عابرو السَّبيل
اندمج الشارع الكبير في حياة هؤلاء النَّاس، شارع قصر النيل، ما بين السابعة والثامنة صباحًا، يقطعونه ثم يتفرقون إلى أماكن أعمالهم. وتتكرر الرحلة في نظام فلكي على مرِّ الأعوام. بدأها كثيرون وهم في ريعان الشباب والفتوة، وواصلوها حتى أدركتهم الشيخوخة وتخايلت لأعينهم النهاية. ومنهم مَن ينقطع دون سبب معروف للآخرين؛ إذ إنهم يترافقون في الطريق ولكنَّهم لا يتعارفون. والعين تلقي نظرة عابرة فلا تكاد ترى، كأن الآخر شجرة مغروزة في الطوار، وربما استيقظت لسبب ما، فترى بدهشة العوالم الغريبة الماضية في سبيلها، كل عالم وحدة من الأسرار والأفراح والأتراح لا تدري شيئًا عن الآخرين، ولا تجد وقتًا للتعرف إلى ذاتها، وتجهل كل الجهل مصيرها، عند ذاك تتفجر الألسنة في غزارة، ولكن تشح الأجوبة حتى الإرهاق، وتشمخ السماء بصفحتها — الصافية أو الملبَّدة تبعًا للفصول — فلا تشفي غليلًا ولا تبدد حيرة.
ثابر على تلك الرحلة ثلاثة أشخاص، رجلين مصريين وامرأة إفرنجية. بدأها الرجلان حوالي عام ١٩٢٥، ثم ظهرت المرأة بعد ذلك ببضعة أعوام، وكانوا في ذلك شابين وشابة. وكان أحدهما طويلًا نحيلًا يتميَّز بعينين حادتين، وسمرة غامقة، وحركات عصبية. أما الآخر فكان معتدل الطول والقد، هادئ الطبع. وبدت الفتاة متعة للبصر بعينيها الزرقاوين، وشعرها الفاحم، وبشرتها الحليبية، وجسمها الرشيق. وكانت — كذلك الشاب الطويل — يسيران في اتِّجاه ميدان الأوبرا، أما الشاب الآخر فيتجه نحو ميدان سليمان باشا، ويتقابلون عادة في منتصف الطريق أو نحو ذلك، ولم يترك أحدهما فرصة للقاء إلا ويملأ من الفتاة عينيه، المعتدل يرمقها بحياء وبلا غاية إلا إبهاج الروح والحواس، أما الآخر فيلتهمهما بنظرة حادة، ليست نظرة ولكنها كلام وفعل وعربدة. ورئي مرة وهو يحييها وهي تتجنبه مبتعدة عنه مسرعةً؛ ذلك أنها كانت فيما بدا فتاة جادة نشيطة تنطلق بجدية وعزم العاملات، لا تكاد تنظر إلى غير الطريق، وإذا التقت عينها بعين الشاب المعتدل فبالقدر الذي يحتِّمه حب الاستطلاع أو ملابسات المشي في حدها الأدنى. وجعل الشاب المعتدل يسترق النظر إلى الآخر بامتعاض، ويتابع مناوراته بحنق وإشفاق متوقعًا أن يراه ذات صباح والجميلة تتأبَّط ذراعه. وبقدر ما كان يلعن قحته بقدر ما كان يعجب بها على نحو خفي، ويتمنَّى في أعماقه بعضًا منها، وأحزنه جدًّا أن يتفق اتجاههما في الطريق على خلاف اتجاهه. ومضت الكواكب الثلاثة في مداراتها دون أدنى تغير في علاقتها المشتركة، أما عن كلٍّ في ذاته فقد تتابع ظهور خواتيم الزواج في أيديهم، سبق المعتدل، وتبعه في نهاية العام الطويل، وأخيرًا لحقت بهما الحسناء. ورغم ذلك فلم يقِل الشغف بها كثيرًا، وإن بدا أن الطويل قد تخلَّى بصفة شبه نهائية عن أحلام المغامرة. ولم يتغير شيء مما بين الثلاثة عندما قامت الحرب العالمية الثانية، وإن تكن الدنيا قد اندفعت بجنون نحو التغيرات الفادحة. زخرفت الصحف بعناوين المعارك الحمراء، وتناقل المارة الأنباء