سائق القطار
كل شيء يجري إلى الوراء. الصفصاف وأعمدة البرق تجري بسرعة فائقة، أما الأسلاك فتسبح بلا توقُّف هابطة صاعدة. وعلى مدى البصر تغمر الشمس غير المرئية الحقول والجداول وقطعان البقر والجاموس وأبناء الأرض. ودَّ أن يستسلم لتيار المناظر، ولكن حناجر الجيران المزعجة أبت عليه ذلك. ما بالهم محتدين! لماذا يغطي صخبهم على صوت الديزل! وحوَّل عينيه إلى الداخل فرأى إلى يمينه رجلًا بدينًا ذكَّرته هيئته بدبٍّ، وعلى المقعد المزدوج أمامه جلس رجل له وجه صقر وامرأة حسناء تابعت حديثهما الصاخب بضيق وحرج واضحين. وقال الصقر مخاطبًا الدبَّ بحدة وانفعال: لا تحاول عبثًا!
واشتد بريق عينيه الجاحظتين، وتجمع في ركنَي فِيهِ زبَدٌ أبيض، وسرت تقلصات عصبية في شاربه المقوس كهلال مقلوب، وبدت الحسناء وادعة كحمامة، ولكنها في خلال المناقشة الحامية هجرت فوق الرف، ثم تطوعت لتلطيف الجو، فخاطبت الصقر قائلة بصوت ناعم: أعطه فرصة .. اسمع رأيه.
فصاح بها: لا تتدخلي .. أنا هو أنا.
تراجعت بجمالها ونعومتها ويأسها. وفي أثناء ذلك التقت عيناها بعيني الغريب الجالس إلى جوار النافذة، وكأنما آلمها أن تُعامَل أمامه كطفلة. وبقدر ما أسف الغريب لحالها بقدر ما بهره جمال عينيها وهما ينفذان في عينيه. وقال الدب في هدوء نسبي، ولكن بصوت ذي رنين منفِّر: على أي حال فالناس للناس.
– هراء! أنا أتعامل مع جميع أنواع الحيوان، أما ذلك الإنسان …
ولوى بوزه بازدراء لا حدَّ له فسأله الآخر: هل علمت بما جرى له في الفترة الأخيرة؟
– أنا أعرف أقصر طريق بين نقطتين.
– سنجد في النهاية أن يدك اليمنى تضرب اليسرى.
فلوح بيده غاضبًا وهو يقول: إنَّنا لا نتردد عن بتر اليد أو الساق عند الضرورة!
آه .. لا سبيل إلى الاستمتاع بالمناظر الخلابة في الخارج. ومهما تتجاهل المعركة السخيفة التي انحصرت في مجالها فسوف تلاحقك كضربات المطرقة. لن تنسى الزبد المقرف وحتى رنوة العين الصافية لن تدعك في سلام! وللحال تأكَّد أن احتدام المعركة لن ينقطع كدوِّي عجلات الديزل المتواصل في روتين مسقم، وليس ثمة مقعد خالٍ في العربة يمكن الهروب إليه.
وطرح رأسه على مسند المقعد وأغمض عينيه. وكأنَّ الله استجاب لدعاء خفي، فأخذت المناقشة تستهلك نفسها بنفسها، فخفتت الأصوات ثم حلَّ صمت عجيب مريح، وقد خلا كلٌّ إلى تياره. بديع كحلم. واللعنة على الرجل العنيد وعلى كل خصام. وفتح عينيه رُبع فتحة مسترقًا نظرة من الوجه الرائق، فرآه منبسطًا قد زايله الحرج والخجل وشعور المذلة. وعلى حين راح الدب يشخر انهمك الصقر في مطالعة جريدة، وتجلت في عيني الحسناء نظرة هادئة كأول إشراقة للصباح، متمادية في الحلم لا تنظر إلى شيء بالذات. وفتح عينيه نصف فتحة فالتفتت عيناها إليه مستجيبة فيما بدا لإحساس خفي. وقال لها — في باطنه — كم أحب منظرك، فحولت عنه عينيها في شبه رضًى حتى عجب لقوته السحرية. وانتبه إلى ما حوله أقصى انتباه، ولما اطمأن إلى غفلة الصقر ونوم الدب ملأ عينيه منها بنهم، فرأى فيما رأى خاتم الزواج في يسراها المستكنة على يمناها فوق بطنها. وما لبث الصقر أن نحَّى الجريدة جانبًا، ومال برأسه إلى الوراء، ثم استغرق في النوم. وتولاه شعور بالأمان عجيب كأن الدنيا قد خلت بعد نوم الرجلين خلوًّا تامًّا. وانبعثت من أعماقه جسارة واستهانة، فواصل حديثه الباطني بعينيه إلى أبعد مدًى. وقامت المرأة وهي تبتسم ابتسامة لا تُرى عادة إلا بالقلب، ومضت نحو مدخل العربة. وباندفاع لا روية فيه قام ثم تبعها على الأثر. ولم يكن بالمدخل أحد سواها، ولم تدخل دورة المياه كما توقَّع، ولكنَّها وقفت وراء الباب المحكم الإغلاق رانية إلى الحقول، ولما سمعت وقع قدميه التفتت نحوه عفوًا، فانتهز الفرصة وحيَّاها بهزة قصيرة من رأسه. أعادت رأسها إلى موضعه الأول دون ردٍّ ودون اعتراض كذلك، فقال متشجعًا: لاحظت بأسف شديد التنافر الواضح بين طبعك الهادئ والجلسة المزعجة.
