يوم حافل
– لا!
قالها بحدَّة وهو يقطب، ثم رشف رشفةً من قدح الشاي، وركَّز عينيه في القدح ليتجنب عيني زوجته، ولكنَّها قالت محتجة: كنت متوقعة هذا الرد!
– حسن، لِمَ لَم تُعفِي نفسك منه؟
– لأنَّ المرأة مسكينة حقًّا.
قال وهو يهزُّ رأسه هزة الخبير بالعالَم والنَّاس: شياطين خبثاء.
– اقرأ العريضة؛ لعلك تقتنع بأنها مظلومة حقًّا.
– قلت شياطين خبثاء.
– أنت تعلم أن زوجها وهب الوزارة عمره كله، فلأسرته حق في المساعدة التي يجيزها القانون.
– وهب الوزارة عمره! .. اعلمي أن تسعين في المائة من موظفي الحكومة نباتات طفيلية تتغذى بدون وجه حق.
– متى تغيِّر بالله من طبعك؟
رمقها بنظرة باسمة باردة لا يمكن أن تنبت أملًا، فحلَّ صمت غير قصير، ثم سألها بنبرة جديدة وهو يقوم عن المائدة: كيف حال الولد؟
فلم تجب احتجاجًا، ولما كرَّر السؤال قالت باستياء: نام ليلة أمس نومًا هادئًا، ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة.
واستقلَّ سيارته وهو يأمر السائق قائلًا: «جروبي». انطلقت السيارة تقطع الكورنيش مخلِّفة وراءها المعادي. وفتح الجريدة فتصفَّح العناوين الكبيرة بسرعة، حتى استقرَّ بصره فوق صفحة الوفيات. طالع أسماء الراحلين أما الأقارب فسكرتيره الخاص يتولى أمرهم. متى يطالعك اسم علي كامل بالخط العريض؟ سوف تُشيَّع جنازته بكل إجلال وتؤدَّى له جميع الواجبات ولكن متى؟ ذلك الرجل العنيد المصاب بتصلب الشرايين. وهو يعاندك ويتوهم أنه يحافظ على كرامته، وكأنه لا يخشى قوتك التي يعمل لها كل إنسان ألف حساب، فمتى؟ كما قرأت يومًا اسم حسن سويلم. في مثل هذه الجلسة، في نفس السيارة، في نفس الطريق. يومها بدأت بالنظر في صفحة الوفيات فكان اسمه أول ما وقع عليه بصرك. البقاء لله .. حسن سويلم .. مراقب عام الإيرادات. متى يا علي كامل؟
– انظر أمامك!
صاح بالسائق بعنف؛ فحوَّل الرجل عينيه بسرعة عن أسراب حمام تطير فوق سطح النيل كسحابة بيضاء. واكفهرَّ وجهه لحظات، ثم انبسطت صفحته رويدًا. آخر مشاحنة جرت بينك وبين المرحوم حسن قبل وفاته بشهر. يا حسن بك، أنا الذي يقرر متى يجب تقديم مشروع الميزانية. ولكن ذلك من صميم اختصاصي يا كريم بك. آه .. لا تضطرني إلى سحب العمل من يديك .. أنت تعرفني جيدًا. إذن اسمح لي أن أحتج على هذه المعاملة، فلستُ أنا بالموظف الصغير. لو امتدَّ به الأجل لكان اليوم منافسك الأول دون منازع. ولكن الجسم الفاسد لا يخلو من دمامل. ها هو علي كامل ذو الشرايين المتصلبة، ماذا يريد؟
وقفت السيارة أمام جروبي، فغادرها ثم دخل المحل. أجال بصره في أنحاء المكان حتى رأى الأستاذ علي فمضى إليه، ثم صافحه بحرارة قائلًا: صباح الخير، تهانيَّ على مقالتك الأخيرة.
– أعجبتك حقًّا؟
كرَّر إعجابه وهو يجلس. وطلب قهوة وهو يبتسم ابتسامة ذات معنًى، فقال الأستاذ: الظاهر أنك وفِّقت؟
دسَّ يده في جيبه الداخلي، فأخرج مظروفًا سلَّمه للأستاذ، وهو يقول: قنبلة العام!
– حقًّا؟
– سوف تنفجر تحت أقدام نسيم البحيري المأفون المغرور.
– أنت متأكد من صحتها؟
– وثائق لا يرتقي إليها شكٌّ.
– لا أريد أن أعرِّض الجريدة لقضية خاسرة!
