الفصل الثالث والعشرون
من أقصى الزقاق الضيق ذي الأرضية المرصَّعة بالحجر الرمادي على شكل مربَّعاتٍ متناسقةٍ تتوسطها ساقية متعرِّجة تصبُّ مياهها في الهوَّة المغطاةِ بالحديد المثقب قرب أرجل حسن، تناهى إلى سمعه أصواتُ ضحكات وغنج بناتٍ لطالما شعر أنه المقصود بها وأنهن يتحدثن عنه ويضحكن، لكن ما المضحك في الأمر؟! ذلك سؤالٌ لم يجِد له جوابًا البتة. عندما اقتربن منه تفحَّص حسن الوجوه فلم يجِد بينهن مَن تهزُّ عرشَ قلبه رؤيتها، فسرى خوفٌ في جوفه وتسلَّل أسوارَ قلبِه وانقضَّ عليه شعورٌ بالفقد، خطرَ على باله ألفُ سؤال وسؤال عن سرِّ غيابها المفاجئ، مررنَ من أمامه يرمقنه بأطراف أعينهن وهو كالصنم متجمِّد في مكانه، أوقعت إحداهن ورقةً صغيرة من يدها على غفلةٍ من صديقاتها وغمزت له ثم أكملت طريقها معهن. دبَّت الروحُ من جديد في جسد حسن، تحرَّك نحو الورقة حملها بيدٍ مرتجفة فتحها وقرأ فيها «ابقَ مكانك لا ترحل»، أعاد القراءة مرةً ومرتين وثلاثًا لم يفهم شيئًا، ما هذا الطلب الغريب؟ تمعَّن في الخط وتساءل: هل خطُّها هي أم خطُّ صديقتها، اشتبكت الأمور عليه وتداخلت الأفكار في رأسه، لكنه فهِم شيئًا واحدًا وهو أن يبقى في مكانه.
مرَّت نصف ساعة تقريبًا، وحسن قد تأخَّر على مدرسته، وظل حائرًا بين أن يبقى أو أن يلحق الحصة الأولى، والورقة بيده يقرأ المكتوب فيها رغم حفظِه للجملة ثم يضعها في جيبه. فجأة سمِع من خلفه صوتًا ناعمًا يتراقص نحو مسامعه، لم يكن غريبًا ذلك الصوت بل مألوفًا، مألوفًا جدًّا في أذن قلبه المتيَّم.
– حسن!
-أنوشكا! هذه أنتِ، لا أصدِّق عينَي.
احمرَّ وجهه وتضاربت نبضاته وبدأ يرتجف ولا يسيطر على ارتباكه، ابتسمت أنوشكا وقالت: انتظرني غدًا في الطرف الآخر من هذا الزقاق في مثل هذا الوقت.
ثم أعطته ابتسامةً وتوجَّهت إلى مدرستها.
لم يصدِّق حسن ما سمِع، ظنَّ أنه في حلمٍ لطالما تمنَّى أن يتحقَّق.
ظلَّ طول الطريق يتكلَّم مع نفسه كالمجانين وهو يمرُّ من زقاقٍ إلى آخر نحو مدرسته، ويقول بصوت مسموع: أنوشكا تريد لقائي؟! لقائي أنا! يا لسعادتك يا حسن!
•••
التقيا على الموعد في اليوم التالي، كانت أنوشكا قد ارتدت فستانًا أحمرَ اللون وتحته سروال طويل، وتزيَّنت بحزام قماشي مع صدرية مزركشة ملونة، وعلى رأسها قلنسوة حمراء فيها شراشيب سوداء، تفحَّص حسن وجهها، ملامحها وملابسها بنظرات بطيئة مسفرًا عن ابتسامة تملأ وجهه، وقال في نفسه .. والله لقد وقع في قلبها ما وقع في قلبي حتى فعلت كلَّ ذلك من أجلي وتزيَّنت هكذا للقائي .. غمرت الفرحة أرجاءَ قلبه ولم يدرِ ماذا يفعل وهي واقفة أمامه، استمر يتأمَّل عينيها، شفتيها، وجنتيها الحمراوين، وتذكَّر قول أبي نواس:
ثم قال لها: القلب طوع يديك ماذا نفعل الآن؟
– دعنا نذهب من هنا.
– إلى أين؟
– خذني بجولة كما تفعل مع سكينة.
– وهل أخبرتك عن جولاتنا؟
– هي لا تخبِّئ عنِّي سرًّا، ولا أنا.
– هيَّا إذن نبدأ بقطعتي نابلسية عند «أبي أحمد النابلسي» مع قدحي شاي في بداية السوق كما تحب سكينة.
ردَّت .. هيَّا بشكل طفولي، شعر حسن أنها بريئة أكثر مما كان يظن.
في الطريق لم يستطِع كسر حاجز التحدث عن المشاعر، تحدَّثا عن كلِّ شيء إلا المشاعر أخبرته أنوشكا أنها وحيدة أهلها وتتمنَّى لو أن لها أخًا أو أختًا يكسر وجود أحدهما وحدتها.