وافقت على رأيه بمزيد من الصمت الراضي، فضحك ضحكة قصيرة خافتة وهو يهمس: الوقوف هنا أجمل.
عند ذاك تمتمت: أظننا أزعجناك أكثر مما يُحتمل.
ولشعوره بقصر الفرصة المتاحة سألها: حضرتك من القاهرة؟
هزَّت رأسها بالنفي. وبعد وقفة قصيرة قالت: من طنطا، وحضرتك؟
هزَّه السؤال الإيجابي حتى الأعماق، فقال دون تردد: أنا من القاهرة، أيمكن أن أعرف عنوانك؟
– لا فائدة، نحن نقيم في العزبة.
– ربما سافرت إلى القاهرة، فخذي رقم التليفون.
– لا فائدة.
وبعد أن ألقى نظرة على الباب المغلق، قال بحرارة: إن ما بي هو الجنون بعينه، لا يمكن أن نسلِّم بالفراق دون مقاومة، أنت تفهمين ذلك؟
– نعم.
ارتفعت حرارة حماسه إلى القمة، وهو يقول: يخيَّل إليَّ أنك غير سعيدة.
– نعم، جميع ما حولي مرعب مقزز، أودُّ أن أطير بعيدًا.
– إذن طيري.
حدجته بنظرة متسائلة تروم أملًا، فقال: نغادر الديزل في دمنهور.
– أهرب!
– نعم، لا وقت للتردد.
– وبعد ذلك؟
– دعي الباقي لي.
– ربما استيقظ قبل ذلك، هو أو الآخر.
– سوف يظنك بدورة المياه.
– ولكن …
– لا لكن، سنحاول، هي فرصتنا على أي حال.
– لكن لا أحد منا يعرف الآخر.
– ما عرفناه حتى الآن أهم بكثير مما لم نعرفه بعدُ.
وفتح الباب قيراطًا لينظر إلى داخل العربة، ولما وجد كل شيء هادئًا أغلقه، ثم نظر في الساعة، وقال: لدينا دقائق قبل دمنهور، سآتي بحقيبتي الصغيرة.
ورجع بعينين ملتمعتين ووجه شديد الإصرار، فقال بقلق: القطار لم يهدئ من سرعته.
فنظر في الساعة مرة أخرى وقال: لعلي أخطأت في التقدير.
العكس حصل؛ إذ زادت سرعة الديزل زيادة محسوسة غير متوقعة، وما لبثت المرأة أن هتفت: انظر!
مشيرة إلى محطة دمنهور وهي تجري بسرعة فائقة إلى الوراء ككل شيء في الخارج: كيف لم يقف في محطة دمنهور؟
وإذا بباب العربة يُفتَح، ورجل يندفع منه نحو باب العربة التالية، وهو يصيح بأعلى صوته: السائق جُن! .. وسيهلكنا جميعًا.
استدارت المرأة في ذهول، وتبادلت مع الرجل نظرة حائرة، وترك الرجل حقيبته ثم فتح باب العربة ناظرًا إلى الداخل، فرأى جميع الركاب واقفين في حال من الاضطراب والذعر لا توصف. وقد فُتحت النوافذ جميعًا، واختلطت الأصوات وارتفعت في هلوسة، ورأى الصقر وهو يصرخ غاضبًا، وفي ذات الوقت ينظر حواليه باحثًا — فيما أعتقد — عن المرأة، فأراد أن يحذرها، ولكنه سرعان ما نسي ذلك، واندفع نحو الداخل سائلًا عمَّا هنالك فلم يُسمع صوته، فشقَّ سبيله بعسرٍ شديد نحو العربة التالية صائحًا: أين المفتش؟ .. أين رجال القطار؟!
ومدَّ يده ليفتح الباب فانفتح قبل أن يلمسه، وهرول إلى الداخل رجل صائحًا: السائق اعتدى على مساعده، وقذف به خارج حجرته!
فسأله بأعلى صوته: قبضوا عليه؟
– أغلق بابه دونهم، ودفع القاطرة إلى آخر سرعة.
وارتطم الصياح بالصُّوات. ورغم الضجة المدوية سمع صوتًا يقول: ستنفجر القاطرة أو يقع اصطدام قاتل.
– والعمل؟
– سيهلك الجميع.
اندفع من الباب مخترقًا البوفيه إلى المدخل المتَّصل بحجرة السائق المغلقة، فرأى المفتش ورجال القطار ونفرًا من الركاب، وسمع أحدهم يسأل: ما العمل؟
فأجاب المفتش: نحن نفكِّر في كل شيء.
– وهل ثمة أمل؟
تجاهل المفتش السؤال، ثم رفع يده داعيًا الجميع إلى السكوت فأطبق الصمت، ثم راح يطرق الباب المغلق بيده هاتفًا: عبد الغفار أصغِ إليَّ.
