الهارب من الإعدام
غزا الجيش الألماني الأراضي البولندية …
انطلق الخبر من راديو مثبَّت في كوَّة بجدار الحجرة الوحيدة القائمة في الخرابة، وترامى خارج الأسوار في أرض الخفير الواسعة، وصاح دحروج بحدة: هس .. اسمع أنت وهي.
سكت عن الزياط الولد وأخواته الثلاث. ولما رأوا الجِد في وجه أبيهم تسللوا بين أكوام الخردة وإطارات السيارات وقطع الغيار إلى الطرف القصِي من الخرابة، وهناك واصلوا لعبهم في أمان. وتوقفت آمنة عن نشر الغسيل رافعة رأسها فوق الحبل ما بين قضيب بنافذة الحجرة وسقف لوري قديم، وصاحت بزوجها محتجَّة: أفزعت العيال، ملعون الراديو وأخباره!
تجاهلها دحروج في غير ما غضب، وأخذ النَّفَس الأخير من عُقب سيجارة ممسك بأنمليه، ثم قال: إذن هي الحرب!
أدرك سلامة أن الكلام موجه إليه، فرفع رأسه عن عجلة كان يعالج إطارها، وحدج الرجل بعينين تلتمعان وسط لحية سوداء غزيرة تكتنف الوجه وتسترسل حتى الرقبة، ثم قال باستهانة: نعم، أخيرًا صدقوا.
وانتهز سلامة فرصة تحوُّل رأس دحروج نحو الصوت، فاسترق إلى المرأة نظرة استقرت فوق وجهها المشرئب ثم انحدرت إلى جسمها الممشوق الريَّان الصدر. ولمحته المرأة قبل أن يستردها كأنما توقعتها وسرعان ما ولته ظهرها. انحنى الرجل فوق العجلة وهو يقول لنفسه: ما أفظعَ الحربَ في حرارة أغسطس! ما أفظع الحرارةَ! والتفت دحروج نحوه وهو يقول: طالما تنبئوا بأنها ستخرب العالم، ماذا عنَّا نحن؟
أجاب السني باسمًا: نحن بعيدون، فليأكل بعضهم بعضًا.
وضع رِجلًا على رِجل، وهو يجلس على صفيحة مقلوبة، ونظر إلى بعيد نظرة حالمة، ثم قال: سمعنا الأعاجيب عن الحرب الماضية.
فقالت آمنة ضاحكة: أصلك عجوز!
فضحك دحروج عن أسنان سود قائلًا بسخرية: أنت لا تهتمين إلا ببطنك.
وقال سلامة، وكان رغم تجاوزه الشباب يصغر صاحبه بعشر سنوات على الأقل: حقًّا سمعنا الأعاجيب.
– الأسيوطي مَن هو؟ كان قبل الحرب شيَّالًا.
ورجع العيال ناسين الوعيد فرجعت الضوضاء، وجرى محمود ابن السابعة — وهو البِكري — وهن في ذيله فرمقه أبوه بإعجاب وصاح به: ولد يا محمود شد حيلك، الحرب قامت.
وعند الأصيل جلس دحروج وسلامة على خيشة متجاورين خارج سور الخرابة. ترامت أمامهما الصحراء حتى سفح الجبل، منطفئة الرمال تحت الظل، وانداحت في السماء الصافية صفرة باهتة هي بقية أنفاس القيظ المختنقة. وثمة شعاع وانٍ من الشمس المائلة يتسلَّق هامة الجبل في عجلة، على أن الصحراء تزفر هواء منعشًا باقتراب المساء. وراح دحروج يعد القروش والسني مسند الرأس إلى جدار السور سارح البصر في الأفق. وجاءت آمنة بالشاي، وجرى العيال إلى الخلاء حُفاةً نصف عرايا. ورشف دحروج قليلًا من الشاي الساخن وهو يقول: قلبي يحدثني يا سلامة بأن الشغل سيضحك عاليًا.
– ليصدق قلبك يا أبا محمود.
– ليتني أستطيع أن أعتمد عليك.
– صديقك .. وأسير شهامتك .. ولكن لا يمكن أن أبرح الخرابة.