– أبي كبير في السن كما تعرف، تزوَّج متأخرًا جدًّا وهو على مشارف الخمسين من عمره، كان يعيش في قريةٍ على أطراف مدينة «جنين»، ثم انتقل إلى القدس وتزوَّج فيها، لكن بيتنا هناك ما زال قائمًا، نزوره مرةً كل شهر أو شهرين.
– وكم تبقون هناك في كل مرة؟
شاح وجه حسن، ابتسمت أنوشكا وقالت: لا نتأخَّر كثيرًا، يومين أو ثلاثة أيام إلا في الصيف نبقى أسبوعًا أو أسبوعين أحيانًا، فالجو هناك معتدل جدًّا في الصيف.
– وأنا!
– ماذا أنت؟
تلعثم حسن وبلع ريقه.
– أقصد كيف أتحمَّل فراقك وعدم رؤيتك كلَّ هذه المدة؟!
قالها بعينين ممتلئتين شوقًا وحبًّا، احمرَّ وجهها خجلًا، كانت تتهرب عن الخوض بأحاديث المشاعر في كل مرة.
– هناك يوجد قبرُ جَدتي، ماتت قبل أن أولد، يقول أبي إنني أشبهها كثيرًا.
– هل كانت اسمها أنوشكا أيضًا؟
– لا، سمَّاني أبي على اسم بنت صديقٍ له.
سكت حسن هنيهة، نظر صوبَ سور المدينة القديمة جهةَ باب العامود وكأنه يريد جنين.
– أهي بعيدة من هنا؟ لم أزُرها من قبل.
– أتقصد جنين؟
هزَّ رأسه، دون أن ينظر إليها.
– نعم هي بعيدة؛ فعندما نزورها نخرج من الصباح الباكر بسيارة نقل خاصة إلى رام الله، ثم إلى نابلس ثم طولكرم ثم من هناك إلى جنين ومنها إلى القرية. الطريق متعِب جدًّا ومرهِق، أبقى بقيةَ اليوم كله نائمة بعد وصولنا من شدة التعب.
ساد صمتٌ بينهما، كانا يجلسان في مكانٍ مرتفع يتأملان المدينة والبيوت القديمة، الداخلين والخارجين منها وإليها، عربات محمَّلة بالأكياس تجرُّها البغال، رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ وأصواتُ الباعة تتعالى من هنا وهناك، مدينة تعجُّ بالحياة، فيها اجتمعت الأعراق والأديان والمِلَل والطوائف واللغات والألوان، وكأنها فسيفساء، كلُّ قطعة فيها من بقعةٍ مختلفة، فيها ترى الأرض وأنت جالس في مكانك، نظر إليها حسن وهي تتأمل الناس وقال: أتعلمين يا أنوشكا؟
التفتت إليه والخجل قد اعتلى وجهها الملائكي.
– ماذا؟
– عيناكِ تشبه القدس، فيها من كلِّ شيءٍ شيءٌ.
زاد خجلُها خجلًا واحمرَّت وجنتاها أكثرَ فأكثر، اقترب حسن منها وهو يرتجف، أمسكها من يديها الناعمتين، أغمض عينيه، انحنى نحو أذنها اليسرى، همس فيها بكلمة «أحبك»، ثم طبع في خدها قبلة رقيقة، أخرجت أنوشكا شهقة، وكأن الكلمة حبست أنفاسها والقُبلة طرحتها. لم تستطِع تحمُّل كل تلك المشاعر الهائجة، حملت نفسها وقالت: لقد تأخَّرت عن البيت، يجب أن أذهب.
– متى نلتقي مجددًا؟
لم تردَّ بشيء، شعر حسن أنه تجرَّأ كثيرًا، وأن القُبلة كانت غيرَ موفقة، فأراد أن يستدرك الموقف: أنا آسف.
– لماذا تتأسَّف؟
– ربما تجاوزت حدِّي واستعجلت ما يجيء بالتأنِّي.
اغرورقت عيناها بالدموع، جثت على ركبتيها، وبدأت تبكي وتجهش بالبكاء وتشهق من شدة التأثُّر.
– حسن، أرجوك لا تُفِض عليَّ بكل تلك المشاعر مرةً واحدة، أنا لا أتحمَّل كل هذا، ولا أعلم شعوري تجاهك حتى الآن، عندما سمِعت من سكينة عن جولاتها معك ورأيت سعادتها الكبيرة وهي تتكلم، تمنيت أن يكون لي أخٌ يفعل ما تفعله معها، وعندما تتحدَّث الفتيات عن الحب وتقصُّ إحداهن عن الهدايا التي تأتيها ممن تحب وعن الاهتمام الشديد بها، أتمنى أن يكون لي حبيب كالذي عندها، أنا أريد أخًا وسندًا وأمنًا واهتمامًا وحتى حبًّا، كل هذه المشاعر حاضرة فيَّ ولا أعرف كيف أتصرَّف وكيف أكون حبيبة أحد.
مد يده حسن ليمسح الدموع من على خدها، ولم يعلِّق شيئًا على قولها، أعطاها ابتسامة طمأنينة ثم أمسك يدها وقال: هيا بنا لنعود.