد تردد وهي تبتسم: لماذا؟ .. مجرد سؤال لا يتضمن أي اعتراض بطبيعة الحال.
– سرقني الوقت، كثيرون يمضون هكذا.
اتجهت عيناها لحظات إلى العاشقين في الطرف الآخر للحديقة. ناضجة تمامًا، وهو من حسن الحظ يفضل ناضجات نصف العمر.
– وعندما قابلتك بعد خمسة عشر عامًا من الاختفاء، وجدتكِ مطلقةً وحزينة لحرمانك من ابنك، فتذكَّرت بقوة غير متوقعة أنني بلغت الأربعين دون زواج، وقلت لنفسي: لعل هذا اللقاء قد تم ليصحح أكثر من خطأ.
وترامت نشرة أخبار الثامنة والنصف من مقهى بالسوق وراء محل بيجل، فاقتحمت مجلسهما الهادئ المعبق بالياسمين. وتساءل حامد: هل الحرب حقًّا وشيكة الوقوع؟
فقالت باستهانة: هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم.
– صدقت، المهم أن نتزوج في أقرب وقت ممكن.
عكست عيناها نظرتين متعاقبتين، الأولى مشرقة والأخرى غامضة دارتها بابتسامة، فقال: لا شك أنكِ فكرت في ابنك.
– أنت تقرؤني جيدًا، ولكني على الحالين لن أراه إلا نادرًا.
– يمكن الاتفاق على ذلك مع زوجك.
– لن يذعن، إنها العداوة العمياء.
طالعها بنظرة إنكار فاستطردت: أكثر أعوام المعاشرة احترقت بنار العداوة. واستمرت بفضل تعلقي بابني، حتى أدركني اليأس.
– سينسى الرجل العداوة مع الزمن.
– ليس هو بالرجل الذي ينسى.
– أمر مؤسف حقًّا.
– المهم أن تفكر طويلًا قبل …
– فكرت طويلًا ثم اخترتك عن اقتناع وحب.
قالت برضًى: الواقع أني أشعر بغربة شديدة في بيت أختي، بالرغم من أن حالتي المالية لا بأس بها.
– إني أدرك ذلك يا عزيزتي، لكن أتسمعين؟ هل حقًّا ستقع الحرب؟
ابتسمت ابتسامة دارت بها ضيقها بقطع تيار الحديث الأول، وقالت: لم تعد الأقوال تنطلي عليَّ.
– الحالة أحرج مما تظنين.
– أهي تزعجك لهذا الحد؟
– إيطاليا رابضة في ليبيا.
رنَت إليه بنظرة هادئة، فاستطرد: وهي رابضة أيضًا في الحبشة، أتدركين معنى ذلك؟
– ولكن الإنجليز …
– الإنجليز، إمَّا أنهم ضعفاء كما يؤكد موسوليني، وإمَّا أنهم أقوياء كما يدَّعون. وفي الحالين سنتعرض لأهوال الغزو.
– أنت منزعج كما لو أن الحرب ستُعلن عليك أنت! بالله خبرني لماذا ترى أن يتم الأمر في أقرب وقت ممكن؟
– آه .. نعم يجب أن يتم الزواج في أقرب فرصة؛ لأنني عرضة للنقل إلى الخارج في أول حركة قادمة.
– عندك فكرة عن المكان المحتمل أن تُنقَل إليه؟
– فرنسا، تصوري أن يمضي شهر العسل في باريس!
– يا له من خيال! ولو أن ابني سيبقى في كفر الشيخ.
– سوف ترينه يومًا وهو رجل كامل، أما إذا قامت الحرب …
– لن يتم النقل، هذا كل ما هنالك.
– لن يمكن التكهن بشيء.
– سنبقى هنا غالبًا وليس في هذا ما يضير.
– آه، يا عزيزتي! هل تدركين معنى ضرب بلد كبلدنا بقنابل الطيارات؟
– لماذا يضربوننا؟ لسنا أعداء لأحد.
– سوف يتداعى كل قائم للخراب.
– لا أصدق هذا.
– لماذا؟
– قلبي مطمئن في صدري.
– ما أجمل أن يطمئن إنسان في هذه الظروف!
ضحكت في رقة بالغة، وسألته: هل عرفتني في رأس البر من النظرة الأولى؟
– طبعًا.
– إذن لم أتغير كثيرًا؟
– أنتِ أجمل مما كنت إن يكن ذلك ممكنًا.
– لا تبالغ، ألم تترك سن المبالغات؟
– الحب لا يعترف بالزمن.
– أنا لم أسافر إلى الخارج من قبل.
– باريس عروس الدنيا، صدقيني.
– فرنسيتي ليست على ما أودُّ، ربما التحقت بمعهد مناسب.
– أما إذا قامت الحرب ونحن في باريس؟
– الحرب أيضًا!
– لتقم الآن إذا كانت تنوي ذلك.
– في باريس يمكن أن نرحل إلى بلد محايد كسويسرا.
– كل شيء يتوقف على ما يصيب وطننا هنا.
– أنا مطمئنة كما قلت لك، ولكن لماذا تقوم الحروب؟
– العداوات، الألمان يستعدون لهذا اليوم منذ أكثر من عشرين سنة.
– عشرون سنة! إذن كيف يمكن أن تُنسى عداوة؟
وهو يضحك: الناس لا ينسون العداوات، ولكن من حسن الحظ أنهم يتزوجون رغم ذلك!
