الفصل السابع عشر
من على شرفة غرفته المشتركة مع خالد والمطلة على باحة منزلهم جلس حسن يتأمَّل بزوغ الفجر، يتمعَّن في الخط الفاصل بين الليل والنهار، الضوء والظلام وكأن أحدهم يسحب البساط الأسود شيئًا فشيئًا ليعلن ولادة يومٍ جديد .. قال في نفسه: «الليل والنهار موت أحدهما هو بولادة الآخر، وبما أن لكل موت سكراتٍ كان لا بد لكلٍّ منهما نصيب منها، الفجر سكرات الليل، والغروب سكرات النهار، وما أشبه أجواء السكرتَين، ليسا بالظلام الدامس كما الليل، وليسا بالنور الكاشف كما النهار، هما ما بين بين، كأن روح النهار تُغرز في جسد الليل عند الفجر فتضيئه، وروح الليل تُغرز في جسد النهار عند الغروب فتظلمه، ولعل الله أعطى شيئًا من التمييز لسكرة الليل حين قال وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، ولم يقُل «وإذا المغرب تنفَّس» لسكرة النهار، فهل كان ذلك دليلًا على تفضيل النهار على الليل بتلك البداية؟ أم إنه كان تكريمًا لليل بتلك النهاية؟»
كانت أم خالد تعدُّ الفطور في المطبخ، وأبو خالد جالسًا قرب شجرة النارنج في الباحة حاملًا سُبحته المصنوعة من حجر اليُسر الكريم التي ورثها عن أبيه، يحرِّك حبَّاتها ببطء شديد غارقًا في تفكيرٍ عميق كعادته.
خرجت سكينة من غرفتها لتجهِّز المائدةَ في الباحة قرب النافورة الصغيرة، رتَّبت الكراسي الخشبيةَ حول الطاولة ثم فرشت الغطاء القماشي الأبيض والمطرَّز من الحواف عليها، وأحضرت الكئوس والفناجين ووضعتها فوق الطاولة، الزيت والزعتر والزيتون والخيار مع الجبن المقطَّع كلٌّ في طبقه الخاص، كانت تتنقل بين المطبخ والباحة جيئةً وذهابًا تأخذ الأطباق من يد أم خالد وتضعها على الطاولة، وحسن يراقب المشهدَ من على الشرفة.
أثناء الإفطار اقترح حسن أن يوصل سكينة إلى مدرستها اليوم على غير العادة، نظر إليه خالد نظرةَ شكٍّ وريبة، وتنحنح وهو يبلع ابتسامته، احمرَّ وجه حسن وشعر بضيق في النفس عندما تأخَّر الرد من أبيه الذي يوصلها إلى المدرسة كلَّ يوم حتى قال: حسنًا، أوصلها ثم عُد إلى مدرستك.
أكمل حسن إفطاره بسرعةٍ ثم توجَّه إلى غرفته، ارتدى بنطاله الأسود وقميصه السمائي ثم سرَّح شعره على الجانب ووضع العطرَ من القنينة النحاسية على يده ثم مسحه على رقبته وقميصه ومسح حذاءه ثم حمل حقيبته وخرج، كان اهتمامه بأناقته فجأةً لافتًا للانتباه في البيت وشكَّ الجميع بأن حسن قد وقع في شِباك الحب، لكن لم يُظهِر أحدٌ له ذلك سوى ابتسامات يتبادلونها فيما بينهم خلسة منه.
كانت سكينة تستنزف مصروفَ حسن اليومي؛ لأنها لا تلبِّي له طلبًا دون مقابل، وهذه خطتها بأن تدبِّر لقاءً بين حسن وأنوشكا عند باب المدرسة وتعرِّفهما على بعض مقابل جولاتٍ في السوق وشراء ما تريد من الباعة المتجولين دون أن تصرف قرشًا واحدًا.
سألها حسن: كيف أتكلَّم معها إن كان العجوز أرتين سيوصلها؟
– ومَن قال لك ذلك؟
– مَن يوصلها إذن؟ هل ستأتي وحدها؟
– هي تأتي مع بنات حارة الأرمن يتجمَّعن هناك ثم يخرجن سويًّا، لا يوصلهن أحد، اطمئن.
– وكيف لي أن أتكلَّم معها وهي بينهن؟
– سأناديها عند الباب فتأتي وحدها وأعرفكما على بعض.
كان قلبُ حسن يخفق طول الطريق غيرَ مصدِّق كيف سيتكلم معها وكيف سيصمد أمام جمال عينيها ولا يضيع فيهما، كيف ستخرج الكلمات والأحرف من شفتيها الرقيقتين؟ .. لم ينمِ الليلة الماضية كلها وهو يفكِّر باللقاء الأول، أخبرته سكينة دون ذكرٍ للتفاصيل وها هي تسير بثبات لتحقيق السعادة العارمة لأخيها، اختلجه شعورٌ غريب تُجاه ما تفعل من أجله فرمقها بأطراف عينيه وفكَّر في نفسه ماذا لو كانت هي مَن تحب أحد أصدقائي، هل كنت سأفعل ما تفعله من أجلي؟ وهل كانت تستطيع أن تخبر أحدًا في البيت أنها تحب؟! لكن كيف تكوَّنت هذه النظرة في مجتمعنا حتى اقتنعت الأنثى بذلك وباتت تقدِّم المساعدة وهي تعلم أننا لا نتقبَّل أن تُحب لا أن تخبرنا مَن تحب وتطلب المساعدة من الأساس؟ ربما يُبرَّر هذا تحت مسألة الخوف على سمعتها أو من كلام الناس عليها، جميعها مبرِّرات غير مقنعة في أصلها، لكنها أصبحت مقنعة مع مرور الزمن وتتابُع الأجيال.
