الفصل الحادي والعشرون
هؤلاء الأطفال المشاكسون لا يعرف الخوفُ طريقًا إلى قلوبهم، إنهم يفعلون ما لا يستطيع الكبار مجرد التفكير فيه هنا في هذا الغيتو اللعين، لكنَّ الحاجة لا تعرف المستحيل، إنه الحرمان من أبسط متطلبات الحياة، والجميع يدرك، صغارًا وكبارًا، أن هذا الجدار العازل المبني من الطوب الأحمر هو الحد الفاصل والحجب والتقنين، وكل مَن يعبره يعبر إلى الحياة، وكل مَن يقبع خلفه يقبع في الجحيم، في الجوع والعوز والموت البطيء.
كان أولئك الأطفال قد تمكَّنوا من عمل فتحة صغيرة تسمح لأجسادهم النحيلة بالعبور من خلالها في إحدى الزوايا البعيدة عن الأنظار لسور الغيتو، صادفهم مايكل وهم يحملون البعض من قطع الخبز والحلوى والفواكه التي سرقوها من الدكاكين، كانت الفرحة المرتسمة على وجوههم بالعودة سالمين مع الغنيمة أجملَ شيء ممكن رؤيته في ذلك الجحيم، تمنَّى مايكل لو أنه طفل مثلهم ويخوض معهم تلك التجربة الخطيرة والمسلية كثيرًا بالنسبة لهم، ما أعظم تلك الطفولة التي خرقت قانون أعتى وأجرم منظومةٍ عسكرية في العالم، واستطاعت أن تغتنم منهم ما تريد دون سلاح أو تخويف كما يفعلون هم في العادة. شعر مايكل حينها أن الشجاعة لا تحتاج إلى سلاح أو قوة عضلية بقدرِ ما تحتاج إلى قلوبٍ لم تذُق ذلَّ الخضوع، ولا تعترف بمن حولها مهما كان إجرامه وبطشه شديدًا ولا تمتلك الرحمة والشفقة طريقًا إليها.
كان الوقت بعد الغروب والجو مائلًا إلى العتَمة مع القليل من ضوء النهار الخافت، حتى توقيت دخولهم كان مدروسًا؛ ففي هذا التوقيت يقلُّ نشاط الحرس بعد دخولهم جميعًا إلى الغيتو أعادوا رصَّ الطابوق فوق بعضها البعض لغلق الفتحة وعدم إثارة الانتباه لوجودها، ثم فرُّوا هاربين إلى مأواهم.
مرَّت ثلاثة أيام على أخذهم سارة إلى المشفى، شعر مايكل بأمرٍ غريب وهو يتجوَّل كالعادة في أزقة الغيتو؛ إذ لم يعتَد الجلوسَ في البيت مذ كان في ميونخ، ما عاد يرى أولئك المرضى والمعاقين الملقين على قارعة الطريق، لقد اختفَوا جميعًا! قال في نفسه متسائلًا: ما الذي حلَّ بهم يا تُرى؟ هل وجدوا مَن رَفق بهم وأنقذهم من القذارة التي كانوا عليها؟ لكن الكل مرة واحدة؟! لا يُعقل ذلك، لا بد من أمرٍ قد حصل لهم، التغييرات التي يمكن ملاحظتها في الغيتو لا تكون إلا بالتدخُّل النازي وأوامرهم إلى عملائهم في المجالس اليهودية.
في زقاق المبنى رأى سيارة شرطة واقفةً أمامه، للوهلة الأولى تسلل الخوف إلى قلبه، لكنه تذكَّر وجودَ عمة السيد مارك في المبنى، ويبدو من وقوف الحرس والهدوء في المكان أنه قد أتى لزيارتها، ولا داعي للخوف من اعتقالٍ أو ضربٍ لأسبابٍ مجهولة عادة، أسرع خطواته ليصل إلى البيت وينتظره عند الباب لعله يستطيع سؤاله عن أوضاع سارة في المستشفى.
انتظره عند الباب قرابةَ النصف ساعة حتى سمِع صوته وهو يودِّع عمَّته ويوصيها: «إذا احتجتِ شيئًا فلا تترددي في إخباري.» ثم نزل من الدَّرج وأحد حراسه خلفه، توجَّه إليه مايكل وقابله بابتسامة.