تفكَّر دحروج قليلًا، ثم تساءل: هل يعرفك أحد في المدينة الكبيرة خلف هذه اللحية؟
– إنَّهم يعرفون الجن.
– وهل ينقضي عمرك في الخرابة؟
– هي خير من حبل المشنقة يا أبا محمود.
أطلق دحروج ضحكة عالية، ثم قال: يحق لي أن أضحك كلَّما تذكرت حكاية هربك من بين حارسين.
– خير الهرب ما وقع حيث لا ينتظر.
فقالت آمنة وهي واقفة مستقبلة الخلاء، وقد انحسر شالها عن نصف رأسها الفاحم: وانعدم الرجل بلا دية!
فقال سلامة بنبرة غاضبة: كان قاتلًا ابن قاتل، وقد تقدَّم به العمر حتى خِفت أن يسبقني الموت إليه، ولم يكن يكف الأهل عن مطالبتي بالثأر.
فقهقه دحروج عاليًا، ثم قال: وهربت والأوراق محمولة إلى المفتي.
شدَّ سلامة على ذراعه بامتنان قائلًا: ووجدت نفسي ضائعًا، فقلت ليس لي إلا دحروج صديق صباي فأويتني يا شهم الرجال.
– نحن رجال يا سلامة.
– على أي حال فالمخزن هنا في حاجة إلى رجل، وإني رجله.
وقطع حديثهم ظهور جنازة في الأفق قادمة من ناحية العمران. مضت تتقدَّم نحو الطريق المحاذي لسور الخرابة الغربي المفضي في نهايته إلى قرافة الخفير. ووضح النعش مسجًّى بغطاء من الحرير الأبيض، فتمتمت آمنة: شابة صغيرة يا حسرة عليها.
فقال سلامة: المكان هنا جميل وآمِن، فلا عيب فيه إلا أنه في طريق القرافة.
فتساءل دحروج وهو يضحك: أليس طريقنا جميعًا؟
لم يطرأ على الخلاء تغير يُذكر مذ أُعلِنَت الحرب. ظلَّ ملعبًا للشمس من الشروق إلى الغروب، ومعبرًا للنعوش، ومعسكرًا للصمت. وأطلقت زمارات إنذار في تجارب غارات وهمية. وارتفعت أهمية الراديو القديم الباهت إلى القمة، حتى بات في وسع دحروج أن يحصي القنابل المتبادلة بين سيجفريد وماجينو. وكلما استقبلت حواس سلامة صوتًا منغومًا أو حركة لاعبة أو نظرة ولو غير مقصودة احترق باطنه بنار شرهة، وغضِبَ في ذات الوقت على نفسه بلا رحمة. وقال دحروج في ضجر: الحال لم تتغير، فأين ما سمعنا عن الحرب؟
– صبرك، ألا تذكر ما قال عميلك اليهودي؟
نظر دحروج نحو أكوام الحديد التي ملأ بها المكان عملًا بنصيحة عميله، ثم قال: فلتسرع الأيَّام.
– فلتسرع، ولتلتهم خمسة عشر عامًا من الزمن.
– خمسة عشر عامًا؟
– في آخرها تسقط عني العقوبة.
– يا له من عمر! سوف نكون على حافة حرب ثالثة.
وراح يغني بصوت محشرج غريب «يا بهية خبريني»، ثم هتف: معلم دحروج .. لن يبقى من أهلي أحد إلا النساء.
وقال: إن آمنة تلعب بعقله وهي لا تدري، أو وهي تدري، وأنَّه سيدخل الجحيم قبل أن يدركه الموت. ولم تكن الحرب تهمه في شيء، ولكنَّه سمع بين فواصل من الأغاني أنباء اجتياح هولندا وبلجيكا وسقوط باريس. وتتابعت أمام العين طوابير اللاجئين، وامتلأ الفراغ بالتنهدات والدموع، ثم إذا بإيطاليا تعلن الحرب. وقال دحروج بقلق: ها هي تدق الأبواب.
فقال سلامة بعدم اكتراث: لا علينا ولا لنا.
