الفصل الثاني
إن في اللغةِ العربيةِ كلماتٍ جاءت من الصوت الذي يصدر عن الفعل، فنسمي الصوت الصادر من ضربِ معدِنٍ بآخر ﺑ «الطَّرق»، وهذه الكلمة مأخوذة من الصوت نفسه، وأخذ يضرب قطعتي حديد ببعضهما ويقول: أتسمعون كمية التشابه بين الصوت والكلمة؟
سكت هنيهةً ثم قال: وكذلك العقوق يا أبنائي؛ فهي كلمة مأخوذة من صوت تدفُّق الدم من عنق الدابة عند ذبحها، فيصدر صوتٌ أشبه ﺑ «عق، عق»، وكأنها توحي أن تسمية «العقوق» جاءت لتشبه الخروج عن رضا الوالدين بذبحهما، لكن من دون سكين!
كان حسن ينصت إلى أستاذ اللغة والدين «محمود الخطيب» صاحبِ العلم الغزير والحضور المهيب الذي ملأ الحصة صمتًا تامًّا إلا من صوت كلماته القليلة والمليئة بالمعاني العميقة، على عكس بقية الأساتذة الذين لا يستطيعون السيطرةَ على الطلاب في حصصهم.
وما إن انتهى الدرس حتى خرج حسن بصحبةِ صديقه المقرَّب هشام «ابن أكبر تُجَّار الحيِّ»، وكان من عادتهما أن يقضيا بعضًا من الوقت في باحة الأقصى الشريف، يتأملان المارَّة تحت ظل شجرة معمِّرة، عند باب المغاربة قبل عودتهما إلى البيت.
نظر هشام إلى قبَّة الصخرة وهي تلمع وكأنها ياقوتة صفراء في قاعِ نبعٍ صافٍ تعكس ضوء الشمس على الماء فتزيده عذوبةً ونقاء أكثر، وقال لحسن: أتعلم .. لو بإمكاني تَمَلك هذه القبة لأقنعت أبي بشرائها.
أخرج حسن ضحكةً هازئةً، وقال: تشتري بيتًا من بيوت الله، أمجنون أنت؟! ولمن تدفع المال مقابله؟
– لا أدري، ألا يدور على ألسنة الناس أن البريطانيين وعدوا اليهود به؟ كيف يَعِدون بشيء ليس لهم ويتصرَّفون به؟!
ثم أليس هنالك مقابل لهذا الوعد؟ إذن من الممكن بيعه وشراؤه.
– أتصدِّق هذه التُّرهات! بريطانيا الآن منهمكة في حربٍ كبرى، وأعداؤها أقوياء فلتحافظ على أراضيها إن استطاعت، لا يمكنها فعلُ شيء، أيامهم معدودة هنا، ما إن تتعرض بلادهم لخطرٍ محدِق حتى يجرُّوا ذيول الهزيمة من فلسطين فجأةً ويبقى الوعد حبرًا على ورق، ثم إن المسلمين يَفْدون البيت بأرواحهم.
هزَّ هشامٌ رأسه مؤيدًا ومدَّ يده نحو حسن، وقال: هيا بنا لنعود إلى البيت.
في طريق العودة بعدما أوصل حسن صديقه إلى دارهم كان الحاج صالح الكفيف يجلس على عتبة الباب الخارجي لداره، سلَّم عليه حسن وقبَّل يده وطلب خدمته وحاجته، فلم يسمع منه سوى عبارةٍ يكررها دائمًا: «الله يرحم ترابك يا عبد الحميد»، ولم يخطر على باله يومًا أن يسأله مَن هو عبد الحميد؟ لعله يقصد أحد أولاده الذي فقده، أو أحد أصدقائه القدماء. وأثناء ذلك أقبل رجلٌ كبير في السن يبدو من هيئته أنه ليس بعربي، شعره أبيض ناصع وبشرته حمراء، فيه من دم وملامح بني الأصفر، ونظراته الثاقبة القاسية لم يليِّنها الزمن وطول العمر، سلَّم على الحاج صالح، وصافح حسن وهو يبتسم ثم قال: سمعتك من بعيد تترحم عليه! أما آن لتبصر الحقيقة بقلبك بعدما فقدت البصرَ بعينك، وتكف عن الترحم عليه؟
– سأبقى أترحَّم عليه حتى تغادر الروحُ الجسد.
– دعك من ذلك، وأخبرني عن تاجر أحجار كلسية، لدي ترميمات في بيتي.
ردَّ عليه حسن دون أن يستأذن من الحاج صالح: أبي يعمل في تجارة الأحجار الكلسية.
تحسَّس الحاج صالح بكفِّه على ظهر حسن حتى وصل كتفه، ثم ربَّت عليه، وقال لصاحبه العجوز: نعم، أبو خالد يعطيك أحسن الأنواع، ويراعيك في السعر إن أخبرته بأنك صاحبي.