– السيد مارك أهلًا بك في بنايتنا، هلَّا تفضلت بزيارتنا كما وعدتني.
– أووه أنت، أذكر وجهَك لكنني نسيت اسمك، اعذرني؛ فأنا أنسى الأسماء عادة لكنني لا أنسى الوجوه.
– أنا مايكل كنت في مكتبك من أجل أختي المريضة بالتيفوئيد قبل عدة أيام.
– آه! تذكرت أختك الصغيرة.
– بالضبط هي، تفضَّل لنُضيِّفك شيئًا.
– لا يمكنني الآن، لقد تأخرت كثيرًا.
– أود أن أسألك عن حال سارة فقط …
– نعم، نعم سأخبرك بكل شيء، تعالَ إلى الحانة غدًا، سألتقيك هناك ونتكلم بما تشاء.
إلى اللقاء الآن.
•••
كان رواد الحانة عادةً من أعضاء المجلس والطبقة الراقية من الأغنياء المتعاونين مع النازية وغيرهم من أصحاب النفوذ والسلطة؛ إذ تُقام فيها حفلات غناء ورقص، ويتم تقديم أفخر أنواع المشروبات والأطعمة الشهية للحاضرين، وتلك كانت من سياسة النازية للحفاظ على عملائها ومَن ينفِّذون أوامرها دون نقاش من اليهود ضد اليهود. كان الحراس عند باب الحانة من الشرطة اليهودية الحاملين لشارة نجمة داوود السداسية الزرقاء على أذرعهم أسفل الكتف. عندما اقترب مايكل من باب الحانة وهو يريد الدخول، أمسكه أحد الحراس من ياقته ودفعه بكل قوة حتى أوقعه أرضًا.
– هيَّا ارحل من هنا أيها القذر!
بالرغم من أن ملابسه كانت نظيفة وقد وضع عطرًا خفيفًا إلا أنه لم يرقَ إلى طبقة زبائن الحانة بأناقتهم ورقيِّهم المصطنع، وقف ورتَّب ياقته وقال للحارس: لقد أتيت لرؤية السيد مارك مسئول شئون المرضى في المجلس، إنه ينتظرني في الداخل، أخبِره أن مايكل عند الباب.
نظر إليه بحقد، وقال لصاحبه: أمسِك به، سأذهب إلى السيد مارك وأعود، وأرجو أن تكون كاذبًا فيما ادعيت حتى أجعلك عبرةً لأولئك القذرين الذين يتربَّصون كالقطط السوداء حول الحانة.
بلع مايكل ريقَه من الخوف، وقال في نفسه: ماذا لو نسي اسمي السيد مارك وقال لهذا الخنزير إنه لا يعرف أحدًا بهذا الاسم؟ لقد أخبرني البارحة أنه ينسى الأسماء كثيرًا، ما هذه الورطة الكبيرة التي وقعت فيها يا مايكل؛ فأفراد الشرطة اليهودية كانوا يعتبرون أنهم كلما قسوا على يهود الغيتو تزداد ثقةُ النازية بهم، وبذلك يحصلون على الترفيعات أكثرَ فأكثر؛ لذا كانت قسوة الشرطة اليهودية في التعامل تفوق أضعافَ أضعاف قسوة أفراد الفِرق النازية، حتى وصل الحال بين أفراد الشرطة إلى التسابق فيما بينهم على البراعة في الإهانة والتعذيب أو حتى القتل. من حُسن حظه خرج السيد مارك إلى الباب مع الحارس ليتأكَّد مَن هو مايكل، يبدو أنه قد نسي اسمه أيضًا! لكنَّ خروجه إلى الباب أنقذ مايكل من بطش الحارس، عندما رآه مايكل عادت الروح إليه، ابتسم السيد مارك.
– أووه! أنت أهلًا بك، هيَّا تفضَّل معي.
سحبه من يده وأدخله إلى الحانة وعينَا مايكل في عين ذلك الشرطي وهو ينظر إليه نظرةَ ذهول وخشية فاصفرَّ وجهه، شعر مايكل أن الخوف قد انتقل من قلبه إلى قلب الحارس، ماذا لو أخبر السيد مارك عن تعامله القاسي معه؟ ماذا سيحل به؟
كان السيد مارك في الحانة يبدو عليه نوعٌ من السذاجة، يضحك كثيرًا، حركات يده الغريبة عندما يتكلم مع ملامح وجهه تظن أنه مجنون فعلًا، صاحب لهو ومرح واجتماعي لدرجةٍ كبيرة ولديه علاقة جيدة مع كل الحاضرين، فلمجرد الوصول إلى طاولته الخاصة استغرقا أكثرَ من ربع ساعة، كلما مرَّ أمام أحدهم ألقى التحية وهمس بأُذن الشخص شيئًا وتعالت ضحكاتهم، ثم يكمل الحديث مع هذا وذاك. استغرب مايكل كثيرًا، هذا نفسه السيد مارك الذي التقاه في مكتبه؟! غريب أمره فعلًا .. هنالك جِدِّي إلى حدٍّ كبير وهنا هكذا!
جلسا أخيرًا وحدهما على طاولته الخاصة في إحدى زوايا الحانة، ألقى مايكل نظرةً حوله، الجدران البيضاء الناصعة والستائر الشفافة النظيفة والروائح الزكية المتداخلة، روائح عطور نسائية مفعمة بالحياة والإثارة، والنُّدُل يحملون كئوس الشراب ويوزِّعونها على الواقفين والجالسين، أصوات ضحكات وتمايل وإغراءات جسدية ومفاتن ظاهرة ومكسية للحسناوات، وبينما هو يتفحَّص المكان نسي أن السيد مارك جالسٌ أمامه حتى أصدر صوت ضحك وقال: هيه! أين أنت يا رجل؟
وأتبع ذلك بضربةٍ خفيفة على الطاولة.
– معذرةً يا سيدي، لقد أشغلتني الأجواء الجميلة هنا؛ فقد مرَّ وقتٌ طويل ولم أدخل مكانًا كهذا.
– لا عليك، فالحسناوات أبسطُ ما لديهن أن يسلبنَ عقولنا ويأخذننا بعيدًا بعيدًا جدًّا.
قالها وهو مغمض العينين وقد رفع رأسه إلى الأعلى ويلوِّح بيده، ثم فتح عينيه وقال: دعنا منهن وقُل لي ماذا تشرب؟
– قهوة مرة.
– قهوة مرة! ألا تكفيك مرارة الحياة في الغيتو؟
هزَّ رأسه وهو يبتسم: لا عليك. ثم نادى النادل وطلب القهوة لمايكل وشرابًا له وبعض المقبِّلات والفواكه. عندما رحل النادل سحب مَنديله من جيب ردائه ومسح جبينه وقال دون أن ينظر بوجه مايكل: لربما تظن بأنني أسعد إنسان على وجه الأرض.
– الحقيقة نعم عندما رأيتك هنا وبهذا النشاط والحيوية، وكلَّا عندما رأيتك حائرًا ضجِرًا تفكِّر في مكتبك يومَ جئتُ لزيارتك.
– أوه واو! لقد أعجبني تركيزك يا مايكل، لكن أيهما تظن حقيقةَ حياتي والآخر تمثيلًا؟
– ولِمَ الحقيقة والتمثيل، كلُّ مكان له قوانينه وأجواؤه الخاصة، هناك عملٌ ووظيفة رسمية تتطلب منك الجدية، وهنا مكان لهو ومرح، فلا يُعقل الجدية هنا كما لا يُعقل الهَزْل هناك.
– ربما تكون محقًّا فيما تقول، لكن يبدو أنني لم أستطِع إيصالَ فكرتي إليك جيدًا، المهم أنت هنا من أجل أختك المريضة التي تم نقلها إلى المشفى.
– نعم، سارة، أخبِرني أرجوك ألم تُشفَ من المرض؟ أرأيتَها؟ أخبِرني عنها أرجوك!
– مايكل، أريدك أن تسمعني جيدًا، أنا لم أُرِد إخبارَك بمصير سارة عندما دعوتني إلى بيتكم البارحة خشيةَ أن تسمع والدتك بما أقوله لك.
تسلَّل الخوف إلى قلب مايكل.
– ما بها، لا تقُل إنها … أرجوك ما زالت صغيرة!
– اهدأ، اهدأ قليلًا، لا تُلفت انتباه الحاضرين إلينا، سأخبرك بكل شيء.
– كما تشاء، هدأت، هيَّا تفضَّل.
– أتذكُر الضابطَ النازي الذي أخبرتك بزيارته لي قبل مجيئك إلى مكتبي يومَ أردتُ إخبارك بشيء ثم غيَّرت الكلام؟
– نعم أذكره جيدًا، وأذكر كيف تلعثمتَ يومَها.
– في ذلك اليوم جاء هذا الضابط بأوامرَ يجب تنفيذها خلال مدةٍ أقصاها ثلاثة أيام، وهو جمع كلَّ المرضى والمعاقين المسجلين لديَّ، وبالأخص مصابو الأمراض المعدية كالتيفوئيد والكوليرا.
– وماذا بعد؟ ما الغاية من الجمع؟
– للتخلُّص منهم ضِمن برنامج القتل الرحيم.
للوهلة الأولى بقي مايكل مصدومًا لا يصدِّق ما سمع «للتخلُّص منهم»، هكذا بكل هذه البساطة! خارت قواه وارتجفت يداه، أعاد عليه السؤال: ماذا قلت؟
– اسمعني يا مايكل، أنا لم أكن لأخبرك إلا أنني واثق بأنك ستتفهَّم الأمر، هذا المرض معدٍ ولا شفاء منه، ولو بقيت عندكم لانتقل إليكم جميعًا، كانت ستموت في النهاية وتميتكم معها.
انهمرت الدموع من عينَي مايكل دون إرادة، شعر وكأن مقبضًا حديديًّا يعصر قلبه، لم يكن بمقدوره تخيُّل أن سارة ماتت! وبهذه السهولة والبشاعة. تذكَّر وجهَها في تلك الليلة عندما كانت تهذي وتنادي بأسماء صديقاتها، تذكَّر ملامحها البريئة، العَرق المتصبِّب على جبينها المتورد، يديها الباردتين وارتجافها بحِضنه كورقةٍ صفراءَ تكاد الريح تقطع وصلها بالغصن، وتهوي بها إلى مكانٍ سحيق، ثم أجهش بالبكاء حتى صوت نحيبه لم يتغلَّب على أصوات رواد الحانة وهم في نعيمهم المزيَّف يتضاحكون ويتمايلون على أنغام الموسيقى. تحوَّل بذهنه بياضُ الصالة إلى سوادٍ قاتم، ووجوه روادِها إلى وحوشٍ ومصاصي دماء بملابسَ أنيقة، إنهم عبيدُ عصر الحداثة الزائف، عبيدٌ لا يختلفون عن أجدادهم سوى بالمظهر المتصنع.
ضاق نفَسه ولم يَعُد يحتمل البقاءَ أكثر، كان يريد أن يصرخ، يصرخ فقط، لا يوجد شيء آخر غير الصراخ ليعبِّر عما يشعر به تُجاه كل هذا الظلم والوحشية التي يقبعون تحت ظلِّها.
بعدها انتصب واقفًا وهمَّ بالخروج، فأمسكه من يده السيد مارك وسحبه إليه وهو يطلق ابتسامةً لمن انتبهوا إليهما وهمس بأذن مايكل: اهدأ واجلس، لا تزِد عليَّ ما أنا فيه.
حاول مايكل سحبَ يده معترضًا، فعاد السيد مارك وسحبه بقوة.
– قلت لك اجلس!
خارت قواه، فوضع رأسه على الطاولة وهو يبكي ويقول: كيف تسمحون لأنفسكم أن تكونوا أداةَ قتل لأبناء جِلدتكم، كيف؟ أخبِرني: هل أنتم يهودٌ حقًّا؟! هكذا يفعل اليهودي بإخوته اليهود الضعفاء، هكذا يضعونهم بيد المجرمين؟ وأنا أقول لنفسي أين اختفى أولئك المرضى والمعاقون من الأزقة والطرقات، يا لإجرامكم وبشاعتكم! سيلعنكم التاريخ إلى الأبد أيها الخونة!
– مايكل اسمعني جيدًا، أنا لم أكن مضطرًّا لأخبرك هذا الكلام، ولو علمت النازية أني أخبرت أحدًا من سكان الغيتو بهذا ستكون نهايتي في أحد معسكرات السخرة حيث الموت البطيء هناك، افهمني أرجوك، أنا بحاجةٍ إلى مَن يسمعني سأنفجر من التفكير وملامة النفس، أنا مذ أصبحت في المجلس لم أنَم وأنا صاحٍ آتي كلَّ ليلة هنا أشرب وأشرب حتى أثملَ وأقع طريحَ الفراش بعد العودة إلى البيت لكيلا أفكِّر قبل النوم.
