الفصل الحادي عشر
انتابت البهجة والسرور وجهَ حسن عندما رأى هندام والده الجديد، وقد ارتدى القُمباز والعِقال على الغُترة البيضاء رابطًا الحزام اللاوندي المصنوعَ من الجلد الطبيعي على خَصره، وانتبه حوله فرأى أن هناك مَن تشاركه هذا الشعور الجميل تُجاه والده؛ فقد كانت أم خالد تنظر إليه نظراتِ حبٍّ مشوبةً بالحياء، وتقول: ربي يحميك من العين يا زينةَ الرجال.
كان حسن يتجهَّز أيضًا للذهاب مع والده إلى دير ياسين لأول مرة؛ إذ بعد بيعهم الأرضَ إلى أبي هشام، تحسَّنت حالتهم المادية قليلًا، وارتأى أبو خالد شراء كمية إضافية من الأحجار الكلسية، من كسَّارة الحاج أسعد في مدخل قريةِ دير ياسين، وكانت تربطه علاقة جيدة مع صاحب الكسَّارة.
في طريقهم نحو القرية التي تبعُد عن القدس عدة كيلومترات باتجاه الغرب كانت الباصات التابعة لشركة «باصات لفتا ودير ياسين» تمرُّ من خلال مستعمرة جفعات شاءول اليهودية — الطريق الوحيد المؤدي إلى القرية. انتبه حسن إلى والده فرآه ينظر من نافذة الباص ويتمتم بكلماتٍ غير مفهومة، لكن من ملامح وجهه يبدو أنه منزعج جدًّا منهم، تنحنح حسن ليجلب انتباه والده وقال: أهؤلاء مثل يهود القدس؟ أقصد هل هم من أهل البلد الأصليين؟
– فيهم من يهود فلسطين الأصليين، لكن أغلبهم ليسوا كذلك، وهذه المستعمرة بُنيت أواخر أيام السلطان عبد الحميد الثاني «الله يرحم ترابه» كما يردِّدها الحاج صالح في الحارة بصوتٍ مرتفع.
قطع حسن حديث والده، دون أن يشعر: وأنا كنت أتساءل دائمًا مَن يقصد بتلك الرحمات المتكررة؟
– هو على هذا الحال منذ أن فقد بصره وظلَّ حبيس داره وعتبة بابه.
– لكن لماذا يترحَّم عليه هكذا؟ بالتأكيد هنالك سبب، أليس كذلك؟
– نعم؛ فقد كان من حرس قصر يلدز (قصر السلطان ومقر خلافته) عندما كان شابًّا، وقضى سنواتٍ طويلة هناك في الآستانة حتى سمعنا يومًا أنه أُصيب بانفجار هناك وتدهورت حالته الصحية، وتم نقله إلى القدس وبقي يعمل في متصرفية القدس إلى حين سقوطها بيد القوات البريطانية قبل ميلادك ببضع سنوات .. بعد عودتنا من دير ياسين اذهب إليه واسأله، فهو لا يمانع أن يقصَّ لك سيرةَ حياته وأيامه الخوالي في الآستانة والنعيم الذي كان فيه بالقرب من السلطان المعظَّم.
قبل الوصول إلى القرية، طلب أبو خالد من السائق أن يُنزلهما على جانب الطريق، مشيَا باتجاه محجر الحاج أسعد، كانت أصوات الطرق على الحجر وتكسيره تأتي من هنا وهناك؛ بسبب انتشار الكسَّارات في تلك المنطقة الصخرية، والعمال يضعون الأحجار الثقيلة على السيارات الخاصة لنقل الأحجار من المقالع إلى مكان الكسَّارات.
– أبو خالد، يا أهلًا وسهلًا، يا أهلًا وسهلًا.
ردَّد الحاج أسعد ذلك عند رؤيتهما واستقبلهما بحفاوة كبيرة، ثم سلَّم على حسن ومسح رأسه متلطفًا وسأل عن خالد: لماذا لم يأتِ معكما؟
فأخبره أبو خالد أنه بقي في الدكان هناك في الخان .. بعدها صاح الحاج أسعد بأحد عماله وقال في أذنه شيئًا ثم ابتسم بوجههما، وردَّد مرة أخرى: أهلًا وسهلًا بأبي خالد، نوَّرت الديار بمجيئك، أخبرني كيف حال السوق في القدس؟
– والله يا حاج أسعد، الناسُ في ضيق، والتجار يشْكون الركود، لكن ندعو الله ألا يستمر الركود طويلًا، وتعود الحركة للسوق مرةً أخرى.
– لا، لن يستمرَّ هكذا .. بعد شهرين من الآن سيبدأ الحصاد والأمطار كانت وفيرة هذه السنة، بعد الحصاد سينتعش السوق بإذن الله.
هزَّ رأسه أبو خالد وقال بإذن الله، ثم وضع يدَه في جيبه وأخرج منه رِزمتين من الجنيهات، ومدَّ يده نحو الحاج أسعد وقال: تفضَّل، هذه سداد دَيني الذي عندك، وهذه لأجل بضاعة جديدة.
لم يقبل الحاج أسعد أن يأخذها مباشرةً إلا بعد ملحَّةٍ شديدة من أبي خالد، وبعدما أخبره أنه باع أرضه لأجل أن يسدِّد الديون التي عليه ويتخلص من الهَم الجاثم على صدره.
