بيت سيئُ السُّمعة
كان منهمكًا في عمله عندما استأذنت سيدة في مقابلته، وجلست وهي تقول: صباح الخير يا أستاذ أحمد.
سيدة واضحة الكهولة، مقعَّرة الخدين من ذبول، بارزة الفم، تعكس عيناها نظرة متعبة، وتضفي عليها ملابس الحداد تجهُّمًا وكآبة. وسرعان ما أدرك من مطلع حديثها أنها قصدته بأمل أن يسهل لها الإجراءات الخاصة بمعاشها. وهمَّ بتحويلها إلى مدير المعاشات مشفوعة بتوصية غير أن لمحة في نظرة عينيها المتعبتين استرعت انتباهه. خُيِّل إليه أنها ترمقه بنظرة خاصة تراوح بين الارتباك والخجل. ما سر ذلك يا ترى؟ هل تعرفه؟ وفي الحال ومضت في ذاكرته ومضة أضاءت غياهب الماضي، فهتف في ذهول: حضرتك؟
قالت وهي تغضُّ بصرها في حياء وتأثر: نعم، ومن حسن الحظ أني عرفت أن حضرتك مراقب عام المستخدمين.
ولم يكن تذكَّر اسمها، ولكن وثب إلى ذهنه اسم التدليل الذي عُرفت به «ميمي». إن منظرها أكبر من عمرها. وعمرها لا يمكن أن يجاوز الخمسين. ولعله من الذوق أن يختلق سببًا لعدم معرفتها بالسرعة التي — لا شك — توقعتها. قال: كنت مشغولًا جدًّا، فنظرت إليك بعينين غائبتين فلم أعرفك.
فابتسمت عن طاقم نضيد، وقالت: أنا تغيرت أيضًا، الضغط ربنا يكفيك شرَّه، والحياة أنهكت أعصابي، لي بنتان متزوجتان، وثالثة في بعثة، وعندما وصلنا إلى بر الأمان تُوفِّي المرحوم زوجي.
وتبادلا السؤال عن الأسرتين، فتردد ذكر مَن تزوج، ومَن مات، ومَن يقيم في القاهرة، ومَن انتقل إلى الأقاليم، وكان في أثناء ذلك يحاول أن يستحضر صورة ميمي القديمة بصعوبة لا تكاد تُقهر، فاحتج مرات على قسوة العبث. وأخيرًا كتب لها توصية إلى مدير المعاشات وانتهت المقابلة.
عاد إلى مجلسه — بعد أن أوصلها إلى الباب — وهو يعيش في حلم، وبحث في ضباب الحلم عن عام. أي عام يا تُرى؟ ١٩٢٥. عام مليء بالأحداث التاريخية، ولكن ميمي كانت أهم من تلك الأحداث جميعًا، ميمي وبيتها العجيب، ومنشية البكري القديمة الراقدة في صحراء البنديرة، شارع الملَّواني، والبيوت الصغيرة ذات الدور أو الاثنين تصطف على جانبيه. ومن أعالي الأبواب الخارجية تتدلى مصابيح للإضاءة ليلًا. كل بيت ينطوي على نفسه كالسر. النساء عورة، والحب حرام، والزواج إجراء من اختصاص الرجال، والعروس آخر مَن يعلم. غير أن بيت آل حلاوة خرق العقل والمعقول، وقام وحده ككلمة متحدية. عُرِف بالبيت السيئ السمعة، وأُحِيط بسياج من الرهبة. ومجرد جريانه على لسان صبي أو بنت كان جريرة يستحق من أجلها الزجر. وضُربت حوله المقاطعة كأنَّه وباء. وحتى اليوم لا يُذكَر إلا مصحوبًا بسوء الظن، وبذلك تحدد في التاريخ. آه .. كيف كان ذلك؟
