الفصل الثامن عشر
في طريقه إلى مبنى أعضاء المجالس اليهودية، كان المرضى والمعاقون مُلقين على الأرصفة والشوارع، وقد تغوَّط بعضهم على نفسه وتجمَّع الذباب عليهم، وهم يطلقون تلك النظرات المحيرة للمارة لا تعرف أهي نظرةُ حقد وحسد، لماذا أنا هكذا وليس أنتم؟ أم إنها نظرةٌ تستجدي الشفقة لحالهم؟ شعر مايكل بحيرةٍ كبيرة عندما وقعت عيناه بعيني أحدهم وبدأ شعور اليأس يجري في داخله، أيعقل أن يقبلوا بنقل سارة إلى المشفى، وكل هؤلاء المرضى والمعاقين في الشوارع لا أحدَ يلقي لهم بالًا؟
كان الناس قد تجمَّعوا أمام باب المبنى، حاول التقدُّم من بينهم علَّه يستطيع التحدُّث إلى مسئول الشرطة الواقف على عتبة الباب ويحمل بيده سوطًا وعلى ذراعه قرب الكتف نجمةُ داوود الزرقاء، وينظر نظرةَ ترفُّع واستحقار نحو الواقفين ولا يقبل التحدُّث إلى أحد، كان الحاضرون من يأسهم للوصول إليه يوجِّهون مطالبهم بصوتٍ عالٍ: «يا سيدي دعني أدخل، أطفالي سيموتون»، «يا سيدي لقد تم مصادرة دكاني»، وتعالت الأصوات فشعر بعدم جدوى إشراك صوته إلى صوتهم غير المسموع، فآثر الخروج من بينهم، وقف بعيدًا ينظر ما تئول إليه هذه الأصوات المتعالية، هل سيسمعهم أحد أم إنها تذهب أدارجَ الرياح؟
حاولت الشرطة تفرقةَ الناس بالكلام والرفض لدخول أي أحد ولم ينفع، كان لا بد من استخدام القوة كالعادة؛ فالشرطي غير محاسب مهما فعل هنا، ما قيمةُ البشر في الغيتو حتى يتم محاسبة أحدٍ من السلطة المزعومة أو ممن يحمونها، لم يلزم الأمر سوى سَحب أحد الواقفين وإشباعه ضربًا بالسياط، فارتدع الباقون وتفرَّقوا صامتين خائفين، كان صوت السياط أقوى أثرًا من الصياح كالعادة.
بقي هناك ينتظر الفرصةَ المناسبة لكي يجازف بالسؤال عن إمكانية دخوله إلى المبنى لمقابلة مسئول شئون مرضى الغيتو في المجلس، لكن الخوف قد تسلل إلى جوفه عندما رأى سياطهم تشق الملابس المهترئة لذلك المسكين، ثم تذكَّر مقولة الطبيب «المال يفتح الأبواب الموصدة في الحياة»، فأخرج خمسة ماركات من جيب معطفه، ثم سار بخطوات ثابتة واقترب من أحد رجال الشرطة الواقفين في زاوية المبنى من الجهة الشمالية وقال له بصوت منخفض: إن استطعت إقناع مسئولكم للسماح لي بالدخول فسأعطيك خمسة ماركات وأعطيه ما يشاء.
حرَّك العملةَ الورقية بيده ليتأكد من امتلاكه لها، انفتحت عيناه وانفرجت أساريره فرحًا.
– اصبر هناك قليلًا.
قال مايكل في نفسه: «أنا لا أعلم مدى حب البشر للمال، لكنني أجزم أن لا أحد يحب المال كما نحن اليهود، هناك عشقٌ أزلي بيننا وبينه حتى أشعر أن بعضنا يعبده!»
بعدها تحرَّك الشرطي نحو مسئوله وهمس في أذنه، وأشار إلى مايكل بإصبعه، وتحدَّثا قليلًا ثم عاد إلى مكانه، غمز بعينه اليسرى لمايكل فاقترب منه مرة أخرى.
– أخبرني هل قَبِل؟
– نعم، لكنه يريد ثلاثين ماركًا.
– ثلاثين!
– نعم، وبدونه لا يمكنك الدخول.
فكَّر قليلًا، كان المبلغ ضخمًا بالنسبة لما هم فيه، لكن لا خِيار أمامه، سارة أمْ ثلاثون مع خمسة له، خمسة وثلاثون ماركًا! هذا المال يكفينا مدة شهر هنا، يا لطمعهم، يهود بيننا وهكذا نبتز ونستغل بعضنا بعضًا، لم يكن مخطئًا ذلك المذيع الذي اتهم اليهود بالاستغلال والابتزاز يومَ كنا في ميونخ، أخرج ثلاثين ماركًا ووضع فوقها خمسة ماركات وأعطاه مع ابتسامة صفراء، أخذها الشرطي ووضع في جيبه خمسة عشر ماركًا ثم توجَّه إلى مسئوله، بقي مايكل مصدومًا مما فعل، قال في نفسه: عليك اللعنة.
كان وراء الباب موظف استعلامات سأله مباشرة: ماذا لديك؟
– أختي الصغيرة مريضة بالتيفوئيد، علَّني أستطيع إقناع مسئول شئون المرضى بنقلها إلى المشفى خارج الغيتو.
– إلى الطابق الثاني من هنا ستجد أمامك ممرًّا مثل هذا الممر، مكتبه هي الغرفة الثالثة من على اليمين.
وبينما مايكل يعتلي الدَّرج رأى ضابطًا نازيًّا بكامل قيافته صُدم للوهلة الأولى، إنه نفس الضابط الذي وقَّع عنده تعهُّد ترْك ألمانيا في معسكر داخاو، توقَّفت كل جوارحه عن الحركة، أصابه الجمود وتذكَّر أيام المعسكر المريرة، مرَّ من جانبه والابتسامة تعلو جبهته، لو رأيته في الشارع لقلت إنه من ألطفِ وأرقِّ ما خلق الله، لكن مجرد رؤيته بالنسبة لمايكل ولنزلاء المعسكر يسبِّب ضيقًا في التنفس وشللًا عن الحركة.
أخذ نفَسًا عميقًا كي يعيد نشاط الدورة الدموية في جسده، ثم أكمل طريقه إلى الطابق الثاني وهو يتساءل: ماذا يفعل هذا الضابط هنا؟ لا بد من أن هنالك أوامرَ جديدة ببرنامج إعادة التوطين.
طرق باب الغرفة الثالثة من الجهة اليمنى.
– تفضَّل.
عندما دخل رأى المسئول قد وضع كفَّه على جبينه والأخرى على خَصره، ويخطو ذهابًا وإيابًا خلف مكتبه وكأن أمرًا جللًا سيحصل وهو في حيرةٍ من أمره، التفت إلى مايكل وأشار بيده: اجلس هناك.
مرَّت دقائقُ على جلوسه والمسئول غارق في التفكير والحيرة، تنحنح مايكل قليلًا: سيد «مارك»، هل أستطيع التحدُّث إليك؟
قرأ مايكل اسمه من اللوحة الخشبية الموضوعة في مقدمة مكتبه، نظر إليه ثم جلس.
– هاتِ ما عندك!
– أختي الصغيرة يا سيدي.
– ما بها؟
– لقد أصابتها حمَّى شديدة منذ ليلة البارحة، واليوم صباحًا بالكاد وجدت طبيبًا ليفحصها، فأخبرني أن أعراض المرض توحي أنها مصابة بالتيفوئيد ويجب نقلها إلى المشفى خارج الغيتو حالًا وإلا ستموت وتنقل المرض إلينا.
– خارج الغيتو!
قالها متعجبًا.
– سأعطيك المبلغ الذي تريده، فقط أنقِذها يا سيدي ودعهم ينقلونها إلى المشفى أرجوك.
