الفصل الثاني والعشرون
إنها الفوضى يا بانوس، لقد تحوَّلت المنطقة بأسْرها إلى ساحةِ قتال همجية، ونحن أيضًا تحوَّلنا إلى وحوشٍ فيها، دعني أخبِرك سرًّا، لقد قتلت إلى الآن عشرةً من العثمانيين، أتدرك ماذا يعني أن تقتل عشرةَ أنفس؟ وأنت تعلم جيدًا أن ليس جميعهم يستحقون الموت، إنه أبشع شعور يمكن أن يصيب الإنسان، كلُّ الأشياء السيئة في الحياة أمامها حاجزٌ ما، وهذا الحاجز إما موجود فطريًّا في دواخلنا أو وضعته قيمُ وأعرافُ البيئة التي وُلدنا وعشنا فيها، هذه الحواجز تحدِّد إنسانيتنا في الحياة، وما إن كسرنا واحدًا منها للمرة الأولى، مالت إنسانيتنا نحو الهاوية واعتلينا تدريجيًّا سلَّم التوحش وتوحَّلنا فيه، حتى الشعورُ بالذنب لا يعود له ذلك التأثيرُ الكبير على النفس، وكأن القتل يصبح أمرًا اعتياديًّا كالنوم والاستيقاظ!
– لكننا نعيش في غابةٍ يا أرتين، إن لم تَقتل تُقتل، ثم نحن لم نختَر هذا الطريق بإرادتنا، بل فُرض علينا، لربما سمِعت أن النساطرة أيضًا شكَّلوا مجموعاتٍ مسلَّحة في مدينة «تياري» جنوب «وان»، وفي كوجنيس المقرِّ الرئيس للبطريرك النسطوري قرب «جوليميريك». وأغاروا على بعض القرى الكردية وقتلوا الكثيرَ منهم وحرقوا قراهم بالرغم من علاقاتهم الوثيقة والقديمة معهم بحكم الجيرة في المنطقةِ ذاتها لقرون عديدة، وهم لا يسعون إلى الاستقلال من العثمانيين أصلًا، الكل تلطَّخت أيديهم بالدماء هنا يا أرتين، لم يبقَ مجرم وبريء أو ظالم ومظلوم، أيُّ طرَف يملك القوة يبطش بالآخر.
حتى الولاءات في المنطقة أصبحت على حساب المصالح المشتركة والتجارة المتبادلة والحصول على الأراضي أو الدعم أو الحماية أكثر من كونها ولاءاتٍ للدين أو القومية بالنسبة للسكان؛ لذلك تجد بعض العشائر الكردية كانت تقاتل معنا نحن الأرمن ضد الحكومة العثمانية بسبب رفضها الضرائبَ الضخمة التي تطلبها الدولة.
– دعك من الولاءات وأخبِرني كيف أصبحت؟
– أيام قلائل ويطيب الجُرح، هكذا أخبرَني الطبيب.
ربَّت على كتفه أرتين مع ابتسامةٍ يملؤها الحب والطمأنينة.
•••
كان لتدخُّلاتِ القوى الأوروبية عن طريق الضغط على الباب العالي بإدخال الإصلاحات الفعلية، والاتفاقِ مع مهاجمي البنك العثماني من ثوار الآستانة، الذي نكثت الحكومة العثمانية الشروع به، وأخبارِ المجازر المتكررة التي انتشرت في الصحف الأوروبية؛ دورٌ كبير في إجبار الحكومة على إصدار قرارٍ بتغيير والي وان، وجعْل النائب الأول للوالي الجديد من الأرمن. وتمتَّع النائب بصلاحياتٍ واسعةٍ فاقت صلاحياتِ جميع المسئولين عدا الوالي، وتم إلغاء ضريبةِ الإعفاء من الخدمة العسكرية التي توجَّبت على غير المسلمين لمدة سنتين، وكذلك أصدر الوالي الجديد «طاهر باشا» أوامرَ بمنْع جباية الضرائب من محدودي الدخل، وجرت تغييرات كبيرة في سياسة الدولة تُجاه الأرمن، كما أرسل القوات النظامية لاسترجاع بعض القرى والبيوت التي هجرها الأرمن واستولى عليها الفرسان الحميدية وبرَّروا ذلك بأن أهالي القرى كانوا موالين للثوار.
كانت الإصلاحات التي قامت بها الحكومة في وان سببًا في ميلِ الكثير من الأرمن نحوها وابتعادهم عن الثورة التي ضرَّت بمصالحهم أكثرَ من الفائدة التي يروِّج لها الحزب في بياناته.