– وأين دكانه؟
– في خان تنكز «أوتوزبير»، اسأل عن أبي خالد السرابي يدُلك أهل الخان عليه، دكاننا صغير، لكن أبي معروف هناك.
أشاح الرجل بوجهٍ حسن ونظر إليه، وقد قطَّب حاجبَيه: لا تلفظ تلك الكلمة التركية اللعينة أمامي، تنكز يكفي، إنني أكره الترك ولغتهم وكلَّ شيء يتعلَّق بهم.
راود حسن الكثير من الأفكار وهو يرمقه بأطراف عينيه وقال في نفسه: أبي رجلٌ عصبيٌّ لا يحتمل مثل هؤلاء الزبائن الثقيلي الظل، أخشى أن يضربه بحجرة كلسية يعجِّل أجله.
سأل حسن عن اسمه، ليخبر والده أنه سيأتي إليه فقال: العم أرتين.
•••
كانت الأزقَّة الضيِّقة والقناطر التي تربط البيوت المتقابلة، تفوح من نوافذها الخشبية روائحُ الأطعمة المتنوعة في مثل هذا الوقت من الظهيرة، المسخَّن والمفتول والمقلوبة التي تجعل حسن يعجِّل خطواته ليصل إلى البيت ويمنِّي النفس أن يكون المسخَّن الذي تبدع بتحضيره والدته أم خالد هو الطبق الرئيسي للغداء اليوم.
كان الجوع قد أخذ مأخذَه من حسن، فبدأ يأكل بشراهة كبيرة حتى غصَّ بلقمةٍ واحمرَّ وجهه من الاختناق وهو يطلب الماء، ضحك أخوه الأكبر خالد، وربَّت على ظهره: على رِسلك، على رِسلك، الصَّحن لك وحدَك. مع مَن تتسابق في الأكل؟!
قطَّبت الأم حاجبيها وهي تنظر لخالد، وقالت: عليك بالعافية حبيبي حسن. وسقَته الماء.
– تذكَّرتُ .. هنالك رجل كبير في السن يُدعى العم أرتين يكون صاحب الحاج صالح، سأل عن بائعٍ للأحجار الكلسية، فأشرته إلى دكاننا في الخان.
قال الأب وهو ينظر إلى صَحنه ويحرِّك الملعقة عليه دون أن يأكل، وكأنه غارق في تفكير عميق: خيرًا فعلت.
وبينما هم كذلك انتبه حسن إلى أخته «سُكينة» وهي تضرب بكتفها، على كتفِ أمِّها لتوحي لها أن تتكلم .. تنحنحت أم خالد ونظرت نحو زوجها: أبا خالد، أريد شراء بعض الحاجيات للبيت وقطعةَ قماشٍ أخيِّط بها فستانًا لسكينة؛ فعُرس ابنة أختي فاطمة الخميس القادم، وهي لا تملك فستانًا يليق بالمناسبة.
ساد الصمت بعدما توقَّفت أم خالد عن الكلام وتوجَّهت الأنظار خلسةً إلى أبي خالد، رفع رأسه من صحنه ونظر بوجه ابنته التي احمرَّت وجنتاها، وقال كلمة واحدة وهو يغادر المائدة: حسنًا.
همس خالد لأمه: أبي في ضيقٍ مادِّيٍّ: الناس يشترون بالدَّين، والسوق متوقف تقريبًا، والأوضاع في البلد غير مستقرة حتى إننا لا نملك ثَمن بضاعة جديدة، لا تكثروا عليه بالطلبات، أنا في الدكان وأعلم ما يدور هناك.
– سأقنعه ببيع قطعةٍ من أرضنا الزراعية المتروكة على أطراف القدس.
– ومَن يشتري غير اليهود؟ وأنتِ تعلمين أن أبي لو متنا من الجوع لن يبيعَ شبرًا لهم.
– ولِمَ اليهود؟ أبو هشام هو مَن يشتري، كنت عند أم هشام وأخبرتني أن زوجها يشتري الأراضي والبيوت من غير حاجةٍ، فقط لكيلا يضطر الناس لبيعها لليهود.
نعم، السعر الذي يدفعه اليهود أكثرُ مما يدفعه أبو هشام، لكن الناس رغم حاجتهم الماسة لا يحبِّذون البيع لليهود.
– لكنَّ هنالك الكثيرين ممن باعوا ويبيعون لليهود! قال حسن ذلك.
ردَّ خالد بحزمٍ: الذي يبيع لهم وهو يعلم طمعَهم بأرضنا وحلمهم بإقامة دولة عليها، لا يملك مبادئَ في الحياة، وهو خائن للأرض، وسيلعنه التاريخ.