فجاء من الداخل صوت كالرعد: لا تحاول عبثًا.
فصاح المفتش: يجب أن تسمع لنا .. لا شأن للناس بمشاكلك الخاصة.
– أنا هو أنا.
– عبد الغفار .. ما ذنب الناس؟ معك رجال ونساء وأطفال .. كلهم أبرياء.
– هراء!
– ارجع إلى عقلك قبل فوات الفرصة.
– هراء!
– تذكر ربَّك، ألا تخشى لقاءه؟
– هراء!
ارتفعت درجات الذعر إلى غير حدٍّ، وتفشَّى الاضطراب في كل موضع. وبُذلت محاولات يائسة لدفع الباب أو تحطيمه، ولكنها سرعان ما توقفت عندما هدَّد السائق بتفجير القاطرة. وأُغمي على كثرة من النساء وبعض الرجال. وفقد شاب أعصابه فرمى بنفسه من إحدى النوافذ مودِّعًا الحياة بعواء ظلَّ صداه يتردد طويلًا. ونشبت معارك غريبة لم يُعنَ أحد بفضِّها أو معرفة بواعثها.
واقترب الرجل من كبير المفتشين، وزعق به: أليس هنالك من حيلة؟
فأجاب الرجل بصوت لا يقلُّ عنه درجة واحدة: جربنا كل حيلة.
– أيعني هذا أن نفنى جميعًا لا لسبب إلَّا …
وشعر بذراعين تطوقانه من خلف قبل أن يُتم جملته، فالتفت في ذعر واضح، فرأى المرأة تطالعه بوجه مخطوف وبصر زائغ؛ فصاح بها بغيظ لم يحاول إخفاءه: تشددي .. لا وقت لهذا.
فقالت بصوت مخنوق: أين أنت؟ جُن زوجي فخنق أخي، ثم راح يضرب رأسه في الجدار.
قال بضيق، وكأنه لم يسمع شيئًا: نحن نجري بسرعة جنونية نحو الفناء.
ارتمت بين يديه مغمًى عليها فقطب في حنق، ثم مضى يجررها إلى ركن المكان، فأنامها على الأرض بسرعة آلية باردة. ولما عاد إلى المفتش وجده يصرخ ويشدُّ شاربه ويبكي. ودقَّ الرجل الباب بقبضتين مجنونتين هاتفًا: يا عبد الغفار .. يا عبد الغفار.
فجاءته الإجابة كطوبة: أنا لا أعرفك.
– ولكنك ستقتلني.
– هذا شأني، ولا علاقة له بك.
– أنا لم أسئ إليك، لا أنا ولا الآخرون.
– لكنكم ركبتم قطاري.
– قل قولًا معقولًا.
– أنتم المجانين.
– أليس لك أبناء؟
– كلَّا.
– ألا تحب الحياة؟
– كلَّا.
– أليس في قلبك رحمة؟
– كلَّا.
– خبرني ما ذنبنا؟
– أنتم تحبون الديزل؟
– اطلب ما تشاء.
– ها أنا آخذ ما أريد بغير طلب.
وبصق المفتش على الباب صارخًا: يا عبد الغفار، يا مجرم، يا وضيع، يا غادر، يا وحش.
وقرَّر الرجل أن يمضي إلى نافذة؛ ليرمي بنفسه منها وليكن ما يكون. وهو يتحول عن موقفه وقعت عيناه على المرأة المستلقية في غيبوبة، فقال ما أسعدها في غيبوبتها. ووجد الركَّاب متكتلين يسدون المنافذ. توحدوا في ذهول ورعب وارتجاف. عبثًا حاول أن ينفذ من بينهم. ولما يئس رمى بنفسه عليهم، وسرعان ما تلقته الأيدي بالضرب، فانهال عليهم بدوره ضربًا حتى لفَّهم الجنون جميعًا. وإذا بالواقعة تقع، وقعت الصدمة المتوقعة كأنَّها ارتطام كوني. اندفع الناس بقوة جهنمية فحُطمت الرءوس، وطحنت الجدران الأجساد. صرخ الرجل بأعلى حنجرته، ورأى النجوم تتهاوى من حوله وصرخته تدور في فراغ أحمر.
فتح عينيه ودوَّي صرخته يجعجع في أذنه.
آه .. إنَّه لا يصدِّق. اعتدل في جلسته وهو يظن صرخته قد مزَّقت الآذان. ولبث هنيهة لا يجرؤ على النظر إلى أحد. ثم أخذ يسترق النظر في حذر شديد، فلم يرَ أحدًا شاعرًا له بوجود. تنهَّد من الأعماق. وما لبث أن تنبه إلى استمرار النقاش الحاد بين الصقر والدب.
ورأى المرأة نصف مغمضة العينين غارقة في الضجر. اللعنة .. اللعنة. وكان الصقر يتحدى صاحبه قائلًا: دعك من ضرب الأمثال العقيمة، لا تضيع وقتي سدًى، أنت تعلم أن أنا هو أنا.