الفصل السادس عشر
كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة خلف التلة البعيدة والغيوم مجتمعة حولها على شكل كتلٍ متراصة تلوَّنت بلونٍ قرمزي وكأنها تشيِّع الشمس إلى مثواها الأخير، والعربات المتجمِّعة في الساحة الخلفية للسوق يضفو عليها شيء من لون ذلك الحِداد السماوي المتكرِّر، والتعب المشوب بالفرح يعتلي وجوه المزارعين بعد يوم طويل وشاق، وهم يتجهَّزون للرحيل إلى قراهم .. تفحَّص الوجوه أرتين باحثًا عن مزارعي قريته لكنه لم يجد أحدًا، توجَّه إلى السوق حيث يتواجد الباعة علَّهم هناك ولم يكملوا بيعَ محصودهم، لكن الساحة كانت فارغة إلا من الأوساخ المتناثرة هنا وهناك.
على ظهر العربة المتوجِّهة إلى القرية المجاورة لقريتهم سأل أرتين أحد المزارعين: ألم يخرجوا معكم اليوم لبيع محاصيلهم؟!
– لقد تعرَّضت العصابات للقرية منذ الصباح الباكر ولم يستطيعوا الخروج.
– ماذا تقول؟! هل سمعت شيئًا عنهم؟ أخبرني أنا ابن مختار القرية!
– لا أعلم سوى أن سببَ عدم مجيئهم إلى السوق هو الذي قلته لك توًّا.
انتفض غريغور غاضبًا وضرب بقبضة يده على أحد الألواح الخشبية في أرضية العربة فكسره، عندها ساد صمتٌ بينهم كان بانوس بالكاد يكتم ضحكةً عارمة حتى احمرَّ وجهه، وأرتين يرمقه بأطراف عينيه، حملق صاحب العربة بوجه غريغور وقطَّب حاجبيه وكأنه يقول: ما ذنب عربتي بالذي حصل؟
– أعتذر، لم أقصد كسرها، سأصلحها لك.
صدَّ صاحب العربة وجهه عن غريغور وهو يتمتم بكلماتٍ غير مفهومة ويحرِّك رأسه متذمرًا.
– اهدأ يا غريغور سنصل بعد قليل ونرى ماذا حلَّ بهم، هذه ليست المرة الأولى التي يغيرون فيها على القرية.
– أعلم أنها ليست المرة الأولى، لكن لا أستطيع أن أتمالك نفسي، سأنتقم من هذه العصابات مهما حصل، وأقطِّعهم بيديَّ هاتين.
•••
كانت وجوه الرجال شاحبةً غزاها الخوف والهوان، في مضافة المختار تلمكيان في تلك الليلة البائسة عندما دخل أرتين مع غريغور وبانوس إليهم، رفعوا رءوسهم كانت نظراتهم تحمل الأسى واللوم معًا، لم يتحرك أحدٌ من مكانه حتى المختار تلمكيان كان جالسًا مطأطئ الرأس، اقترب منه أرتين وقال: أبي، أرجوك أخبرني ما الذي حصل؟
رفع المختار رأسه بعينين دامعتين، فرأى أرتين فيهما انكسارًا لم يرَه في وجه أبيه قط، وكأنهم كسروا كبرياءه وهدموا جبروته، وقطعوا كلَّ سبل قوَّته، كانت نظراته تحمل في جوفها بكاء طفل يتوق إلى حِضنٍ يشعره بالأمان، شعور بالضعف وقلة الحيلة وهو المسئول عن حياة أهل القرية.
– لقد أثخنوا في القتل هذه المرة.
– لا تطأطئ رأسك يا أبتي، سننتقم ونثأر منهم قريبًا.
– لا يا بُني، لا قدرة لنا بهم، أنا لدي حلٌّ آخر.
قام المختار تلمكيان من مجلسه وانتصب واقفًا وكأن الروح عادت إلى كبريائه وامتلأ المكان بهيبته، ارتسمت البهجة في وجه أرتين وظن أن أباه قد قرَّر الانضمام إلى الثوار واقتنع أخيرًا أنَّ لا فرصة لديهم للبقاء على قيد الحياة إلا بهذه الخطوة.
– اسمعوني جيدًا يا رجال، لقد حاولنا بكل الطرق صدَّ العصابات التي ما لبثت تهاجمنا منذ سنوات، وفي كل مرة تزداد قوَّتهم ووحشيتهم أكثر فأكثر، طلبت الدعم من الوالي فاستجاب لكن العصابات زاد عددها وعُدَّتها ولم نستطِع ردَّهم مرة أخرى، وساءت أحوالنا؛ لذلك أرى أننا نترك القرية جميعًا ونتوجَّه إلى قريةٍ قريبة من مدينة «وان»، والذي لديه القدرة أن ينتقل للعيش في المدينة لا مانع من ذلك، الغاية هي الخلاص من شر هؤلاء، والابتعاد عنهم لفترة حتى تستقر الأوضاع ويتم القضاء على العصابات ثم نعود إلى ديارنا، فإن قبِلتم فسأرسل إلى الوالي برقيةً أوضح فيها حالنا، كي يرسل إلينا دعمًا أثناء التنقُّل، وكذلك أطلب منه بعض المساعدات لأجل هذا القرار، فما رأيكم ومشورتكم؟
هزَّ أرتين رأسه يائسًا وهو ينظر بوجه بانوس، كانت فكرة المختار لا تحمل أيَّ شجاعة وليس فيها تمسُّك بالأرض كما كان يظن، كيف فكَّر بترك أرض آبائه وأجداده بهذه السهولة؟ كان ذلك السؤال يراوده وهو يستمع إليه.