– ومَن يهتم للتاريخ! ومَن يكتبه أصلًا، الحاجة لا تعترف بالمبادئ! تمتم حسن وهو يغادر المائدة متوجهًا إلى غرفته.
ترك كلامَ أمِّه عن أبي هشام وما يفعله من أجل الحفاظ على الأرض بعيدًا عن أطماع اليهود أثرًا في نفس خالد، وتمنَّى لو أنه يملك مال قارون ليفعل مثل أبي هشام وأكثر، ويسد حاجة الناس ويمنعهم من اليهود.
آثر حسن أن يسأل الأستاذ محمود الخطيب عن أطماع اليهود في فلسطين؛ فهو لا يمانع أن يخرج عن المادة المقرَّرة في الحصة، وبالأخص لأجل موضوعٍ مهم كهذا.
– بُنيَّ: قبل الخوض في هذا الموضوع يجب أن تفرِّق بين اليهود والصهاينة؛ اليهود أهل الكتاب، ولنا معهم تاريخ مشترك لآلاف السنين على هذه الأرض، كما لنا مع المسيحيين مثلُ ذلك، بالرغم من كل المعارك والقتال الذي حصل على مرِّ التاريخ بقيت الجيرة والعلاقات الطيبة بيننا. لكن الصهاينة هي مجموعة ذاتُ فكر منحرف تريد بسطَ سيطرتها على اليهود أولًا، ومن ثَم على جميع سكان البلد، وهي على علاقة وطيدة بالمحتل البريطاني، وهؤلاء لا مانع لديهم أن يقتلوا اليهود أبناء جلدتهم من أجل بلوغ أهدافهم .. أذكر مرةً دخلتُ بنقاش مع أحدهم عن فلسطين فقال لي: لو عُدنا بالتاريخ لألفي سنة، كانت هذه الأرض مِلكنا نحن؛ يقصد «مملكة داوود». فقلت له: ولماذا لا نعود بالتاريخ ثلاثة آلاف سنة لنجد أن هذه الأرض للكنعانيين الذين قدِموا من جزيرة العرب وسكنوا فيها، وكتابكم التوراة يشهد بذلك، فلمن الأحقية إذن؟
سكت ولم يُلقِ جوابًا، ثم عاد يهدِّد بأن هذه المرة ستكون الأرض لهم إلى الأبد.
صمت قليلًا، ثم استرسل بالكلام: مَن يظنُّ أن هذه البقعة المباركة له وحده دون الآخرين فهو واهم، وإنْ توافرت له المقوِّمات الكاملة بأنْ يسيطر عليها لفترة من الزمن، إنه صراعٌ تاريخيٌّ على السيطرة، لكن يجب أن تدركوا يا أبنائي أنها لن تدوم تحت سيطرة أحد، لا نحن المسلمين ولا المسيحيين ولا حتى اليهود.
أبنائي .. إن مقاييس التاريخ الزمنية لا تشبه مقاييسنا نحن البشر؛ فالتاريخ يتكلم بالقرون والسنين الطوال، ويذكرها بكلمة أو كلمتين أحيانًا، ونحن نتكلم بفتراتٍ أقصر بكثير، ولأجل ذلك تمر الأمم بفترات قوة وفترات ضعف، ومَن يعيش في فترة القوة يظن أنها ستستمر إلى الأبد.
فينتشي ويتكبَّر ويتكلَّم بعلو صوته.
ومَن يبلغ فترةَ الضَّعف يصيبه الهوان ويشعر بأنه يبقى ضعيفًا أبدَ العمر، ويصل إلى مرحلة اليأس كما حصل للناس في زمن التتار؛ إذ يُذكر أن جنديًّا من التتار أراد أن يقتل رجلًا في بغداد، وما كان يحمل سلاحه معه، فقال: انتظرني هنا، سآتي بسلاحي وأعود، فبقي ولم يحرِّك ساكنًا حتى عاد وقتله!
دهش الطلاب من كلامه وسألوه مستغربين: كيف يمكن ذلك كيف؟! كان بإمكانه الهرب على الأقل!
- لا تلوموه، فلو كنتم مكانه لربما فعلتم ما فعل، الهوان والخوف من التتار كان قد بلغ في نفوس الناس مبلغَه، وظنُّوا أن هؤلاء لا يُهزمون ولا يمكن لأحدٍ أن ينتصر عليهم! وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تصل إليها أيَّة أمة بأن تفقد الثقة بنفسها ويصيبها الخَور، وهذا ما يريده أعداؤنا لنا ويحاولون في كل مرةٍ هزَّ ثقةِ الناس بما يستقوون به، ولعل فشل الثورة الكبرى قبل سنوات قليلة مثالٌ قريب عشناه ورأينا ما خلَّفته من هوان وخيبة لدى البعض.