كانت ربة البيت — وهي زوج لموظف كبير — امرأة متبرجة. تتبدى في الطريق في كامل زينتها، عارضة حُسنًا رائقًا رغم بلوغها الخمسين، وهي السن التي انتهت عندها ميمي. وكانت أول امرأة في الحي تُرَى سافرة، فلا برقع أبيض ولا أسود. وقد تصطحب معها بناتها الأربع فتمضي بهن سافرات كذلك، آخذات زينتهن، وهو ما لم يُسْمَح به لبنت قبل خطبتها. وكن يذهبن مرة في الأسبوع — مع الزوج أو دونه — إلى سينما كوزموجراف، وقد يسهرن في مسرح من المسارح، فلا يرجعْن قبل الواحدة صباحًا. أي امرأة وأي رجل وأي بنات! والأدهى من ذلك كله أنه كان للأسرة يوم زيارة تستقبل فيه بعض الأُسر بكامل هيئتها، فيختلط الجنسان بلا حرج. وكان شبان الحي يسيرون جماعات تحت حجرة الاستقبال المتلألئة بالأنوار، يصغون إلى الضحكات المتصاعدة، وعزف البيان والغناء، وكلما ظهر في النافذة طربوش تبادلوا الغمزات والنكات، وذهبوا في التأويل كل مذهب، وتخيلوا أعجب المواقف. لذلك كله لم يكن غريبًا أن يُذكَر بيت حلاوة مقرونًا بلفظة «دعارة» دون مناقشة. وكانت الأسرة على علم بآراء الجيران ومشاعرهم، ولكنها لم تكترث لذلك أدنى اكتراث، وترفعت الهانم عن الجميع، وسارت في طريقها شامخة الأنف، كأنها من سلالة غير سلالة الحي جميعه.
وكانت ميمي تُرَى كثيرًا في الطريق أو في دكَّان الحلوى. تُرَى وحيدة وكانت صغرى البنات وفي الخامسة عشرة، وكانت جميلة كأخواتها وأمها، وإن لم يعد يذكر من آي ملاحتها إلا شعرها الأسود المتجمع في ضفيرتين ريَّانتين، وعينين خضراوين، وغمازة في الذقن. وكان يسترق إليها نظرات دهِشة متسائلة مليئة بحب الاستطلاع، ولم تخلُ أول الأمر من ازدراء وسخرية، ثم حلَّ محلها إعجاب وافتتان، فكان يقول لنفسه محزونًا: يا للخسارة! وشُغف بها وكان يكبرها بعام أو اثنين، واحتفظ بسرِّه لنفسه قطعًا للألسنة، وكان البعض يغازلها طمعًا فيها باعتبارها صيدًا سهلًا، ولكنه لم يكن عرف الاستغلال قلبه. وذات مساء وهبته نظرة على غير انتظار. كانا واقفين بدكان الحلوى فوهبته نظرة غير قصيرة أثملته؛ فترنح بعيدًا عن تيَّار الزمان وأفعمت قلبه بهجة ظافرة. فاض قلبه بسعادة مشرقة اقتلعت منه الوساوس، فلم يعُد يشترك في الأحاديث البهيمية عن البيت السيئ السمعة. وآمن بأن شعور قلبه الأصيل أخطر من جميع ما يقال. وفي ليالي رمضان راح يلاعبها من بعيد بكبريت الهوا، فيشعله في الطريق فتشعله بدورها في النافذة. وتواعدا على اللقاء عند صحراء البنديرة. ووجد نفسه عند اللقاء مرتبكًا حقًّا، ولكنها بادلته التحية دون تلعثُم وبشجاعة ردت إليه روحه الضائعة. وقالت: أنت في البدلة أرشق مما تظهر في الجلباب، وأنا أحب الرشاقة.
وكل كلمة جادت بها كانت كشفًا جديدًا وجرأة مذهلة. وكانا صغيرين جدًّا بالقياس إلى خلفية الصحراء المترامية وراءهما، ورغم ذلك قال في حذر: قد يرانا أحد!
فتساءلتْ: مثل مَن؟
– من الأهل أو الجيران.
فهزت منكبيها استهانة، وهواء الصيف المنعش يهفو بضفيرتيها، ثم سألته: ما رأيك في حديقة الحيوان؟
وامتنع عن تقبيلها تأدبًا رغم سنوح الفُرَص. وأعطته رقم التليفون ليتفقا في الوقت المناسب، ولعله ما يزال مسجلًا في دفتر المذكرات القديم. وسألته: هل نذهب إلى الحديقة معًا؟
فقال برجاء: نلتقي هناك ونفترق هناك!