سكت رجال القرية وبدا أنهم يفكِّرون في كلام المختار، كانت حادثة اليوم لها تأثير كبير في نفوسهم وتعبهم الشديد من جراء عدم وجود حل جذري لمشكلتهم .. ثم أبدَوا جميعًا أنهم موافقون على الفكرة، كان بانوس أكثرَ المتحمسين لفكرة المختار على عكس غريغور وأرتين؛ لأن باتيل ستكون قريبة من «وان».
•••
كانت مقاطعة غاردن تعيش حالة من الهلع، والخوف قد غزا وجوه المارة في السوق، ففي أي لحظة يوشك أن يحدث اغتيال للدَّرك المنتشرين هنا أو هناك، أو مشاحنات بين الأرمن والأكراد التي عادة ما تتحوَّل إلى شجارٍ بالسكاكين وتوعُّد بالويل، كلٌّ يهدِّد الآخر بشكل مبطن، هذا متكئٌ على الفرسان الحميدية، وذاك بالثوار الأرمن، والقتل غدا الحل الوحيد بينهما بعد قرون طويلة من الجيرة والامتداد التاريخي المشترك، وكأن التعصب قد محا كل تلك السنين وبرز الوجه الأسوأ للطرفين.
– أرتين: المدينة ستنفجر بأي لحظة.
– وهذا ما نريده.
– كيف؟ نحن الطرف الأضعف إذا انفجرت حتمًا ستكون خسائر الأرمن أكثر منهم بكثير.
– إنها معادلة التضحية التي لم تعجبك في يريفان.
– لكن هذه المرة لا تشبه عواقب عملية اغتيال الوالي الفاشلة.
– كلما كانت التضحيات كبيرة كلما اقتربنا من الغاية أكثر.
– علَّها تكون التضحية الأخيرة.
أطرق أرتين نظرةَ استغرابٍ بوجه بانوس.
– أخيرة!
– أعلم أنها أمنيةٌ مستحيلة، وأعلم أننا في بداية طريقٍ سيطول بلوغ نهايته، لكن ما لنا غير الأمنيات نوهم أنفسنا بها ونخفِّف الوطء عليها.
هزَّ أرتين رأسه، ثم ساد صمتٌ بينهما كانا جالسين على تلةٍ مرتفعة يتأملان بحيرةَ وان الزرقاء، ومراكب الصيد تتأرجح على الماء وكأنها مهدُ طفلٍ تحرِّكه الأم بلطف شديد.
•••
في صباح أحد الأيام تفاجأ أهالي الحي الأرمني بانتشارِ الثوار في الأزقة وهم مدجَّجون بالأسلحة، وأُقيمت الحواجزُ حول كنيسة «ديره» ومبنى الإرسالية البروتستانتية ومحلة «نورشين» و«حاج بوغان» من جانب كنيسة «إيريك»، باستخدام جذوع الأشجار وأغصانها وكذلك بطوب اللبن، وبذلك سدَّ الثوار كلَّ منافذ الجزء الأرمني من المقاطعة، فأصبح تحرُّك الثوار بحرية أكبر داخله.
سمع أرتين صوت إطلاق نار من جهة محلة «نورشين»، لكن تبيَّن فيما بعدُ أن مجموعة من العمال كانوا قادمين إلى مكان عملهم الحي الأرمني، وتم إطلاق النار في السماء حتى يعودوا أدراجهم، كان أرتين يبحث بين الثوار عن غريغور وبانوس، بعدما أصبحت حركتُهم حرة في الجزء الغربي من مقاطعة غاردن، وبالأخص فصيل الاغتيالات كانت مهمتهم ليست بخط الصد الأمامي مثل بقية الفصائل المدربين على مثل هذه الاشتباكات، فقد تم اختيار أمهر القناصين في الفصيل ووضعهم في أعلى أسطح البيوت العالية وسطح الكنيسة، ولم يكن أرتين ممن اختيروا لتلك المهمة.
تجوَّل بين الأزقةِ حاملًا سلاحه، كان القادة مجتمعين ويوجِّهون مقاتليهم ويدبون فيهم روح الحماسة، وعند وصوله قربَ كنيسةِ «ديره» انتبه إلى غريغور وهو متكئ على حائط الكنيسة يمسح بارودته بقطعةِ قماش على مهل، تعانقا عناقًا طويلًا.
أثناء تبادلهما الحديث أُمطر موقعهما بوابل من الطَّلَقات، اتكأ أرتين على جدار الكنيسة، بينما غريغور كان يصيح كالمجانين وهو يطلق النار باتجاه العدو خلف جدارٍ من طوب اللبن ويرفع حماس الذين معه، بعدها وصلت إمدادات إلى هذا الجزء الذي يبدو أن العدو قد ركَّز عليه في بدء الهجوم .. سقط العديد من الشهداء في تلك الهجمة المفاجئة، لكن لم يستطيعوا اختراقَ الحي الأرمني، لاستبسال غريغور ومَن معه من المقاتلين.
استمرت المعارك من الصباح حتى غروب الشمس يومها، في كل الجهات من الجزء الأرمني، وبسبب التمركز الجيِّد ووجود القناصين وبسالة المقاتلين لم تستطِع قوات «سعد الدين باشا» دخولَ أي محلة فيه، وبقي الحي الأرمني محصَّنًا ومنيعًا.
أقبل أحد المقاتلين نحو أرتين وهو يلهث.
– أرتين، أرتين، لقد أصيب بانوس بطلقة نارية على كتفه.
– ماذا تقول؟ أين هو الآن؟
– دعني آخذ نفسًا.
جلس بقرب أرتين ورفع الكوفية من على وجهه، ثم وضع يده على صدره والأخرى على الأرض.
– هناك في حاج بوغان.