عند باب المدرسة وقف حسن مع سكينة وأظهر الانشغالَ بحقيبته وكأنه يريد إعطاءها شيئًا قبل المغادرة، كانت حركةً لعدم لفت الانتباه وكسب الوقت لحين مجيء أنوشكا.
– لقد تأخَّرت كثيرًا.
– اصبر ستأتي الآن، هذا وقت مجيئهن.
– ألا ترين كيف يرمقني حارس المدرسة وقد قطَّب حاجبيه.
– لا عليك منه، هذه نظراته الطبيعية.
ثم همست له: عقله ليس سليمًا.
أثناء الحديث عن الحارس، انتبهت سكينة إلى الزقاق المقابل لباب المدرسة ورأت الفتيات الأرمنيات تتوسَّطهن أنوشكا وهن يتكلمن قليلًا ويضحكن كثيرًا.
– لقد وصلت.
التفت حسن فرآها بزي المدرسة الضيق وقد رسم انحناءات جسدها الناعم، وبرز قَدُّها الممشوق، وبينما حسن يتأمَّلها بكل تفاصيلها نادتها سكينة فأقبلت تمشي على استحياء .. سلَّمت عليها وسألت عنها، وحسن قربهما واقف كالصنم وقد تجمَّدت عروق الدم على جبينه.
– هذا أخي حسن.
نظرت إليه ونظر إليها فاهتزَّ عرشُ قلبه، وبدأ يرتجف من شدة وقْع الموقف، رأى في عينيها السماء والبرق قد رُسِم في زرقتها بشكل دائري وكأنه ينبع من الحدقة وتتفرَّع منها إلى الأطراف، لم يكن هناك تشبيهٌ دقيق لتلك العينين بمخيِّلة حسن سوى قوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ.
قطعت أنوشكا وِصال عينيهما وأسدلت ستارها برجفة وقالت: أهلًا حسن، أنا أنوشكا.
– أهلًا بكِ.
عندما سمِعها تنطق اسمه بصوتٍ يكاد يمازح الأرواح لرقته، وتشرُّبه النفوس من عذوبةِ مذاقه، هوى قلبه بوادٍ سحيق، فأطرق رأسه ونكس بصره وكأنَّ لسانه اعتُقل من الخجل وقطعه الحياء من الكلام، كانت أنوشكا أكثرَ جرأة منه، فأردفت قائلة: أعتقد أنني رأيتك في ليلة حناء «فاطمة» عند الباب أتذكَّرتني؟
– نعم، كنتِ مع والدتك على ما أظن.
هزَّت رأسها مبتسمة، ثم استأذنت بالرحيل.
لم يشعر حسن بالفرح مثلما شعر في ذلك اليوم، كاد يطير من سعادته، بالأخص عندما أخبرته سكينة أنها أحسَّت بها تبادلك الشعور، كانت نظراتها لك تنم عن حبٍّ لا يقل عن حبك لها.
في الأيام التي تلت اللقاء كان حسن يخرج من الصباح الباكر ينتظر أنوشكا في الزقاق المقابل للمدرسة، وعند الظهيرة ينتظرها لتخرج فيلحقها مع صديقاتها إلى الحي الأرمني ثم يعود للبيت.
استمر حسن على هذا الحال أيامًا وأسابيعَ، وكانت صديقات أنوشكا على علمٍ بحاله ويرمقنه بنظرات غريبة ثم يجمعن رءوسهن بشكلٍ دائري ويتكلمن بكلمات هامسة ثم تتعالى ضحكاتهن .. كانت تصرُّفاتهن تزعج حسن كثيرًا لكنَّ حبَّه لأنوشكا أكبرُ من أن ينصرف إلى سخافتهن ويترك المجيء لرؤيتها، الرؤية التي تمدُّه بالقوة والإصرار وتخفِّف عنه بعضًا من الشوق الذي يرهق القلب ويوهن الأوصال.
جلس في إحدى الليالي وقد أثقلت على قلبه المشاعر، فأراد أن يريح عن كاهله ويبوح لأحد عما يثقله فلم يجد غيرَ الورقة ليبوح لها وتكون البئر العميقة لأسراره وخواطره؛ فالأوراق لا تفشي الأسرار ولا تخون الثقة .. حمل القلم المترجم الوحيد بينه وبين الورقة وشرع يكتب أبياتًا شعرية على عدم معرفته بالبحور ولا بالأوزان الشعرية .. فتذكَّر التتار الذين كانوا يقتلون الناس دون سببٍ وبلا رحمة، القصة التي سردها لهم الأستاذ محمود الخطيب، فكتب: