الفصل العشرون
ما فتِئَ البشر يقتتلون فيما بينهم على الخيرات والأراضي على مرِّ التاريخ، كلُّ فرقة ترى الأحقية المطلقة لها في الأرض دون غيرها، وما إن توافرت لها أسباب القوة والتمكين حتى بطشت بغيرها، وليس المظلوم هنا مظلومًا بالمعنى الحقيقي، فلو تمكَّن وتوافرت له الأسباب لفعل ما فُعِل به هو أيضًا، في حين أن الخير يكفي الجميع، والأرض تسَعهم وتزيد، لكن الإنسان مجبولٌ على الطمع والزيادة ولا يشبِعه سوى التراب. وفي هذا المعنى قصة لثلاثة رجال من بني إسرائيل خرجوا يومًا في سفرٍ، وعلى طريقهم وجدوا صخرةً كبيرة من ذهبٍ لا يستطيعون حمْلها من شدة ثقلها، فاتفقوا فيما بينهم أن يرسلوا أحدَهم إلى إحدى القرى القريبة فيأتي لهم بزادٍ وفأسٍ ليحطِّموا بها الحجر فيسهل حملُها بعد توزيعها بينهم بالتساوي.
بعد رحيل أحدهم إلى القرية، اتفق الاثنان على قتله حالما يعود ليتقاسما الذهب بينهما، وفكَّر الثالث بأن يضع سُمًّا في الطعام ويوهمهما أنه أكل في القرية ليأخذ الذهب له وحده بعد موتهما بالسُّم، فما إن عاد حتى أخذه أحدهما على غفلةٍ وضرب قفاه بحجرٍ فسقط ميتًا في مكانه، وقبل أن يحطِّموا الصخرة الذهبية جلسا يأكلان الطعام الذي أتى به صاحبهما، وما إن انتهيا حتى سقطا أرضًا وفارقا الحياة، وفي النهاية ماتوا جميعًا حول الصخرة ولم يحظَ أحدٌ منهم بالذهب، في حين كان باستطاعتهم جميعًا الحصول عليه لو اقتنعوا بحصتهم .. والقدس كالصخرة الذهبية يا أبنائي ومعتنقي الأديان من «اليهود والمسيحيين والمسلمين» كهؤلاء الثلاثة.
استغرب هشام من كلام الأستاذ محمود ووضْعِه للمسلمين في خانة الاتهام بالظلم وعدم تفريقه لهم عن البقية! فلم يتمالك نفسه حتى رفع يده ليسأل، فسمح له الخطيب بالكلام: أستاذنا الفاضل، كيف يمكن وضْع المسلمين في خانة واحدة مع النصارى الذين اغتصبوا أرضنا مع أعوانهم اليهود الطامعين بها؟
دهش الطلاب من كلام هشام الذي استشاط غضبًا وحميَّة على أرضه ووطنه، والتفت الجميع إليه يرمقونه بنظراتهم .. فابتسم الأستاذ محمود وردَّ عليه بهدوء كعادته: بُنيَّ: هنالك فرقٌ كبير بين الأديان وبين أغلب معتنقيها؛ فليس كلُّ مَن قال أنا مسلم فهو مسلم حقيقي يمثِّل الإسلام الصحيح الذي يأمر به كتابنا وسنة نبينا الشريف، وكذلك الحال عند اليهود والنصارى. الأديان الثلاثة من مصدر واحد وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وهذه الأرض المباركة هي أرضٌ للجميع لا يمكن لأحدٍ إزاحةُ الآخر عنها، ولم يأمر الله في كتبه المنزَّلة بإزاحةِ أحدٍ منها والاستيلاء عليها بالكامل لصالح دِينٍ معين، لكن الإنسان يستخدم الدِّين على هواه ولأغراضٍ سياسية تارة، وبسط للنفوذ تارةً أخرى، فيقتل باسم الدِّين ويذبح ويهجِّر ويستبيح، وكلها تأويلات غير صحيحة للنصوص الدينية، ولو أمر الله في كتابه أن نستولي على الأقصى لنا وحدنا ونُخرِج البقيةَ منها لَتساءلنا لماذا جعل هذه الأهمية للقدس في الأديان الثلاثة، ثم أمر أتباع كلِّ دينٍ بأن يستولوا عليها بكتابهم؟! ولقلنا لماذا جعل القبلة الأولى للمسلمين الأقصى وقدَّسه عندهم ثم غيَّر القبلةَ إلى الكعبة وبقي التقديس؟ كان يكفي أن يجعل القبلة هي الكعبة من البداية ولا يضع أيَّ قدسية لها عندنا وينتهي الأمر، وكذلك لماذا أخرج اليهود من مصر إليها وأمكنهم فيها على قومٍ جبارين ولم يمكِّنهم هناك في مصر وجعلهم يقدِّسون هذه الأرض؟ ولماذا بعث عيسى هنا ولم يبعثه في روما مثلًا وجعلها مقدَّسة عند أتباعه وانتهى الأمر؟ هذه الأسئلة يجب أن نفهم رسالة الله لنا فيها قبل أن نجيب عليها وإلا لقلنا إن الله يريد الشر بأتباع رسالاته وقد وضع بينهم العداوة والبغضاء في ذلك، لكن الله سبحانه يريدنا أن نفهم أن هذه الأرض للجميع لا يلغي أحد وجود الآخر، وهي دلالة مادية بائنة ومثال حي على أن منبع الرسالات السماوية ومصدرها واحد لا يتجزأ ومن عنده هو وحده وتأكيدٌ على أن الأديان مكملة وناسخة لبعضها وليست مُبطِلة لما قبلها.