المثيرة، وظهر الإنجليز المدنيون والعسكريون بكثرة حتى في تلك الساعة المبكِّرة، وفُتح ثلاثة بارات في الشارع العتيد، وانتقلت عدوى التغيير إلى الفتاة نفسها أسوة بالدنيا من حولها، فثقلت مشيتها وشحب لونها، ثم تكور بطنها، وانداح تحت الفستان التقليدي المسترسل بلا حزام، أجل لقد حبلت العروس الفاتنة. وتفحصها الطويل بعين صقر وبشيء من الغيظ متذكرًا امرأته، ولكن امتلأت عيناه بالعطف والشرود الغامض. وحبلت المرأة مرة ثانية قبيل انتهاء الحرب، وثالثة أيام حرب فلسطين، ولعلَّ أحدًا من الثلاثة لم يكن يفطن حقًّا إلى الزمن إلا عندما يقع بصره على الآخر. امتلأ عود الحسناء وتوارى في الذاكرة القدُّ الرشيق الممشوق، وأحدقت بالعينين الزرقاوين أنصاف دوائر خفيفة لم تعد تَخفَى، واستقرَّت بهما نظرة رزينة، رزانة الإعياء لا رزانة الدلال والصدود التي عرفاها قديمًا. واشتد نحول الرجل الطويل، وجرى المشيب في سوالفه وشاربه، وبرزت عظام وجنتيه، ومع أن المعتدل لم يرَ من تغير ذاته سوى شعيرات بيضاء، إلا أنه لم يشك في مدى تغيره الحقيقي كلما نظر إلى رفيقه، فانطوى صدره على توتر غامض كأنَّه صدًى بعيد جدًّا لما يقع حوله في التاريخ والطريق. واستمرَّ دوران الكواكب الثلاثة خلال أحداث جديدة، فقد نشِب في القتال قتال مرير، واندلع حريق القاهرة، ثم انفجرت ثورة يوليو. تزلزل المجتمع من جذوره وانهار البنيان المتداعي، وأخذ نظام جديد في التبلور، وإذا بالاعتداء الثلاثي يعترض الطريق كثور أعمى. وفي أتون حرب العدوان قُدِّر لأولئك الثلاثة أن يجتمعوا في مكان واحد لأول مرة. فقد انطلقت زمارة الإنذار، وفرقعت المدافع وهم يسيرون أمام مشرب لاجيون. لجأ ثلاثتهم إلى المشرب باندفاع عفوي، فوجدوا به خادمًا واحدًا يغسل أرضيته، ومائدة واحدة صالحة لاستقبالهم في أقصاه. شقوا سبيلهم إليها خلال قوائم من الكراسي المتراصة فوق بعضها، ثم وقفوا مترددين قلقين، ثم جلسوا — بدعوة من الخادم — حول المائدة المنفردة. وكلما ترامى انفجار تبادلوا نظرة باهتة دون أن ينبس أحدهم بكلمة، وكان الطويل أجرأهم على خرق جدار الصمت، فقال: ولا أيام الحرب العالمية.
فقال الآخر بحنق: المجرمون! .. سرعان ما نسوا هوانهم تحت أقدام هتلر!
وتواصل التعليق دون أن تشترك المرأة فيه، ثم خفَّ الضرب درجات، فعاد الطويل يقول: لا مدعاة للخوف فهم يضربون الأهداف.
وحدجته المرأة بنظرة جائعة للتصديق، فابتسم إليها. تبدت عن قرب معتلية ذروة النضج الأنثوي وإن شارف حسنها الوداع. وقال الطويل مدفوعًا بأريحية طارئة: خير ما نفعل أن نتناسى ما يقع في الخارج.
ثم وهو يبتسم عن طاقم نضيد: نحن نتقابل كل صباح منذ زمن بعيد جدًّا كالحلم.
تفكَّر الآخر مليًّا، ثم قال: منذ عام ١٩٢٥.
فالتفت الطويل نحو المدام، وقال: المدام ظهرت بعد ذلك؟
انتزعت نفسها من التركيز المفعم بالقلق في الخارج، وهزَّت رأسها بالإيجاب.
– عمر طويل مَرَّ دون أن نتبادل كلمة واحدة.
وضحك ثم استطرد: لذلك لا أعجب لخصام أمتين أو ثلاث.