– ولماذا لا تتركهم إن كنت تعاني مما تفعل هكذا؟!
– لمن أترك الوظيفةَ؟ لضباط النازية؟! أتعلم لو قام أحدٌ منهم بتنفيذ هذه الأوامر لتمَّ قتل أضعاف العدد الذي أرسلته إليهم؟ نحن نضحِّي بالبعض لإنقاذ الكثيرين، نحن لا نقرِّر مَن يموت يا مايكل، نحن نقرِّر فقط مَن سيعيش.
بقي مايكل صامتًا مذهولًا يفكِّر بما سمع «نحن نضحي بالبعض لإنقاذ الكثيرين»، كانت الجملة فيها نوعٌ من العقلانية البعيدة عن العواطف؛ فالموت واقعٌ لا محال.
– أنتم تقرِّرون مَن سيعيش؟! لكن أخبِرني مَن الذي أعطاكم دورَ الإله في شئون خلقه؟!
– نحن لا نقوم بدور الإله ولسنا فرِحين بما نفعل، وليس همُّنا مَن سنفقد، بل كم سننقِذ، لكن أخبِرني أنت، ماذا كنت ستفعل لو كنت في مكاني؟
– أنا لا أضع نفسي في هذا المكان مهما حصل، لن أكونَ أداةَ قتل بيد المجرمين، لن أعطيهم معلومات مَن يجب قتلهم حتى لو اضطررت للانتحار، لن أقوم بهذا العمل المخزي والمهين. إن أفعالكم هذه تتنافى تمامًا مع تعاليم الدين اليهودي، ألم تقرأ عن موسى بن ميمون أنه قال: «لو أن الوثنيين خيَّروا اليهود وقالوا: أعطونا واحدًا منكم لنقتله وإلا سنقتلكم جميعًا، فعليهم أن يختاروا الموت جميعًا ولا أن تُزهق روح يهودي.»
– لكن بهذه الحالة سيفنى اليهود ولا يبقى لهم أثرٌ إلى الأبد. أقنعني ماذا نفعل؟ نتركهم يقتلون الجميع وننتظر الذبحَ نحن كذلك كالخراف في المسالخ؟ ماذا بوسعنا فعله ولم نفعله؟ أنا أردت أن أزيلَ الهمَّ عن كاهلي قليلًا بالبوح فيما أثقل عليَّ، وأنت زدتَ ما أنا عليه من تأنيب الضمير. سارة كانت ستموت في نهاية الأمر، أرجوك تفهَّم الأمر.
– ماذا تريدني أن أفعل الآن؟
– لا تفعل شيئًا، فقط اسمعني، لا أريد شيئًا آخر منك، فقط سماعي، سأجنُّ إن بقيتُ أكتم هكذا، أريد أحدًا من أهل الضحايا لأشرحَ وأُبيِّن موقفي أمامه، وأن يكون الشاهد الوحيد أمام تلك الأرواح التي لي يدٌ في إزهاقها، ولطالما أنني كنت مرغمًا على ما فعلته.
بعدها جاء النادل ووضع كأسًا كبيرة من الشراب أمامه، ووضع فنجانَ القهوة أمام مايكل، والمقبِّلات والفواكه في منتصف الطاولة، لم يستطِع مايكل أن يأخذ رشفةً واحدة من الفنجان، كانت نفسه لا تتقبَّل أيَّ شيء بعد سماعه بموت سارة، وما يحصل في الخفاء لسكان الغيتو.
– لماذا لا تحتسي القهوة؟
– لا أستطيع، لقد سُدَّت شهيتي، أشعر بضيق تنفُّس شديد.
– أنا آسف، لكن هذا الذي حصل والقادم أسوأ على ما يبدو.
– إن سمحت لي، سأغادر المكان، بتُّ لا أستطيع التحمُّل.
– سأقبل بمغادرتك شريطةَ أن تعدني بالمجيء مرةً أخرى.
– أعِدُك.