وتمتمت آمنة وهي تتابع لعب العيال العرايا حول برميل مليء بالماء: ربنا كبير.
ولأوَّل مرةٍ انطلقت زمارة إنذار بغارة حقيقية. استيقظ دحروج وأسرته، كما استيقظ سلامة في مرقده باللوري. وأعلنت آمنة عن خوفها على العيال، وقالت: إن المخبأ بعيد، فقال دحروج: ابقي في الحجرة؛ فلن يضربوا الخلاء أو القرافة.
ورفع سلامة رأسه نحو البدر الذي يحدق فيهم بهدوئه الأبدي، ثم قال: لا أرى إلا أنوارًا مجنونة.
ومن نافذة اللوري مدَّ بصره إلى الحجرة المغلقة. قائمة لصق السور على يسار المدخل بسقف مائل نحو الباب وجدار لا لون له، مطلية بضوء القمر، طاوية جوانحها على قلوب مفعمة بالقلق، ككوخ مهجور، فتخيل أنَّه جن الليل والخلاء. والغارة تنقض فتهدم كل قائم في المدينة، وتطيح بالقانون والمفتي والقاضي والسجان وحبل المشنقة. ويتفجر باطن الأرض، وتجتاح كل شيء حتى الشهامة تختنق أنفاسها. وينهض من بين الأنقاض رجل عارٍ وامرأة ممزقة الثياب وقد قتل الرقباء.
وتلاحقت الغارات ليلة بعد أخرى. غارات صامتة كالخلاء أو تتخللها مدافع مضادة. واعتاد دحروج في أثناء الغارة أن يذهب إلى سلامة في اللوري؛ ليشاهد السماء ويتحادثا: ليست الغارات كما سمعنا.
– الطليان ليسوا كالألمان.
وضحك دحروج، وقبض على لحية سلامة قائلًا: أنت مغالط عزرائيل في عمرك.
– نعم، كان ينبغي أن أكون في القبر منذ عام ونصف عام على الأقل.
– ولذلك فأنت لا تخاف الموت؟
– بل أخافه منذ أن شممت رائحته، وهم يحملونه إلى المفتي.
– تصوَّر كيف كان يكون شكلك الآن؟
– أحمد الله الذي أمهلني، حتى أرى الأنوار الكاشفة والمدافع المضادة.
ودبَّ نشاط جديد في الخرابة، ثم تضخَّم بحال لم يحلم بها دحروج من قبل. ومضى يغيب عن المكان ساعات كل يوم، ثم استغرقت الأعمال الخارجية نهاره كله. وعمل سلامة في الخرابة بكل همَّة كحارس وكخزَّان. وفي أوقات الفراغ يجلس على إطار من المطاط مسند الظهر إلى رفرف اللوري الخلفي، يدخن سيجارة أو يمشط لحيته، وعيناه الحادتان تذعنان في مطاوعة متزايدة لرغباته الجامحة. وقال: إنَّها تتجاهل عينيه، ولكنها شديدة الإحساس بهما طوال الوقت، وإنَّ نظرته الثاقبة تسيطر على حركاتها وسكناتها كأنما تلعب بهما بخيط خفيٍّ. ونظر إلى السماء يتابع حدأة تجول جولة الوداع عند الأصيل، ثم نظر أمامه فرآها واقفة على مبعدة أمتار منه تجاه الصنبور الذي تدفق منه الماء إلى صفيحة، وقال: كان يومًا شديد الحرارة.
هزَّت رأسها بالإيجاب، ونظرت إلى عينيه المحدقتين، ثم غضَّت بصرها وهي تداري ابتسامة. اكتسحت الابتسامة وازع الشهامة في صدره فاجتاحه إعصار. وتنهَّد بصوت مسموع، فزجرت المرأة محمود الذي جذب أخته من ضفيرتها عند الباب. وسألته: أعدُّ لك الشاي؟
فقال بنبرة تمردت على سيطرته: من المنتظر أن يسافر قريبًا إلى الشرقية.