وساءلت المرأة نفسها بتوتر: متى ينتهي الضرب؟
فقال بلهجة ودية جدًّا: لا تخافي يا مدام، سينتهي الضرب عاجلًا، ويذهب كل منا إلى طريقه، ولكني أودُّ أن أنتهز هذه الفرصة لأحقق فكرة جميلة خطرت لي الآن فقط.
نظر إليه المعتدل مستطلعًا في غير حماس، على حين نظرت المرأة في ساعة يدها.
– سوف أُحال على المعاش بعد شهر واحد، أي إنني سأنقطع عن رؤيتكما بعد تلك العِشرة الطويلة العزيزة.
فقال الآخر: وأنا أيضًا سأُحال إلى المعاش في نهاية هذا العام.
– هذا أدعى إلى تحقيق الفكرة، وهي أن نحتفل بذكرى لقائنا الطويل على مدى أكثر من ثلاثين عامًا!
وقلَّب وجهه بينهما في حماس، وقد أخذ الهدوء يخيم في الخارج رويدًا، وإن لم تُطلق بعدُ زمارة الأمان، ثم قال: أودُّ أن أدعوكما إلى عشاء بسيط بمطعم كريسنتم بالهرم، ما رأيك يا أستاذ؟
فقال الآخر بنبرة سلبية: بكل سرور إن سمح الوقت.
– ستقبل الدعوة حتمًا خصوصًا إذا قبلتها المدام، ما رأيك يا مدام؟
انتزعت المدام نفسها من قلقها مرة أخرى، وتمتمت: لكن …
– لا لكن ألبتة، إنه سلوك لا عيب فيه عندكم، ودعوتي واضحة البراءة، ورفضها غير إنساني.
ابتسمت ابتسامة خفيفة اعتدها الرجل قبولًا، فبادر يقول: شكرًا، سنتفق على الميعاد في صباح قريب.
اتفقوا على الميعاد صباح اليوم الثالث لوقف القتال. وتقابلوا في ميدان التحرير، ثم استقلوا تاكسي إلى كريسنتم فبلغوه قبيل الغروب. وفي أثناء ذلك تم التعارف بينهم، فقدم الطويل نفسه قائلًا: «علي بركة، مترجم»، وقال الآخر: «سيد عزت، مدير حسابات»، وقالت المدام: «مدام ماتياس، خياطة في ماي ستار». وجلسوا في حجرة خاصة يحجبها عن بقيَّة المحل باب موارب يقوم خلفه برافان. وأوصى علي بركة على عشاء حمام وكبد، وأمر بكونياك، ونظر إلى سيد عزت ورفع كأسه قائلًا: لنشرب نخب شباب عام ١٩٢٥، أما أنت يا مدام فما زلت شابة.
فقالت ضاحكة: لا .. لا. لا فائدة من الكذب، أنت تعرف وهو يعرف.
وما كادت الكئوس تفرغ حتى طلب غيرها وهو يقول: لا ترفضا، دعونا نشرب، لن نسكر على أي حال، وهي ليلة العمر.
ومضت الألفة تحل محل التحفظ، ويشيع الدفء بتأثير الكونياك ولباقة علي بركة وحيويته. وراح يقول: كان يجب أن نكون أصدقاء حميمين، يتبادلون المودة والأسرار، ولكن فات الوقت للأسف، فلم يبقَ لنا إلا أن نذكر شيئًا من الأمور الجوهرية جدًّا لتمام التعارف، أسعد حادث في حياتنا مثلًا، أو أبقاه أثرًا في نفوسنا؟
رحَّب سيد عزت بالاقتراح لا لشيء؛ إلا لأنه يجد ما يقول، فقال: لعلَّ أسعد حادث صادفني هو نجاح ابني الأكبر في الثقافة العامة بعد ما يشبه اليأس.
ونظر الرجل إلى المدام مستطلعًا كأنما كانت هي الهدف الحقيقي لاقتراحه، فابتسمت قائلة: زواج ابنتي الكبرى، ولكن الحادث الذي لا أنساه هو وفاة زوجي منذ أربعة أعوام.
كاد التهلل للخبر يفلت من أساريره، لولا أن تداركه بتقطيبة مصطنعة، ثم هزَّ رأسه في رثاء. وانتهز فرصة الصمت الذي تلا ذلك، فطلب الكونياك لثالث مرة، ثم ضحك مفتتحًا صفحة جديدة، وقال: أحداثي أنا لا تخلو من غرابة، فأسعدها كان وفاة قريب آلت إليَّ تركته، وأتعسها جاءني منك أنت يا مدام.