خرج من الحانة وهو يركض من زقاقٍ إلى زقاقٍ لا يدري إلى أين وِجهته، أو بالأحرى كانت وجهته كل الأمكنة إلا البيت ووجه أمه، شعر أن هنالك شيئًا ما سيخنقنه؛ فالخبر قد جثم على صدره، انفجرت الدموع من عينيه مرةً أخرى وعاد يبكي بشدةٍ وبصوتٍ مبحوح على قارعة الطريق، تذكَّر سارة عندما كانت صغيرة يلاعبها ويشتري لها الهدايا ويراها تطير من الفرح وتحضنه وتقبِّله، يوم كانا يركضان سويًّا عندما يوصلها إلى المدرسة، يوم كانت تغفو بحِضنه وهو يقرأ لها قصة ما قبل النوم، كان أباها بعد وفاة والدهما.
بعدما هدأ قليلًا وشعر ببرودة آثار الدموع على خدِّه في تلك الليلة القارسة، مسح وجهه بكمِّ ردائه، وبات يفكِّر «هل أُخبِرها بموت سارة، أم أجعل الانتظار يعطيها أملًا بالعودة المستحيلة؟ أيهما أقلُّ وطأً على القلب؟! يا إلهي! ألمٌ كبير دفعة واحدة بقول الحقيقة، أم ألمٌ صغير مستمر طوالَ العمر بكذبة الانتظار؟ لكن ما الذي يضمن تحمُّلها صدمةَ الفقد؟ إنها سارة آخرُ العنقود المدللة، ابنتها الوحيدة، لا، لا، لن أخبِرها بالحقيقة، لا يمكنني تحمُّل حدوثِ مكروه لها، الانتظار هو الحل .. نعم لا شيء غيره».
عند بداية الزقاق رأى أمَّه من بعيدٍ واقفةً على الشرفة متحمِّلةً البردَ القارس وتنتظره، تأمَّلها وهي لا تراه، وقال في نفسه: «آه لو تعلمين يا أمي كم أحمل من شؤم وبؤس وحزن اليوم، سامحيني لأنني سأكذب عليكِ بعد قليل، لكن ليس في اليد حيلة، مَن لنا أنا وديفيد إذا حدث مكروه لكِ أنتِ أيضًا؟»
اقترب من المبنى أكثرَ فأكثر، فرأته، لوَّح إليها بيده مع ابتسامةٍ كاذبة، فأسرعت هي إلى الداخل لتفتح الباب.
– هيَّا أخبِرني ماذا قال عن سارة؟
– دعيني أدخل أولًا، سنتحدَّث بغرفتنا، وأخفضي صوتك لئلا يستيقظ الرجل الفظُّ ويُسمِعنا كلامًا يُذهِب فرحتنا.
– هيَّا ادخل بسرعة، والآن أخبِرني عنها؟
– هي بخير، لكن مرضها سيطول الشفاء منه، ويجب أن تَلقى عنايةً خاصة في المشفى.
– وكم سيطول؟ كم سننتظر بعد؟
قال في نفسه: «العمر كله يا أمي، العمر كله.»
– سألتُه ذلك، فأخبَرني أن الطبيب يقول إن الأمر بيد سارة، كلما استطاعت التجاوب مع العلاج سريعًا ستُشفى وتعود إلى أهلها.
ابتهجتِ الأم وانفرجت أساريرها.
– لقد أرحتَ قلبي يا ولدي.
– سارة قوية وستعود قريبًا، لا تقلقي.
استرسلت الأم تردِّد الترانيم والمزامير وتشكر الله الذي لطف بحال ابنتها وأراح بالها، وطلبت العون والرحمة منه بأن يعجِّل عودتها إليهم، كان مايكل يسمعها من تحت الغطاء ودموعه تُذرف دون إرادةٍ، ويكتم بكاءه لكيلا يُخرِج صوتًا يثير انتباهها. قال في نفسه: «ما أبشع هذه الحياة وأقذرها .. وما أبشع أن تكون ضعيفًا إلى هذا الحد فيها، ترى كلَّ يوم وجوه مَن قتلوا أهلك وسلبوا مالك ودارك وحريتك وكلَّ شيء جميل في حياتك، ثم وضعوك في قفصٍ كبير كفئران التجارب وليس بوسعك فعْل أيِّ شيء لهم حتى مجرد وضع عينك بأعينهم مخافةَ العقاب والعذاب الشديد، أيُّ إهانة للإنسانية هذه؟»