وتلاقيا عند باب الحديقة، وكان يوم سعيدًا. سارا من ممشًى إلى ممشًى بيدين مشتبكتين. واستمدَّ من مسها تيارًا من الحرارة والبهجة والرضا، وسألها كأنما ليطمئن عليها: ماذا قلت لماما؟
فأجابت ببساطة: قلت إني ذاهبة إلى حديقة الحيوان.
فتساءل أحمد ذاهلًا: وحدك؟
فهزت رأسها نفيًا، وقالت بالبساطة نفسها: معك.
فضحك معلنًا عدم تصديقه، ولما وجدها جادة جدًّا سألها: وهل وافقَتْ؟
– نعم، ولكن دون حماس.
لم يدرِ كيف يصدِّق هذا كله. أما هي فاستطردت: قالت لي: ابتعدي عن هذا الولد؛ إنه كالآخرين، وأهله كبقيَّة الجيران.
وشعر بأنه مطارد. ووقف طرفه الحائر عند رأس نعامة سارحة في الفضاء من فوق الحاجز الحديدي.
ثم قال بقلق: إذن هي تعلم أننا هنا معًا!
– وراهنتني على أنك ستخيِّب رجائي.
– كيف؟
– مَن أدراني؟
بل هي تدري، ولكنها تظاهرت بالاهتمام بالقرود، ثم وقفت فوق قنطرة تتأمل الماء المسقوف بأوراق الشجر، واقترحت أن يَعْدُوَا حتى الجبلاية، ولكنه شدَّ على يدها قائلًا: خبريني!
فنظرت في عينيه بجرأة، وقالت: أنت لا تصدِّق أنَّها تعرف أننا هنا، ولكنك تعلم بزواج أخيك الأكبر من ثلاث في وقت واحد!
فاحمرَّ وجهه وقال: هو حرٌّ.
– لا تغضب من فضلك، فغضبك يؤكد ظنها، هل عرفت الآن ما سألت عنه؟
وداخله حزن. الواقع فاق ما تخيله، إنهما من عالمينِ بعيدين. ورغم ذلك ازداد بها هيامًا.
ثم تساءل بصوت منخفض: وكيف وافقت على هذا اللقاء؟
– لمَ لا؟ هو عيب؟!
ولم ينبس، فسألته بسخرية خفيفة: ولمَ وافقت عليه أنت؟
فلم ينبس أيضًا فسألته: أيجب أن نفترق؟
فاستعطفها بحرارة لتعود إلى الرضا، وقال معتذرًا: لا تغضبي، أنا أخطئ كثيرًا، وعذري أني أقابل بنتًا لأول مرة!
فرمقته بتوجُّس وتساءلت: وماذا تظن بي أنا؟
فبادرها تجنبًا للمضاعفات: كل خير، أنا .. أنا أحبك يا ميمي.
وابتسمَتْ ومضتْ به إلى أريكة تمتد أمامها هضبة معشوشبة، تناثرت في جنباتها مجموعات من البشر، فجلسا جانبًا إلى جنب صامتين، حتى قطعت الصمت قائلة: حدثني عن مستقبلك.
وتحدث عن مستقبل مشرق من خلال كلية الحقوق، وإن يكن أوشك أن يختم حياته مراقبًا للمستخدمين، لا مستشارًا في النقض كما حلم. فقالت: هذا جميل حقًّا، ولكن ماذا عنِّي أنا؟
ووجد نفسه في القفص كالحيوانات التي تحيط به من كل جانب، فقال في اقتضاب شديد حدَّدته الرهبة: الزواج.
فابتسمت وهي تحوِّل وجهها عنه مادَّةً بصرها إلى قمة الهضبة الخضراء، وقد غابت عن مسمعه ضجة الأصوات الآدمية والحيوانية. ثم قالت، وهي ما تزال تنظر إلى بعيد: ولكنَّ أمامنا أعوامًا طويلة! .. كيف؟
فقال وهو يتلمس متنفسًا: لا بدَّ من الانتظار حتى أنتهي من الدراسة.
