الفصل العاشر

جبل أرارات – الحدود التركية الروسية ١٨٩٥م

كان أرتين يرتِّل بعضَ الآيات، ويدعو يسوعَ أن يخلِّصه من هذا العذاب «لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ المُمْسِكُ بِيَمِينِكَ، القَائِلُ لَكَ: لا تَخَفْ أَنَا أُعِينُكَ»، «الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلا أَخَافُ مَاذَا يَصْنَعُ بِي إِنْسَانٌ»، أعنِّي يا يسوع وخلِّصني منهم، ما خرجت إلا لأجل المؤمنين بك حقًّا أدافع عن المظلومين، عن الذين لا يستطيعون الوقوفَ أمام سيوف الجلادين، خرجت لأجلِ خلاصهم وأنت المخلِّص يا يسوع، فخلِّصني منهم، لا أملَ لي سواك، فلا تخيِّب ظني، وإن كان هذا امتحانًا منك فهبني القوةَ الكافية لتحمُّله، كن معي ولا تتركني، كن معي ولا تتركني، كن معي ولا تتركني.

مارسوا مع أرتين في تلك الليلةِ كلَّ أنواع التعذيب، جَلْد وفَلَقة، وأغطسوا رأسه في الماء لدقائق حتى كاد أن يموت غرقًا، وتنفَّس الماء بدل الهواء وشعر أن روحه تخرج من جسده شيئًا فشيئًا ببطء شديد، ثم فجأة سُحب رأسه من الماء، وشهِق شهقةً أعادت الروح إليه.

عندما وضعوا رأسَه في الماء تذكَّر أرتين يومَ كان مع غريغور وبانوس على شاطئ بحيرة «وان» الزرقاء، يومَها تحدَّاه غريغور بالغطس وقال لبانوس: أنت الحكم بيننا، وتَعُد ببطء مَن يستطيع البقاءَ تحت الماء لمدة أطول. بدأ أرتين التحدي، وضعَ كفَّه على فمه وأنفه وغطس تحت الماء، بدأ بانوس بالعد، واحد، اثنان، ثلاثة، إلى أن وصل العدد ٣٣ لم يستطِع أرتين البقاء أكثرَ فأخرج رأسه وهو يلهث، ضحِك غريغور بصوتٍ عالٍ وهو يقول باستهزاء: ثلاث وثلاثون.

كان يضحك ويعيد الرقمَ مرةً ومرتين وثلاثًا.

– كفاك ضحِكًا، هيا أبهرنا أنت أيها الغاطس الماهر!

استنشق غريغور كميةً من الهواء وأغلق أنفَه بالإبهام والسَّبابة ونزل تحت الماء، ثم بدأ بانوس بالعد، واحد، اثنان، ثلاثة وصل إلى خمس وعشرين، ثم إلى ثلاثين فاجتاز رقمَ أرتين ولم يخرج غريغور، فوصل إلى خمسين حتى صاح بانوس: لقد غرِق المجنون فلننقذْه بسرعة!

أخرَجاه إلى الشاطئ، بدا أنه مغشيٌّ عليه.

غريغور! غريغور! هل أنت بخير؟

كان بانوس يضغط على بطنه لعلَّ الماء يخرج من فمه، ركضا صوبَ الصيادين: أغيثونا، لقد غرِق صاحبنا أغيثونا!

فأقبلَ أحدهم وهو يقول: أين الغريق، أين هو؟ عندما التفتوا إلى الوراء رأوا غريغور يضحك ويضرب بقدميه على الأرض من شدة الضحِك ويؤشِّر عليهما: «لقد خدعتكما، لقد خدعتكما.»

زرع ذلك الموقف البسمةَ في وجه أرتين ورأسه تحت الماء.

خارت قواه وأُغشي عليه، ولم يدرِ ما حصل له بعدها.

•••

عندما فتح عينيه كانت أشعةُ الشمس قد تسلَّلت من نافذة الغرفة العلوية، خطوطٌ مستقيمة تتراقص فيها ذرات الغبار، وكل ذرة تخرج عن المسار تختفي وكأنَّ طرفي الحُزمة هي مقيدات الحياة، حرَّك ناظريه وقال لنفسه: هذه ليست غرفة التعذيب، إنها الغرفة التي وضعونا فيها البارحة.

حاول الجلوس فلم يستطِع، فمجرَّد الحركة كانت تؤلمه جدًّا، تساءل بينه وبين نفسه: أين اللذان كانا معي؟!

لا أسمع صراخ تعذيب، إذن ليسا هناك، أين هما إذن؟

خطَرت في ذهنه أسئلةٌ كثيرة، لكنه كان مشوَّشًا، فلم يستطِع فكَّ أحجيةِ اختفائهما فجأة.