– الله يعلم كم كلفني الحصول عليها من حيلة ومال.
– إن لم تقضِ على البحيري؛ فستقضي عليَّ!
– ستقضي على البحيري وحده.
تبادلا نظرة طويلة، ثم قال كريم: سيكون نصرًا للجريدة.
– ولك أنت.
ضحك كريم ضحكة أضخم بكثير من جسمه النحيل الدقيق، فتمتم الصحفي باسمًا: أنت رجل جبار حقًّا!
– أنت رجل مستقيم ونظيف، فلا يهمني أن أُرمى بعد ذلك بالقسوة.
وقرأ في عيني الصحفي نظرة لم يفهمها تمامًا، فقال: أنت أيضًا تكرهه.
– سأنشر الوثائق للمصلحة العامة، ولا دخل لعواطفي في ذلك.
– حسن، وأنا أخدم المصلحة العامة بطريقتي كذلك.
وقام مادًّا له يده فصافحه، وهو يسأله عن صحة ابنه، فقال وهو يمضي عنه: لا بأس به، ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة، شكرًا لسؤالك عنه.
استقلَّ سيارته إلى مكتب الأستاذ يوسف عبد الرحمن المحامي الذي استقبله بترحاب وهو يقول: مبارك يا كريم بك، قرأت اسمك أمس بين المرشَّحين.
– شكرًا يا عزيزي، خبرني عن جلسة أمس.
– تأجيل لتقديم مذكرات.
– وماذا عن مركزنا؟
– عال جدًّا، أنا مطمئن كل الاطمئنان.
– إذن سيركع فهيم الدسوقي؟
– أجل، ولكنْ ثمة جديد.
– ما هو؟
قال المحامي بصوت أخفض درجة: تلويح بالصلح!
– صُلح!
لفظها كذبابة، فقال المحامي: سوف تُحترم شروطك بطبيعة الحال.
– ولو!
– وهو على أي حال ابن عمك.
– هذا مبرر للعداوة.
– أهذا هو رأيك الأخير؟
– حتى النهاية.
وذهب إلى مكتبه بالوزارة، ثم طلب في التليفون رقمًا.
– آلو .. علي؟ .. صباح الخير.
– …
– عندي لك خبر مهم جدًّا.
– …
– اقرأ غدًا صحيفة الكوكب.
– …
– نسيم البحيري قُضِيَ عليه إلى الأبد.
وضحك طويلًا حتى ارتجَّت لضحكه أركان الحجرة الكبيرة الصامتة. واستقبل مدير مكتبه الذي عرض عليه البريد وبعض الموضوعات العاجلة. وجاء على أثره علي كامل فتبادلا الآراء في مسائلَ شتى، ووجهاهما يعكسان برودًا سافرًا. وعندما وقف علي كامل استعدادًا للذهاب سأله كريم بدافع شيطانيٍّ مباغت: كيف الصحة؟
فأجاب الآخر فيما يشبه التحدي: لم تكن شراييني في وقت من الأوقات خيرًا مما هي الآن.
عنيد، مكابر، كذَّاب. وجهك الشاحب المتغضِّن يفضحك. وعمَّا قليل ستعتذر عن تخلفك الاضطراري عن اجتماعات المساء. علي كامل، البحيري، الدسوقي، وعشرات غيرهم. كائنات نخرها السوس فلم يُبقِ منها إلا على عناد وحقد. أنت بحاجة إلى مدفع سريع الطلقات لتطهِّر منهم الحياة. وسوف تنتصر كما انتصرت دومًا. حياتك سلسلة من المعارك متوَّجة بالانتصار. في ذلك متعتك وكرامتك في الحكومة أو النادي أو القرية. منذ نشأتك الأولى وأنت مناضل كأنَّك تعيش في حلبة ملاكمة. النضال هو روح الحياة وسرُّها، أما القِيَم المعسولة الخرعة فهي آفات الحياة. والرجال يضمرون لك إعجابًا لا حدَّ له، وإن ردَّدت ألسنتهم خلاف ذلك فعن خوفٍ أو حسد. حتى الوزير نفسه استدعاه يومًا وقال له: يا سيد كريم، لماذا تثير الزوابع دائمًا؟
فتساءل بأدبٍ واعتزاز معًا: سيدي الوزير، هل أنا رجل صالح للعمل؟
– لم أطعن في ذلك أبدًا.
– ونظافتي؟
– على خير ما يُرجى.
– وعند الخلاف مع الآخرين، أين تجد سيادتكم الحق؟
– ولكنَّك تغالي في العنف، حتى لينقلب الوضع، فكأنَّ الحق مع خصمك.