– سأنتظر بكل سرور، ولكني في حاجة إلى شيءٍ يبرر انتظاري أمام الآخرين، أي شيء، ارتباط من أي نوع!
تخيَّل طلبه الارتباط ببنت من البيت السيئ السمعة بتعاسة ورعب، وانعقد لسانه فلم ينطق.
– ماذا قلت؟
– من العسير حقًّا أن أطلب ذلك الآن.
– ألا تُقْدِم على هذه الخطوة من أجلي؟
فتنهد بصوت مسموع، وهو يشعر بأنه جرى مرحلة طويلة من التاريخ دون توقُّف، فقالت بحدة: أنت لا تريد، ليس عندك الشجاعة الكافية، أبيتُنا مخيف إلى هذه الدرجة؟
– لا .. الأمر وما فيه …
– لا تكذب، أنا أعرف كل شيء، وماما لم تخطئ، وشارعنا كله سخافة في سخافة، ونحن أشرف من الجميع، يجب أن تعرف ذلك.
فهتف متألمًا: إنك تسيئين بي الظن، أنا في حاجة .. أرجو أن تقدري موقفي، أعطيني …
– لا داعي لهذا الارتباك كله، لتنسَ كل ما قيل، كله سخيف من أوله إلى آخره.
– لكنني أحبك، ليكن الأمر سرًّا بيننا حتى …
– نحن لا نحب السر!
– حتى أقف على قدمي.
– لن تقف على قدميك أبدًا.
ثم وهي تكاد تمزق منديلها الصغير من الانفعال: أعوذ بالله! أنا لا أحترم أحدًا في شارعنا! .. بلا استثناء .. بلا استثناء.
هكذا انفصلا إلى الأبد.
وكان يستقبل سيل الذكريات وهو ينظر إلى الكرسي الذي طالعَتْه منه بوجه لم يحفظ من ماضيه إلا أضعف الأثر. أرملة أضناها التعب والحِداد، ولكنها معتزَّة بانتصارات حقيقية. وحومت حوله الذكريات كأسراب من البنفسج. تذكَّر كيف تزوجت بنات البيت السيئ السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سُمع مرارًا وتكرارًا بأنهن بنات لم يُخلقن للزواج، ولن يسعى إلى الزواج منهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن في زواجهن ذهل واختلَّت موازينه!
ومضى إلى بيته بعد ميعاد انتهاء العمل الرسمي، فتغدى ونام ليستعد لسهرة في الأوبرا دُعِيَ إليها هو وزوجته وبناته الثلاث. وكان الداعي زميلًا لكبرى بناته الموظفة في إدارة الترجمة بالوزارة، وقد قَبِلَ الدعوة رغم أن الداعي لم يرتبط بكريمته بأي ارتباط بعد! وعند المساء خلا إلى نفسه في حجرة مكتبه، على حين نشطت الزوجة والبنات للاستعداد لسهرة الباليه المنتظرة، عما قليل يتبدَّين في صورة كاملة الزينة والأناقة، ثم يتقدمنه تحت الأضواء والأنظار ترمقهن بإعجاب! ولم يكن غريبًا أن يستخرج دفتر مذكراته القديم من الدرج الخاص بالأوراق الثمينة كعقد ملكية الأرض وبوليصة التأمين. وكان اعتاد على عهد المراهقة — وهو عهد كان يحلم فيه بعرش الزجل! — أن يسجل أحداثه العاطفية والاجتماعية يومًا بعد يوم. وفرَّ صفحاته ليرجع إلى عام ١٩٢٥، وما حواليه حتى رقم التليفون وجده. وبدافعٍ لم يعرف كنهه امتدَّت يدُه إلى قرص التليفون فأدارت الرقم القديم. وجاءه صوت: آلو.
فسأله وهو يبتسم في عبث: بيت حلاوة؟
فأجاب الصوت بخشونة: لا يا سيدي .. هنا محل الطمبلي لبيع الخيش.