– أنا!
– أجل، وأنت تعرفين السبب.
فقالت متشجعة بفعل الكونياك الخفي: تعني مطارداتك لي في الشارع؟
– أعني إعراضك عني حتى قبل الزواج.
– يا عزيزي، أنت لم تكن جادًّا.
– كيف عرفت؟
– أنا أفهم، أنت لم تكن جادًّا.
وقال سيد عزت وهو يفرغ ثمالة كأسه: أنا موافق.
– أنت أيضًا! هل اختفت نواياي الطيبة إلى ذلك الحد؟
– لم تكن هناك أية نيَّة طيبة!
– وأنت؟ كنت تأكلها أكلًا وتأكل نفسك.
فقال سيد عزت بتسليم: لا أنكر ذلك!
ضحك الرجل في شماتة أمام مدام ماتياس، فقالت: لا أصدق.
– لماذا؟
وجاء العشاء مع جديد من الكونياك، فأقبلوا على الطعام والسؤال معلق والاهتمام به يعمق إلى غير نهاية، وقالت مدام ماتياس وقد احمرَّت أذناها من الشراب: لي معك حكاية.
– أنا؟!
– كنت تنظر بقوة، كل صباح، قلت لنفسي: حتمًا سيكلمني يومًا ما!
– حسبتك لم تلحظي شيئًا ألبتة!
– هه! قلت ستكلمني، وما أخره إلا أنه مؤدب أكثر من اللازم على خلاف …
قاطعها علي بركة بضحكة عالية هاتفًا: على خلاف الآخر قليل الأدب!
وهي تضحك أيضًا: لا .. لا .. معذرة .. (ثم ملتفتة نحو سيد) واعتبرت المسألة مفروغًا منها لدرجة أنني فاتحت ماما في الموضوع، ولكنها رفضت بشدة فكرة زواجي من مصري.
صاح سيد عزت الذي أفقدته لذة الحديث لذة الطعام: الزواج؟
– نعم .. وبسببك زعلت من ماما، فأقمت مدة عند خالتي.
ابتسم سيد في ارتباكه حياء وسرورًا كما كان ينبغي أن يفعل عام ١٩٣٠، وإذا بعلي بركة يلكزه في ذراعه قائلًا: ضيعت عليَّ فرصة دون أن تنتفع بها، صدَق مَن قال: إن رجال الحسابات معقدون إلى النهاية.
تمتم سيد عزت: لم أكن أعرف، كنت يا مدام جادة جدًّا بصورة غير مشجعة.
– هكذا نصحتني زميلة لي في ذلك الوقت بماي ستار، كانت يهودية مولودة في مصر، قالت لي: إن المصريين يعشقون المرأة اللعوب، ولكنَّهم لا يتزوجون إلا المتحفظة.
صاح علي بركة بفم مكتظ بالحَمام: نِعْمَ النصائحَ اليهودية!
فخاطبت المدام سيد عزت قائلة: لكنَّك لم تتكلم، حتى لم تحاول الكلام.
قال بارتياب: كنت دائمًا أخاف من الإفرنج.
– تخاف؟
– نعم، شيء قال لي إنكِ مستحيل لأنكِ إفرنجية، وكلما فكرت في الكلام عقَدَ الخوف لساني.
علي بركة، وهو يضحك في تهكم: مفهوم .. مفهوم .. اللائحة المالية لا تسمح بحب بين مصري وإفرنجية!
– وكان مرتبي محدودًا، وكانت فكرتي عن الحب أنه باهظ التكاليف!
قالت المدام وهي تهز منكبيها: انتظرت حتى خجلت من نفسي، ثم كان أن تعرَّف بي مسيو ماتياس.
فقال علي بركة معاتبًا: انتظرت الصامت، وصددت المتكلم الفصيح!
انتهى العَشاء ولكن الشراب لم ينتهِ. وتجلت آثاره في الخدود والأعين والألسن، وارتفع الضحك.
وهتف علي بركة بنبرة الظافر باقتراح سعيد: عندي فكرة!
فنظرا إليه مستطلعَيْن، فقال: لنرقص!