لم يقتنع كثيرًا بما قاله الأستاذ وهمَّ بأن يرد عليه، لكن حسن أدرك صاحبه فسحبَه من أسفل قميصه لينبِّهه بعدم الرد واحترام رأي الأستاذ، فسكت وبلع ما أراد قوله.
عند باحة الأقصى عاد الحوار من جديد، وكان حسن قد اقتنع بكلام الأستاذ محمود، لكنَّ هشامًا ظلَّ في ذهنه أسئلة كثيرة فنصحه حسن: اذهب إليه في مكتبه وحاوره وحدكما، لا تطرح مثل هذه الأسئلة أمام الطلاب فتنفتح الأعين عليك وتجلب الشكوك حولك، وأنت منتمٍ للمقاومة، وكلامك وتحركاتك يجب أن تكون مدروسة؛ فهنالك الكثير بيننا ممن يعملون مع الاحتلال وينقلون لهم الأخبار في السر.
اقتنع هشام بكلام حسن، لكن بقي الدم يغلي في عروقه، فحماسه الشديد وانتماؤه الجديد للمقاومة ومشاركته الأخيرة في العملية الناجحة ضد دورية جنود الاحتلال زرعت في نفسه مفاهيمَ أكثر حدة في التعامل مع المحتل وأعوانه.
– ومن ثَم يا حسن، هؤلاء معتدون قد أتَوا من بلادٍ بعيدة ليحتلوا أرضنا وينهبوا خيراتها، ومن قال نحن طردنا المسيحيين من القدس أو حتى اليهود، فأهل البلد هم أهلنا وما دفاعنا عن الأرض إلا دفاع عن الجميع أمام العدو الغريب عن الأرض، وهل رابطة الدِّين أقوى من رابطة الأرض والتاريخ المشترك لكي ينسلخ الإنسان نحو مَن ينتمون إلى دينه ويخون مَن يتقاسم معهم الأرض والجيرة لقرون طويلة؟
– لا بالتأكيد، لذلك ليس كل المسيحيين يؤيدون الاحتلال، ولا حتى كل اليهود يؤيدون الهجرة إلى هنا.
– ولا نحن نعتدي عليهم.
– لكن هذا لا يخفى على المحتل الغريب الذي بدأ بزرع بذور الفتنة بيننا وبينهم وتسبَّب في حوادثِ قتلٍ مفتعلة هنا وهناك؛ ليدفع كل طرف إلى الاستقواء بقومه وأتباع دينه، وهكذا فرَّق الصف وكسب الكثيرين منهم بدعوى الأخوة الدينية وتوفير الحماية لهم.
وبينما هم كذلك خرج بنيامين أمامهم فجأة، ومن دون أي مقدمات وجَّه سؤالًا لحسن: أتؤمن بكل الكتب السماوية؟
دهش حسن من تصرُّفه وقطَّب حاجبيه مستغربًا وهو ينظر بوجه هشام، ثم التفت إليه مبتسمًا: نعم أُومن؛ فهو الركن الثالث للإيمان عندنا.
– وتؤمن بإبراهيم؟
– عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الله، بالتأكيد أومن، لكن أين تريد أن تصل؟ كفاك أسئلة غريبة.
– ما دمت تؤمن بالكتاب والنبي فاسمع ماذا جاء فيه: «في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا لنسلك أعطِ هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.» فكيف تقول هذه الأرض ليست لكم؟
سكت حسن هنيهة، كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها آيةً من كتاب اليهود «التوراة»، ارتسمت ابتسامة على وجه بنيامين وظنَّ أنه أسكت حسن وحاصره في زاوية ضيقة، فجاءه الرد مباغتًا.
– لو كانت الأرض له بالأصل لماذا يَعِده الرب بها إذن؟ أليس هذا دليلًا صريحًا أنها لم تكن له؟
– الأرض للرب يهَبها لمن يشاء.
– ومَن قال إن نسل إبراهيم اليهود فقط؟! أليس إسماعيل من نسله وأكبر أبنائه؟
– هو ابن جارية، ولم يكن وعد الرب يشمل نسله، الوعد لنسل إسحاق فقط.
– وهل الرب الذي تؤمنون به يفرِّق بين الأبناء ويميِّز بين خلقه على شيءٍ هو خلقَه فيهم ولم يختَره الإنسان بنفسه؟ ومن ثَم لو كنتم مؤمنين حقًّا بهذا الوعد الرباني لما تركتموه وراءكم واتكأتم إلى وعد بلفور البشري؟ ألهذا الحد استهنتم بوعد الرب حتى لجأتم إلى البشر؟
ارتسم على وجه بنيامين الدهشة، وحار ماذا يجيب وبماذا يرد؟ فحمل نفسه ورحل دون أن ينبِس ببنت شفة، فتعالى صوت ضحكهما وهما ينظران إلى بنيامين وهو يمشي ثم يركض ثم يلتفت وكأنه مخبول.
كان تأثُّر حسن الشديد بالأستاذ محمود الخطيب وكثرة سؤاله له حول هذه المسائل ودخوله في نقاشات كثيرة معه، قد كوَّن عنده سرعةَ البديهة مع مخزونٍ جيد من المعلومات الدينية التي تعينه في مثل هذه المواقف.