– هكذا خلقني الله!
فقال الرجل بنبرة لم تخلُ من ضجرٍ: حتى العنف في الحق يجب أن يقف عند حدٍّ.
وعند الظهر رأس اللجنة المالية. وتفانى في العمل كعادته فلم يُبالِ بالوقت. ومرَّت ساعتان عقب وقت الغداء وهو يختلس من حين لآخر النظر إلى الوجوه المتعبة المتألمة، ويتربَّص بكلمة تذمر أو شكوى. وفي صدره لعبت عواطف ماكرة كشقاوة الأطفال. ولما أشبع طاقته في العمل والتعذيب فضَّ الجلسة. واتَّصل بزوجته بالتليفون فسألها عن الولد: لا بأس به، ولكني استدعيت الطبيب لأنَّ الحرارة لا تريد أن تنخفض.
– بخير إن شاء الله، لن أعود قبل العاشرة مساء؛ بسبب العمل.
وفكَّر في مسألة مرض الأطفال وهو يتناول غداءه بالنادي. قال: إنَّ الأطفال ما كان يجب أن يمرضوا على الإطلاق. المرض — إذا لم يكن منه بدٌّ — فهو ظاهرة تطرأ على الجهاز البشري عقب طعونه في السنِّ، أمَّا الطفل فلا يمرض إلا لخلل في الكون. وقد كان — هو — سليمًا عند الزواج، كما كانت كذلك درِّيَّة زوجته، ووُلِد رمزي آية في الصحة والجمال، فما معنى المرض إذن؟
ومضى إلى حجرة التليفون فانبسطت أساريره لأوَّل مرة. لأوَّل مرة سرَت ابتسامة في غضون الوجه الصارم الكالح: آلو .. هنومة؟ .. كيف الحال؟
– …
– عال، هذا يعني أنه لن يعود اليوم؟
– …
– إذن نتقابل في السابعة؟
– …
– اعملي حسابك على ساعتين على الأقل، إلى اللقاء يا محبوبة.
واستقلَّ السيارة وهو يقول للسائق: «بار الأنجلو». سيمكث هنالك ساعة ثم يمضي إلى هنومة. امرأة مثالية في غرامياتها، وزوجها البدين يتوهم أنَّ البدانة يمكن أن تجعل من رجلٍ زوجًا موفَّقًا. وهو يجيء إلى بار الأنجلو، فينهمك في لعب الطاولة مقامرًا بمبالغ ضخمة، ومرة قاوم إغراء غريبًا بصفعه على قفاه. أما البحيري فموعده الغد. سوف يُصعق عند مطالعة الجريدة، وإذا انتحر فسيثبت بانتحاره أنَّ سوء ظنِّه به لم يكن صوابًا على طول الخطِّ. واضطر السائق إلى ركن السيارة في آخر الطريق عند أول موضعٍ خالٍ فغادر السيارة؛ ليتم طريقه مشيًا على الأقدام. سار فوق الطوار بجسمه النحيل الدقيق يطالع الدنيا بوجهٍ صارم شبه متقزز. ومرَّ بمحلٍّ لبيع التحف اليابانية، فدخله دون سابق تفكير لابتياع هدية لهنومة. اختار شبشبًا مناسبًا تمامًا للاستعمال في مسكنهما السري بالهرَم. وواصل مسيره نحو البار. وعند أول منعطف قبل المقهى، وعقب نزوله من الطوار مباشرة، وجد نفسه مدفوعًا نحو غلام يبول؛ فتراجع بسرعة هاتفًا: «يا ولد يا كلب.» كان الغلام يبول في علانية استعراضيَّة، وشقاوة وشَتْ بسروره بما يفعل. وقد انطلق البول متلألئًا تحت أشعة الشمس في هيئة قوس، والغلام يدفعه بحركاته الذاتية إلى أقصى مدى يستطيعه. تراجع كريم بك في شبه فزعٍ فزلَّت قدمه، فهوى على ظهره فارتطم مؤخر رأسه بحافة الطوار. ذُعر الغلام فولَّى هاربًا. ووقف المارة القريبون؛ ليشاهدوا الحدث الغريب، وهم بين الرثاء والابتسام، ولكن كريم بك استلقى في إغماء لا شكَّ فيه. وهُرع إليه بعض ذوي النجدة ليسعفوه. وارتفع من بينهم صوت هاتفًا: يا لطف الله … الرجل جثَّة هامدة!