قال سيد عزت: لا أعرف الرقص.
وقالت المدام: ولا توجد موسيقى.
قال: «لا يهم»، وقدَّم لها ساعده فقامت ملبِّية، وأحاط خاصرتها بذراعه وراحا يرقصان. وإذا به يضمها إليه حتى التصقا تمامًا. حاولت أن تتخلص منه عبثًا. وتساءل سيد عزت في ذهول: أي رقص هذا؟!
وقالت المدام في إعياء: من فضلك .. عن إذنك.
تمادى الرجل في فعله، وانعقدت في عينيه نظرة مخيفة؛ فصاح سيد عزت: خذ بالك .. المدام تعبانة!
فقال بحدَّة: نحن هنا لا يدري بنا أحد!
– ابعد .. دعني.
وقام سيد عزت. وبقيامه تأكد من أنه ثمل حقًّا. وضع يده على كتف الكهل الطويل، وقال برجاء: علي بيه، اعقل، لا تفضحنا!
فصاح به وهو يزيح يده بحركة من كتفه: اعقل أنت، سيأتي دورك يا غبي.
وتأوَّهت المرأة متألمة؛ فهتف سيد بغضب: دعها .. أقول لك دعها .. ألا تفهم؟
وأمسك بذراعيه محاولًا فكهما. جذبهما بأقصى ما استطاع من قوة. انضغطت المرأة بينهما حتى استشعر بضاضتها. تراجع خطوة وهو يضاعف من قوة جذبه، وقد لفحه خجل آثم. وصاح علي بركة بجنون: ابعد وإلا …
– ستوقعنا في فضيحة.
وهتفت المدام: سأصرخ .. أقول لك إني سأصرخ!
ودار سيد عزت حولهما حتى وقف وراءه فقبض على عنقه، وشده منه بلا رحمة حتى كاد أن يختنق، فتراجع إلى الوراء كالمتهاوي. وترنحت المدام، ثم انحطت فوق الكرسي مغمضة العينين. ولم يعد يُسمع إلا لهاثهم. خلا كل إلى نفسه يضمد جروح روحه. المدام كالنائمة، وعلي بركة مائل إلى الجدار، وسيد متقلص الوجه من الغثيان. وقال علي بركة بحقد: لن أدفع حساب أحد!
مدت المدام يدها إلى حقيبتها، ولكن سيد عزت أمسك بها بحنو، وهو يقول له: لن يدفع لنا أحد.
ورجعوا إلى الصمت والإعياء. ثم خطرت لسيد فكرة فنادى الجرسون، وقال له: «كأسان من فضلك»، وقبل أن يختفي الرجل وراء البرافان قال له علي بركة: «ثلاثة من فضلك». وشربوا هذه المرة وكأنهم يتداوون، في صمت وبلا مرح. وراح علي بركة يقطع الحجرة ذهابًا وجيئة. ثم غادر الحجرة فغاب دقائق، ثم عاد بوجه مغسول وأسارير هادئة. ونقَّل بصره بينهما، ثم قال: دفعت الحساب، كله.
فاحتجَّ سيد عزت قائلًا: لا.
– دُفِعَ وانتهى الأمر.
ثم بنبرة أرق: لننسَ ما كان، هذا خير ما نفعل.
وابتسم فيما يشبه الاعتذار. واقترب من سيد قائلًا: «هات رأسك»، ولثم جبينه قبل أن يفطن الآخر إلى ما يريد، وتحول إلى المدام مغمضًا: «وهاتي رأسك»، ثم لثم جبينها دون مقاومة من ناحيتها، وقال ووجهه لم يزل في مستوى وجهها: آسف يا مدام .. الصلح خير!
وفجأة لثم فاها. ثم استقام متراجعًا وهو يقول: قُبلة الصلح، وتحية للحلم القديم، حلم تراءى لي قبل موت سعد زغلول!
على ذلك غادروا المحل. وأمسك بيسراها داعيًا الآخر للإمساك بيمناها، وسار ثلاثتهم في جوٍّ مائل للبرودة. والقمر متوارٍ وراء سحابة مفضضة. وتراءى الخلاء في ظلام حتى الأنوار المتباعدة الباهتة فوق المقطم كعقد من النجوم. وضحك الرجل وقال: فلنتذكر أغنية جميلة يعرفها ثلاثتنا لنغنيها معًا؟