غادرا الحديقة وهي تتأبط ذراعه، وشقا سبيلهما بين الموائد في محل بيجل الداخلي حتى انتهيا إلى شارع سليمان. ورغم الحرارة المرتفعة جرت نسمة الليل، وومضت في السماء مئات النجوم فوق هامات العمارات الشاهقة. واقتربا في طريقهما من قهوة ليموند. كان يقف عند مدخلها ماسح أحذية مائلًا إلى الجدار في تراخٍ، يقبض بيد على صندوقه ويعبث بالأخرى بشارب ثائر غليظ كأن شعيراته قُدَّت من أسلاك حديدية. رَبعةٌ مليءٌ، يرتدي فوق جلبابه سترة محلَّاة ببطاقة خضراء تحمل اسم القهوة بأحرف بيضاء. وظهر عند رأس عطفة جانبية ملاصقة لجدار القهوة رجلان مجلببان. نادى أحدهما ماسح الأحذية قائلًا: يا عم .. من فضلك.
استقام الرجل في وقفته، ثم اتجه نحو الرجلينِ اللذينِ وقفا داخل العطفة بعيدًا عن أنوار الشارع. وبلغ ماسح الأحذية موقف الرجلين عندما كان حامد وسهام يسيران بحذائه. وبغتة رفع الرجل الذي ناداه يده بهراوة إلى أقصى الذراع، ثم هوى بها بكل قوة فوق رأسه. صرخ الرجل متراجعًا إلى الشارع، وقد سقط الصندوق من يده. وتشبثت سهام بذراع حامد وهي ترتعد. وفي نفس الوقت رفع الرجل الآخر يده بهراوته، وهوى بها فوق رأس الرجل المترنح، فوقع على ركبتيه متأوهًا: آه .. انجدوني.
تتابعت الضربات من الرجلين بسرعة في قسوة وعنف وإصرار، حتى تهشَّم الرأس وغرق في بحيرة من دماء. وحملقت سهام في المنظر الدموي بلا إرادة ثم شهقت وتداعت مغمًى عليها؛ فتلقَّاها حامد بين ذراعيه. وارتفع الصياح، وهُرع الناس إلى المكان من جميع الجهات، وهبَّ الجالسون على الطوار من رواد القهوة وقوفًا يتطلعون، ثم قدم شرطي جريًا وهو يصفر.
لم يجرِ القاتلان، لم يحاولا الهرب قطُّ، وظل كلاهما قابضًا على هراوته الملطخة بالدماء، وعيناهما تعكسان نظرات وحشية متحجرة. وقال أكبرهما: نحن تحت أمر الشاويش، ولكن حذار أن يقترب منكم أحد.
حمل حامد سهام بين ذراعيه ومضى بها إلى مشرب عصير قريب من القهوة. أجلسها على مقعد في أقصى المحل، وراح يربت على خديها برفق، وسأله صاحب المحل: أطلب الإسعاف؟
فأجاب وهو يبلل منديله بالماء: انتظر لحظة من فضلك، ربما أفاقت دون حاجة إلى مساعدة.
وجعل يمسح بالمنديل المبلل وجهها وعنقها حتى عجن البودرة بالأحمر بالكحل، هذا والضجة في الخارج تتزايد، وسِباب يُتبادل بلا حساب. وفتحت سهام عينيها، رنَت بهما إلى وجهه في ذهول. وقلَّبتهما في الوجوه بدهشة، ثم غمغمت: أنا تعبانة.
فقال لها وهو يواصل مسح وجهها ليزيل عنه الأصباغ تمامًا: سآتيك بكوب عصير.
شربت قليلًا فيما يشبه التقزز، وغمغمت مرة أخرى: منظر فظيع لا يمكن أن يُنسَى.
– سيُنسَى كل شيء حتمًا.
– ووقع الضربات على الرأس .. آه.
– شدِّي حيلك، يجب أن نذهب.
وإذا بصرخة تفلت منها، وهي تشير إلى قميصه بعصبية منذعرة. نظر في مرآة فرأى رشاشًا من الدم قد لوث أعلى قميصه فتقلَّص وجهه، ورأى مثله فوق صفحة حقيبتها البيضاء وثنية شالها. بلَّ منديله للمرة الرابعة وراح يزيل آثار الدم عن القميص والحقيبة والشال، فهتفت: هل لوثني أيضًا؟
– لم يعد هناك شيء، انظري بنفسك.
عاودتها الرعدة، فقال بجزع: لا شيء خطير ألبتة، لسنا أطفالًا على أي حال.
– لا تترك نقطة واحدة.
– طبعًا .. طبعًا. استريحي واهدئي.
أغمضت عينيها في إعياء واستسلام، ورجع أناس من مكان الحادث إلى مقاعدهم، وهم يتبادلون التعليقات، فسأل صاحب المحل الذي لم يستطع مغادرته: كيف حال جاد الله؟
– مات وشبع موتًا.
– مسكين، لكنه رجل طيب ولا أعداء له؟
– القاتلان ليسا من البلد، صعيديان من أبنوب.
– ما له وأبنوب؟ .. عرفته هنا منذ عشرين عامًا.
– ثأر قديم، هذا مؤكد.
وقال رجل بلهجة تلخيصية: لعله جاء من بلده هاربًا، ثم عثروا عليه فانتهى عمره الليلة، حكاية لم تعد تدهش أحدًا.