اقترب ذَفُّ أقدام أحدهم من الباب، وسمعه يقول: «افتح الباب.» جُرَّ المزلاج الحديدي ثم دُفع الباب، دبَّ الخوف في قلب أرتين من جديد تذكَّر الليلة الماضية، القيود الحديدية، السوط الأسود، وجْه الجلَّاد المخيف وعضلاته الضخمة، كانت أسوأ ليلة مرَّت في حياته. اقترب من رجلٍ ضخم الجثة عريض المنكبين، صُدم أرتين للوهلة الأولى حتى إنه جلس ولم يشعر بالألم من شدة الصدمة، قال في نفسه: «إنه نفس الرجل الذي أمرني بالمهمة في تلك الليلة!» لم يتمالك نفسه فصرخ بوجهه: أيها الخائن اللعين، وبصق بوجهه.

مسح البصقة من وجهه بكمِّ ردائه وابتسم، ثم ربَّت على كتف أرتين وقال: لقد نجحت في المهمة.

– عن أي مهمة تتحدَّث؟ أنت عميل للحكومة أيها الخائن!

– نحن لسنا عثمانيين، نحن الطاشناق، ومهمَّتك لم تكن تهريب الأسلحة، بل أردنا التأكد منك، خشينا أنك من رجال الوالي من الأرمن الخونة.

– وما الذي حصل باللَّذين كانا معي؟ وكيف كنتم تعذبون قائد المهمة؟

ابتسم وربَّت على كتف أرتين.

– لم نعذِّبه كانت تمثيلية لتخويفك ودبِّ الرعب في قلبك.

– لكن لِمَ كل هذه التمثيلية؟ هل تفعلون هذا لكل مَن ينضم إليكم؟!

– لا، بالطبع لا نفعله مع الجميع، لكنك في أخطرِ فصيلٍ بالحزب وعموده الذي يستقوي به بقية الفصائل، نحن «فصيل الاغتيالات»، لا ينضمُّ إلينا أحدٌ مباشرةً إلا بعد أن نتأكد منه مائة في المائة، وبعد أن يقاتل مع الفصائل الأخرى ويحصل على إشادةِ قادته في الشجاعة والفطنة والبسالة، حينها نضمُّه إلينا، أما أنت فقد كشفت مكاننا وعرفت بعضَ الوجوه التي يجب ألا تعرِفها، كان بإمكاني إرسالُك إلى فصيل آخر، عملهم فقط في قتال العصابات أو نصب الكمائن على دوريات الدَّرك، لكنني أُعجبت بالحركة التي فعلتها يوم عملية اغتيال الوالي، نحن بحاجة إلى رجالٍ من أمثالك لا يهابون الموت، ومع ذلك كان لا بد من اختبارك، وها قد نجحت فيه واجتزته كما توقَّعت ذلك، والآن يمكنك أن تكون ضمن فصيلنا، فأهلًا بك بيننا.

دُهش أرتين للوهلة الأولى من دهائه وتفكيره العسكري، على الرغم من كل آلام صدره وقدميه إلَّا أنَّ الفرحة كانت تغمُره بوصوله إلى أخطرِ فصيل في الحزب بهذه السرعة، والفرحة الكبرى كانت أنَّه سيعمل مع أناسٍ يحملون هذا العقل والتدبير.

– أرتين ستبقى هنا عدةَ أيام إلى أن تتعافى ثم تعود إلى «وان»، وبعدها سأرسل اسمَك إلى القيادة العليا وأوضِّح لهم كلَّ الذي جرى في اليومين الماضيين ببرقية، وانتظر الموافقة الرسمية لانضمامك إلينا.

– وماذا عن صديقيَّ؟ ألا يمكنك أن تضمهما معي ونعمل كفريق معًا تحت إمرتكم؟

– لا، لا يمكنهما الانضمامُ لفصيل الاغتيالات مباشرة، يجب أن يعملا في فصائلَ أخرى ويحصلا على إشادة قادتهما، حينها أستطيع إقناع القيادةِ بضمهما إلينا، لكن في النهاية سنرسلكم إلى يريفان سويًّا للتدريب، أمَّا الآن فعليَّ الذهاب؛ فلدي مهامُّ كثيرة يجب أن أقضيها، وأنت انتظر منِّي الخبر اليقين في وان.

•••

قبل حلول الظلام سمِع أرتين صوتَ غريغور قادمًا من ممرِّ غرفِ الخان العلوي، فاختبأ خلف الباب بسرعة، دخلا الغرفة وهما يضحكان على ما يبدو لموقفٍ حصل لهما أثناء العمل، وعندما أراد غريغور غلْق الباب رأى أرتين أمامه، لم يصدِّق عينيه فحضنه بقوةٍ مما جعل أرتين يصرخ من شدة الألم فانسحب غريغور متفاجئًا.