بعد مقتل «ديكران» اختار القائد فارتان أرتين لقيادة مجموعته في فصيل الاغتيالات، حينها استطاع أرتين ضم «غريغور وبانوس» إلى مجموعته، كان غريغور قد اشتهر بين المقاتلين ببطولاته أثناء ثورة وان، وفي الاشتباكات التي حصلت في طرق التهريب مع الفرسان الحميدية، أما بانوس فلم يتميز بين المقاتلين كثيرًا، لكن وضْع الثورة المتفكِّك حينها كان له دور في قبول أية حركة داخلية تؤدي إلى تنظيم صفوف المقاتلين وزيادة الروح القتالية لديهم، فتمَّت الموافقة عليهما سريعًا.
كانت تلك الفترة هادئة بعضَ الشيء، وبالأخص بالنسبة لمجموعة أرتين التي لم تتلقَّ مهمة اغتيال مذ أصبح قائدًا عليها، وفي هذه الأثناء أجَّروا بيتًا في الحي الأرمني؛ إذ بعد تولي «طاهر باشا» وحصول الحوادث مع النساطرة والأكراد وانشغال الحكومة بهم خفَّت الأنظار الحكومية عن الثوار في الحي الأرمني.
– ألا تعتقدان أننا بحاجةٍ إلى امرأة في هذا البيت، فقد تحوَّل المطبخ إلى مكبِّ نفايات، وأصبحت رائحته مقرفة، وغرفة نومنا في الحالة الطبيعية كأنها غرفة تعرَّضت للتفتيش أو السرقة، كل شيء فيها ليس في مكانه الصحيح الوسائد على الأرض، الأغطية متجمِّعة بشكل دائري وكأنها ثعبان ضخم، الفُرُش لم تُغسل منذ شرائها، لا شيء في مكانه الصحيح.
ثم التفت نحو بانوس وقال له: ألم يحِن الوقت لزواجك يا بانوس؟
– لكن يا أرتين أنا لا أملك المال الكافي، كيف أتحمَّل تكاليف الزواج؟!
– سمِعت أن الحزب يدعم أيَّ مقاتل يريد الزواج ويقدِّم له مبلغًا من المال.
ابتهج بانوس، وردَّ بحماس شديد: أحقًّا ما تقول؟
-نعم يا بانوس، هذا ما أخبرني به فارتان، لكن لا أظن المبلغ المخصَّص يكفي لكل تكاليف الزواج، وبما أنها ستأتي هنا وتخلصنا من هذا القرف الذي نحن فيه سنساعدك أنا وغريغور.
احمرَّ وجهه خجلًا، كان غريغور في المطبخ يُعِد الطعام ويتنصت إلى حديثهما، فقال بصوتٍ مرتفع: أخشى أنها مثل حبيبها، لا تعرف سوى إشباع بطنها والرقود إلى النوم!
حمل بانوس غطاءَ قِدْر بجانبه وقذفه صوب غريغور: اسكت أيها الأبله، إنها أنظفُ من أمك التي تنام في حظيرة الأغنام.
وقع أرتين أرضًا من شدة الضحك؛ فقد كانت أم غريغور مشهورة في القرية أنها تفضِّل النوم في الحظيرة على النوم في بيتها، وكانوا يقولون «إن لم تجدوا أم غريغور يومًا في القرية بعد هجوم العصابات عليها فاعلموا أنها اختفت مع الخرفان المسروقة»، كانت تَعتبِر الخرفانَ أولادها ولعلَّها لم تهتم بغريغور قدرَ اهتمامها بهم.
•••
قُرب مقاطعة «أرتميد» كان أهالي القرية قد خُصِّص لهم جزء من الأراضي في الجهة الجنوبية للقرية، وتم فيها بناء بيوتٍ متقاربة من الطوب اللبن وإعطاؤهم أراضي أقلَّ بكثير مما كانوا يمتلكون في «أنجرلك».
بالرغم من أنهم منذ قدومهم إلى هذه القرية لم يتعرضوا لأي هجوم ولم يحصل أية حادثة قتل للرعاة أو سرقة لمواشيهم، فإن أوضاعهم المادية كانت على المحكِّ بالكاد، كانوا يجدون قوتَ يومهم وليس بإمكانهم مجاراة أهل القرية الحقيقيين في التجارة، ولم تَعُد المحاصيل التي تُباع في سوق مدينة وان كالسابق؛ فعندما كانوا في «أنجرلك» كانت تخرج عدةُ عربات محمَّلة بالمحاصيل المتنوعة والطازجة إلى وان، أما هنا فالقافلة تخرج بعربتين وأحيانًا بعربة واحدة لكل محاصيل الأهالي، ولا تعود بذلك المردود الذي يسدُّ حاجاتهم اليومية. كانت معادلة حياة أهل القرية تدور حول «إن حصلوا على الأمان جاعوا، وإن شبِعوا فقدوا الأمان»، لم يحصلوا عليهما سويًّا يومًا، ولربما هذه المعادلة التعيسة ليست لأهل القرية فقط، لربما هي معادلة الحياة في أصلها، يجب أن تفقد شيئًا أساسيًّا في حياتك لكي تحصل على شيءٍ أساسي آخر!