أخذ نفَسًا عميقًا ثم زفيرًا بصوتٍ مسموع وهو يُخرِج سجلًا من تحت الأوراق المبعثرة على مكتبه: ما اسمها الكامل وعنوانها؟
ارتسمت الفرحة على وجه مايكل، ذكر له الاسم والعنوان بالتفصيل.
– عرفت العنوان، إنه نفس المبنى الذي تسكن فيه عمتي لكن في الطابق الثالث.
– الحقيقة نحن لم نتعرف على الجيران بسبب الوضع الخاص للحياة هنا، معذرةً يا سيدي، لكن هناك نظرة احتقار من يهود وارسو الأصليين تجاهنا.
– أعلم ذلك، لا تكمِل، ليس ذنبكم الذي يحصل ولستم سعداء بهذا السكن أو بالأحرى بهذا الجحيم، لكن الكل هنا مغلوب على أمره تحمَّلوهم، ماذا تفعلون؟ لا خِيار أمامكم.
– لم أقصد التحمُّل، بل قصدت لا نستطيع إقامة علاقة عائلية معهم؛ ولذلك قلت لك إنني لا أعرف عمَّتك.
– لا تتعرَّف عليها، خذها نصيحة مني.
قالها متهكمًا، ابتسم مايكل بوجهه وهو يقول: أتمنَّى أن تزورنا إذا قدمتَ إليها.
– أنا أزورها كلَّ شهر مرة، إن حصلت لي فرصة سأزوركم.
– أهلًا بك سيدي، لكن معذرة كم سيأخذ من الوقت لحين نقلها إلى المشفى؟
– الحقيقة كان ضابطًا رفيع المستوى من النازية قبل قليل هنا … لا، لا شيء، غدًا صباحًا سأبعث مَن يأخذها من البيت فجهِّزوها، ولا يمكنكم مرافقتها هي فقط مَن ستخرج من الغيتو، حاولوا أن تودعوها جيدًا، فهذا المرض خطير كما تعلم.
صافحَه مايكل بحرارة وشكره كثيرًا على تعاونه معه ثم خرج. عند عودته إلى البيت، رأى قرب الباب الرئيسي للغيتو قد تم جمع قرابة ثلاثمائة شاب من أحياء الغيتو، كانت الشرطة اليهودية مَن تنظِّم الطابور، والضابط النازي قرب الباب يتأكَّد من الأرقام والعدد المطلوب، قالوا إن هؤلاء يتم ترحيلهم ضمن برنامج إعادة التوطين، لكن لماذا الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين فقط يتم ترحيلهم، أين زوجاتهم وأطفالهم وأهلوهم؟! هل التوطين للشباب فقط؟ لا بد أن هناك سرًّا وراء هذه التصرفات الغريبة.
لم يكن الخبر الذي حمله إلى أمِّه حول سارة مفرحًا كما كان يتوقَّع، كيف تتركها وحيدة وهي مريضة وبأمس الحاجة إليها، هذا الذي لم يفكِّر به مايكل، قال في نفسه: «إن محبة الأم تزداد لأولادها كلما كانت حاجة أحدهم إليها أكثر.» وهكذا كان حالها جرَّاء خبرِ أخذِ سارة وحدها إلى المشفى دون أن ترافقها هي، فبقيت الليلة كلها تبكي على رأسها وتقرأ المزامير وتدعو الله أن يعيدها سالمة بأسرعِ وقت.
في الصباح جهَّزت الأم سارة وألبستها أجملَ ما لديها من الثياب وبقيت تحضنها طول وقت الانتظار.
– كفاك يا أمي، سينتقل المرض إليكِ، مَن لنا غيرك إذا وقعتِ طريحةَ الفراش؟ دعيها أرجوكِ ستعود قريبًا سالمة وتحضنينها كما تشائين.
وبينما مايكل يقنعها بترك سارة طُرِق الباب، فتح ديفيد لهم، فدخل رجلان قد وضعا الكمامات على أفواههما إلى البيت، وضعاها على الحمالة وأنزلاها إلى العربة الخاصة لنقل المرضى، ثم انطلقت السيارة مسرعة نحو البوابة الرئيسية.