– ما بك يا صديقي؟ ما الذي حصل؟!

خرج بعض الدم من صدرِ أرتين وبان على ثيابه فبقي غريغور مشدوهًا.

– مَن فعل بك هكذا؟ هيَّا تكلَّم بسرعة!

– سأخبركما بكل شيء، لكن قبل ذلك ماذا حصل للوالي، هل قُتل في ذلك اليوم؟

– لا لم يُقتل، لكنه أصيب إصابةً خطيرة، والآن هو طريح الفراش.

ضرب أرتين كفًّا بكفٍّ، وقال متحسِّرًا: إذن المهمة فشلت.

– لكن توقَّف، مَن هذا الذي جاء وطمأننا عنك ثم رحل سريعًا؟

أخبرهما أرتين بالذي حدث معه منذ لحظة الهجوم على موكب الوالي ولحين عودته إلى وان، وكانت عيناهما مفتوحتين طوال سماعهما القصة من أرتين، وعندما أكمل الحديث بقيا كذلك.

– ما بكما اصحَ يا بانوس، أنت العقل المدبِّر عندنا، كيف يصيبك العجب هكذا؟!

حرَّك بانوس رأسه وكأنه لا يصدِّق الأمر.

– قد فعلوا بك كل هذا من أجل فقط أن يتأكدوا منك!

طبطب غريغور على كتف بانوس: تعلَّم كيف يفكِّر الناس، تعلَّم يا مفكِّر مجموعتنا.

ثم ابتسم ابتسامةَ استهزاء وقال: لو عشتَ ألف سنة فلا تستطيع أن تفكِّر ربع هذا التفكير.

– دعاكم من هذا وأخبراني ماذا حصل بعد الحادثة، ماذا كانت ردة فعل الحكومة؟

– بعد الحادثة مباشرةً أُعلن منْع التجوال في المدينة كلها، وتم تفتيش دكاكين السوق بالكامل، واعتقلوا بعضَ أصحاب الدكاكين في الزقاق الذي حصل فيه الهجوم، وفي اليوم التالي فُتح منْع التجوال وزيدت الدوريات في السوق، وبالتأكيد رأيت التشديدَ على مدخل المدينة.

– نعم، رأيت ذلك.

– لكن بعدها بيوم واحد كنا في طريقنا إلى الطاحونة التي نعمل فيها أنا وغريغور، رأينا على الطريق قصاصاتِ ورق منثورة على الأزقَّة، حملت واحدة منها، كان مكتوبًا فيها «تبنِّي الثوار لعملية الاغتيال»، وفي أسفل الورقة ختمُ حزب الاتحاد الثوري الأرمني .. وفي نفس اليوم قامت دورياتٌ من الحكومة بأعمالٍ انتقامية ضد الأرمن؛ فقد شنقوا ثلاثة من السجناء المتهمين بتعاونهم مع الثوار وسط السوق وأبقَوهم على المشانق ثلاثة أيام ليكونوا عبرةً لمن يعتبر، وبعدها تمَّ تسليم جثثهم إلى أهاليهم بحضور أحد القساوسة .. وأيضًا قاموا بالهجوم على عدة قرًى أرمنية يُشتبه بتعاونهم مع الثوار واحتضانهم لبعض أعضائها فتمَّ قتلُ العشرات منهم وهدموا بيوتهم وأحرقوا زرعهم واعتقلوا الباقي.

– سنثأر لهم، لا تحزنوا؛ لأجلهم سنرد الصاع صاعين فقط، اصبروا.

– لكن يا أرتين فلنكن منصفين، هذه الأعمال الانتقامية لم تحصُل إلا بعدما ألقى الثوار المنشورات وتبنَوا العملية، أنت تقول هم يفكِّرون بحذرٍ وحيطة قبل القيام بأي شيء، كيف لم يفكِّروا أن تبنِّيهم للعملية سيولِّد أعمالًا انتقاميةً ضد أبناء شعبنا؟ أليسوا هم مَن يريدون الحفاظ على أرواح الأرمن، كيف لهم أن يتسبَّبوا في الذي حصل؟!

نظر أرتين بوجه غريغور ورآه ينظر إلى بانوس ويفكِّر بالكلام، كان استغراب بانوس من هذا التبنِّي للعملية في محله، بقي أرتين صامتًا يفكِّر في كلامه وفيما يحصُل حولهم.

– لا أدري، أنا متَّفق معك تمامًا أن تبنِّي العملية كان خطأً وسببًا بزهق أرواح إخوتنا، لكن لا يمكننا التأكُّد من شيء إلا بعد معرفتنا سياسةَ الحزب وأهدافه، ولعل إرسالنا إلى يريفان جاء بعد التشديدات الأمنية للحكومة في المنطقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