تحدَّث أرتين إلى والده المختار تلمكيان بأمرِ زواج بانوس من باتيل.
– نعم يا بُني ستكون خطوبتهما هنا، لكن الزواج سيكون في قريتنا «أنجرلك».
– ماذا تقول! هل تريد العودة إليها بعدما استقر بكم الحال هنا؟!
– لا، لست أنا مَن قرَّر هذا، لقد جاءتنا أوامرُ من الوالي الجديد «طاهر باشا»، وأعطانا ضمانات كبيرة بحماية قريتنا بعد عودتنا إليها؛ فقد جاء بإصلاحات كبيرة وأعاد العديد من الأرمن إلى قراهم وبيوتهم.
– ومتى الرحيل إذن؟
– أخبرت رجال قريتنا بالتجهُّز للعودة، وسنقوم بعملِ وليمةٍ كبيرة لرجال هذه القرية ونشكرهم على استضافتهم لنا وتحمُّلهم وجودنا في الفترة الماضية.
•••
كانت الحشائش قد نبتت وتسلَّقت جدران البيوت، والأمطار الغزيرة قد أوقعت جزءًا من أسقف بعضها، وأسوار الحظائر الخشبية قد تعرَّضت للتخريب. كان أرتين يراقب وجوهَ العائدين المملوءة فرحًا لرؤيتها وشوقًا إليها، والابتسامة تعلو شفاههم الخاوية، نظر نحو سفح الجبل، كانت شجرة الجوز ما زالت شامخةً بأغصانها المتفرعة وتبدو حزينة لفراقهم لها.
استطاع الأهالي في فترة قصيرة إعادةَ الروح إلى قريتهم، ودبَّت الحياة فيها من جديد، من حسن الحظ كانوا في فصل الربيع؛ لذا لم يواجهوا صعوباتٍ كبيرة في ترميم البيوت وتنظيف الحظائر وحرث الأراضي الزراعية، كان الجميع يعملون كالنمل في القرية؛ فحماس العودة وهدوء المنطقة نوعًا ما كان دافعًا كبيرًا لهم.
في يوم عرس بانوس قاموا بتنصيبِ خيمةٍ كبيرة أمام بيته، وبدأ الجميع بالاحتفال «الدبك والغناء وإلقاء الأشعار العاطفية»، أما الإكليل فكان يتم في بيت العريس حيث يحضر الكاهن ليعقد قرانهما ويبارك لهما، خرجت باتيل وحولها نساء القرية وهي ترتدي فستانًا أحمرَ مزركشًا وتضع على وجهها منديلًا شفافًا أحمرَ اللون، والخجل قد اعتلى وجهها وهن يطلقن الزغاريد ويغنين ويصفِّقن حولها، وأهل العريس يرشون الأرز تعبيرًا عن الفرحة بها واستقبالًا لها.
صعد أرتين وغريغور مع العريس «بانوس» إلى سطحِ بيتهم وأجلساه على كرسي خشبي، وكلٌّ منهما كان يحمل ديكًا معلَّقًا من قدميه بغصن شجرة في نهايته، والرجال في الأسفل يرقصون على أصوات الطبل والمزامير، وعندما وصلت العروس مع نساء القرية وهن يصفِّقن ويغنين، ألقى أرتين وغريغور الديكين فوق رأس القادمين، وهذه من التقاليد الأرمنية الموروثة، وكانت أم بانوس تحمل مغرفة بيدٍ ورغيفًا من خبزِ التنور السميك باليد الأخرى، وترقص وتتنقَّل بين الحاضرين، فتعثَّرت بحجر وسقطت أرضًا، اعتلى المكانَ صوتُ ضحِك، وتهامست النساء فيما بينهن «لم تصدِّق أنها ستزوِّج ابنها».
– غريبٌ أمر الأمهات يا بانوس، هذه التي سقطت أرضًا من الفرح تراها بعد أيامٍ تتشاجر مع زوجتك!
– أمي ليست كذلك يا أرتين.
– كل الأمهات هكذا، هنالك شعورٌ لدى جميعهن أن الزوجة تسرق ابنها منها، وهي بنفسها كانت تلحُّ عليه بالزواج، هذه الأُحجية لم يستطِع تفسيرها أعظم المفكرين.
– دعكما من هذا الهراء، العروس قد وصلت، هيا يا بانوس انزل إليها لتكسر الجرة بوجودك.
كانت الجرة مليئةً بالزبيب والسكاكر والحمص موضوعة عند عتبة الدار، كسرتها باتيل بمعولٍ صغير، ثم وضعت قدمَها على العتبة، واعتلت الزغاريد والأهازيج وضرب الطبول وهي تدخل مع بانوس الدار.