ورجع دحروج مع المساء. بدا متعبًا معفرًا، ولكن النجاح تألق في عينيه. وضحك عاليًا، وهو يقول لسلامة: يا ولد العم، ليست الحرب كما يقولون، الحرب نعمة كبرى.
وأعطى آمنة لفافة لحم كبيرة قائلًا: أسرعي، لم أذق اليوم لقمةً واحدة.
ومن داخل الحجرة وهو يغير ملابسه ارتفع صوته: سأسافر غدًا إلى الشرقية.
غاب يومين وعند أصيل اليوم الثالث انتظره سلامة فوق الخيشة خارج السور. جلس هادئًا ثقيل الجفنين، يتخلل لحيته بأصابعه، يحصي الحِدَأ المتخلفة ويبادل الخلاء فتورًا واستسلامًا. وترامى إليه من الداخل صوت آمنة، وهي تنهر العيال بصوت هزه المرح فرنَا إلى ذيل الشمس الآخذة في الانحسار عن قمة الجبل، وقال: إن الليل لن يلبث أن يجثم. ولفته صوت من الغرب فرأى تاكسي قادمًا حتى وقف عند نهاية السور، ثم غادره دحروج. اقترب الرجل وهو يضرب الأرض بقدم ثقيلة ثابتة ورأسه مرفوع. استقبله واقفًا فتصافحا، ثم لكمه الرجل في صدره، وهو يضحك قائلًا: سلامة يا بن زينب، الإنجليز رجال.
رمقه مستطلعًا، فاستطرد الآخر في مباهاة: وأصلهم من الصعيد!
فدعا له بالمزيد من التوفيق. ودخل الرجل الخرابة صائحًا بفرح كالأطفال: ولد يا محمود.
وراح يغني «سَلم عليَّ» وهو يفرقع بأصابعه راقصًا.
وعوت الزمارة قبيل الفجر، فمضى دحروج وسلامة إلى الخلاء خارج السور كما تعودا أن يفعلا أخيرًا.
وقال دحروج: لم تعد الزمارة تُخيف أحدًا.
انسابت الصحراء تحت ضوء القمر مرتعًا للأحلام. وضحك دحروج طويلًا حتى سأله سلامة عمَّا يُضحكه، فأجاب وهو يومئ بكوعه إلى الحجرة: شهدت هذه الليلة عمَّك دحروج كما كانت تشهده ليالي الشباب!
وحلَّ صمت قصير مسقوفًا بأنوار الكشافات، ثم عاد دحروج يقول بلهجة جادة وأخوية معًا: سلامة، ليس اليوم كالأمس، سيجيء كثيرون من العملاء الجدد، أخشى عليك.
سأله سلامة واجمًا: هل ينبغي أن أذهب؟
– نعم، سأهرِّبك إلى فلسطين، وستعمل هناك لحسابي، ما رأيك؟
– الرأي رأيك.
قال بثقة: كل شيء مرسوم يا ابن زينب.
وفجأةً، ارتجت الأرض بزلزال، ودوَّى انفجار شل خفقان القلب. شد دحروج على ساعد سلامة بعصبية: ما هذا؟
أجاب سلامة ووجهه يشحب في ضوء القمر: قنبلة! .. أسرع إلى الحجرة.
وارتفعت صرخة آمنة، فصاح بها دحروج: مكانك .. مكانك يا آمنة.
وإذا بالضرب يتتابع بلا توقُّف. جرى الرجلان نحو الخرابة. وفي اللحظة التالية ندت صرخة عن دحروج، ثم سقط على وجهه. هتف سلامة: معلم!
وانحنى فوقه ليساعده على القيام، ولكنَّه لم يستطع شيئًا. وانطرح فوقه بلا إرادة. وانغرزت جبهته في الرمال، وهبطت الأرض. وارتفع جناح الصحراء صوب السماء. وشيء كثيف حجب وجه القمر.
– ماذا بك يا دحروج؟
ونادى صوت، ثم ابتلع الظلام كلَّ صوتٍ وكلَّ لونٍ.
وأراد سلامة أن يقول لصاحبه: سامحني لقد غلبني النوم.
ولكنَّه لم ينبس بكلمة واحدة.