– لمَن بِعتها؟ سأل الحاج أسعد وهو يبحث عن اسمِ أبي خالد في دفتر الديون لكي يشطبه.
– لجَارٍ لي يُدعى أبا هشام، من خيرةِ تجار القدس، يصرف ماله لشراء الأراضي والعقارات التي لا حاجة له بها، فقط لأجل أن يمنع وصولها لليهود.
– بارك الله في ماله وكثَّر من أمثاله.
لم يتكلَّم حسن منذ وصوله مع والده، كان ينصت لحديثهما وفي وجهه مَسحة خجلٍ من الحاج أسعد، واحمرَّ وجهه أكثرَ عندما نظر إليه الحاج مبتسمًا وقال: هذا الفتى الجميل قد بلغ سنَّ الزواج، ألا تنوي تزويجه يا أبا خالد؟
ردَّ أبو خالد وهو يضحك: لم أزوِّج أخاه الأكبر بعد.
فردَّ الحاج أسعد مازحًا: وما الضير في ذلك، العيد الأصغر يسبق العيد الأكبر في الإسلام، فقط انوِ أنت وسنزوجه أجملَ فتاة في القرية.
انتاب حسن شعورٌ سيئ عند سماعه ذلك، وضاق صدره وتذكَّر أنوشكا الجميلة التي ملكت قلبه، فأعطى ابتسامةً صفراء بوجه الحاج أسعد، وقال في نفسه: الكِبار لا يشغلهم سوى الزواج والحديث عن تزويج الأبناء والبنات وهم يقررون ويتفقون ويعطون ويأخذون، ونحن فقط علينا السمع والطاعة وكأننا آلاتٌ لا نملك أحاسيسَ ومشاعر.
بعدها سجَّل أبو خالد كميةَ الأحجار وأنواعها لكي يتم نقلها بسيارة النقل التي تعود للحاج أسعد إلى مخازن الخان في القدس؛ إذ كانت البضائع توضع في المخازن ويتم عرضُ نماذجَ منها في الدكاكين، وعند الاتفاق مع الزَّبون كان يتم التجهيز والنقل من المخزن إلى بيت الزبون.
لم يسمح الحاج أسعد لأبي خالد، وحسن، بالعودة إلى القدس قبل أن يتناولا الغداءَ في بيته.
أسرَت ديرُ ياسين قلبَ حسن من الزيارة الأولى، كما أسرَت قلبَه أنوشكا من النظرة الأولى؛ فالهواء النقي وبساتين العنب والزيتون وأشجار التين واللوز التي تنتشر هنا وهناك جعلت من القرية وكأنها جنةٌ من جنان الله على الأرض .. بساطة الناس ونظراتهم التي تحمل الحب والفضول تجاههم وهم في طريقهم نحو بيت الحاج أسعد، ودعواتهم لهم على الغداء، فيرد عليهم الحاج أسعد، بوركتم واضعًا يده على صدره دلالةً على الشكر والامتنان.
كانت الوليمة على قدر المعزَّة، فُرشت المضافة بأنواع الطعام وأشكاله من المفتول والمسخن والمقلوبة، ودُعي على شرف أبي خالد وجهاءُ القرية والجيران، وأكل المدعوون حتى أتخموا.
انتبه حسن أثناء تناول الطعام إلى أحد المدعوين وهو يأكل بشراهةٍ ويُهمهم وكأنه يأكل بفمه وأنفه سويًّا، ينهَش نهشَ السباع ويلقَم لقمَ الجمال ثم يكرَعُ اللبنَ من الطاسة وتبقى نقاطٌ من اللبن عالقةً على شاربيه فيمسحه بكمِّ ردائه، حتى قال أحدهم له: على رِسْلك يا أبا محمد، على رِسْلك، ستغُص بلقمةٍ هكذا وتموت من الاختناق، فيكتب أهل القرية على شاهدة قبرك شهيد اللقمة.
ضجَّ الحاضرون ضحكًا وتعالت الأصوات، ثم قال أحدهم وكان يبدو عليه أستاذًا في مدرسة القرية، يذكِّرني هذا الموقف بشِعر موسى الدهمراوي صاحب كتاب «نزهة القلوب في لذة المأكول والمشروب»؛ إذ يقول فيه:
فارتفعت أصوات الضحِك مرةً أخرى وقالوا أكمل، أكمل:
شعر حسن بطيبةٍ غير معهودة لدى سكان دير ياسين، أناس بسطاء وكرماء، إضافة إلى الروح المرحة والحب المتبادل فيما بينهم، تذكَّر الأستاذ محمود الخطيب عندما أخبرهم عن معنى كلمة «قرية» المأخوذة من القِرى، وكيف أن القرية التي لا تُقري الضيف تفقد تلك المكانة فتسمَّى «مدينة»؛ إذ إن القرآن الكريم لمَّح لذلك بقصة موسى عليه السلام مع الخضر فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، في بادئ الأمر وصفَها «قرية»، لكن عندما أبَوا الضيافةَ تغيَّر الوصف في الآيات المقبلة وكأنها فقدت تلك الميزة ببخلها واتصفت بصفات المدينة فأصبحت وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.