الفصل الخامس والعشرون
«أيها القادة الحضور يا أبطال شعبنا الأبي، إن التاريخ سيسجِّل تضحياتكم في الدفاع عن قضيتنا العادلة التي رُويت وتُروى بدماء شهدائنا الزكية، وستتناقل الأجيال بطولاتكم في ساحات القتال ضد أكثر قوة ظلمت شعبنا وسلبت حقوقه وهويته واحتلت أرضه لقرون عديدة.
لقد كلَّفتني قيادة الحزب رسميًّا بإعادة تنظيم الفصائل المسلَّحة والتخطيط لعمليات نوعية كبيرة بعد فشل ثورة وان وما ردفها من انتكاساتٍ شتَّى، لتسريع الخطى والخلاص من سلطتهم على رقابنا، ولعلكم سمعتم أن الجناح السياسي للحزب قد تحالف مع حزب الاتحاد والترقي المعارض في الخارج بعدما رأينا أن أهدافهم تتوافق إلى حدٍّ كبيرٍ مع أهدافنا.
إننا اليوم نمرُّ بمنعطفٍ كبيرٍ نحو بلوغ الغاية، وما كان مستحيلًا في الأمس أصبح ممكنًا اليوم، وما كان حلمًا غدا واقعًا وحقيقةً، وكأني أرى أمامي العلَم الأرمني يرفرف شامخًا على قلعة وان، لقد أبدت جميع الدول الأوروبية دعمها لقضيتنا وأن المسألة خرجت من كونها شأنًا عثمانيًّا داخليًّا إلى شأنٍ دولي وما يتطلب منَّا سوى زيادة نشاطنا والقيام بعملياتٍ ترجُّ الدولة العثمانية ويصل صداها لكل الدول.»
كان مانوكيان خطيبًا مفوَّهًا، يدرك كيف يتلاعب في نفوس المستمعين ويدبُّ في قلوبهم الحماس وإن كانوا في حالةٍ يُرثى لها، رجلًا في منتصف عقده الرابع، ذا شارب كثيف مقسم من المنتصف وكأنه ورقتان من شجرة البرتقال يغطي شفته العليا بالكامل وعينين حاذقتين، ملامحه توحي أنه من أرمن روسيا، يرتدي جاكيتًا أسودَ مع بنطالٍ من نفس لون الجاكيت، يحمل غليونًا في يدٍ وقبعة سوداء في الأخرى، يتكلم بهدوء عند النقاش ويبتسم كثيرًا، كان أرتين يتأمله وينظر إليه بنوع من الإجلال ويزداد يقينًا وإيمانًا بالثورة التي تملك قادة أمثال مانوكيان.
ثم قدَّم مانوكيان للقادة الحضورِ مساعدَيه «دافيت» و«سركيس» كان دافيت شابًّا نحيلًا سبط القوام أهيفَ القدِّ، وكأن ماء الجمال قد ترقرق في وجهه، يرتدي قميصًا أبيضَ مع بنطالٍ من قماش بُنيٍّ سميكٍ، حركاته توحي بالخجل والحرج أمام أنظار الحضور وهو يقف قرب مانوكيان، على عكس زميله سركيس الذي كان يحملق في الوجوه وكأنه نَسرٌ يبحث عن فريسته بين الأدغال، رجلًا مربوع القامة قصير الأخدعين، أصلع الرأس عرَّفه مانوكيان بالدكتور سركيس.
بعدما أكمل كلامه الموجَز أجرى «مانوكيان» ومساعداه مقابلاتٍ مع قادة الفصائل، دخل أرتين مع قائده فارتان الغرفةَ وجلسا بالمكان المخصَّص لهما. كان «دافيت وسركيس» قد وضعا أمامهما دفترًا لكتابةِ ما يدور في اللقاء. بعد الترحيب بهما وجَّه «مانوكيان» السؤال إلى قائد الفصيل «فارتان»: أخبِرنا عن الفترة الماضية وعن العمليات التي قمتم بها؟ أنا لديَّ معلومات عنها لكن أريد السماع منك كقائد ميداني.
تنحنح فارتان وعدَّل جِلسته ثم بدأ بالكلام: سيدي، نحن كفصيل اغتيالات عملُنا في الساحة لا يشبه كثيرًا أعمالَ بقية الفصائل، وكذلك نحن لا نقرِّر الشخصيات التي يجب اغتيالها، بل تأتينا أوامر مباشرة من القيادة بذلك، ونادرًا ما نرفع بعض الأسماء التي تسبَّبت في قتلِ الكثير من الأرمن، أما العمليات التي قمنا بها فكانت تتراوح بين النجاح والفشل حسب ظروف العملية. فشلت محاولة اغتيال «بحري باشا» والي وان السابق، استطاع مقاتلونا إصابتَه لكنه لم يمُت، وأكثر عملية أعترف بخطئي فيها هي عملية اغتيال «زكي باشا» على الرغم من أخذِ جميع التدابير اللازمة إلا أنني لم أضَع في الحسبان أنهم يدركون نقطةَ الضَّعف في ذلك الطريق مما أدَّى إلى خسارةِ أحد قادتنا الشجعان وبعض المقاتلين. وكذلك قمنا بالعديد من عمليات التهديد بالسلاح لأثرياء الأرمن من أجل دعم الثورة، واستطعنا بذلك توفيرَ ميزانيةٍ جيدةٍ للعمليات في الولاية كلها.
ساد صمتٌ في المكان، كانوا في بيت أحد رجال الأرمن الأثرياء من مؤيدي الثورة في السر، ولديه علاقة وثيقة مع مسئولي الدولة في العلن، كان بيته آمنَ مكان لاجتماع قادة فصائل الثورة في الحي الأرمني بمقاطعة غاردن.
انتصب واقفًا مانوكيان، ثم خطا بخطوات وئيدة نحو اللوحة المعلَّقة على الجدار البعيد، بقي يتأمَّلها وكأنه يفكِّر في شيء لم يدركه الحاضرون، كانت اللوحة تصوِّر معركةً طاحنة بين الجيشين العثماني والبيزنطي، وقد تداخلت السيوف والرماح بين الصليب والهلال، بارزة صورة السلطان سليمان القانوني بتفاصيل وجهه، الأنف الطويل المدبَّب والبشرة البيضاء واللحية الطويلة وزيِّه السلطاني وعمامته البيضاء الكبيرة وهو على صهوةِ جواده وسيفه يهوي على رقبةِ خَصمه لينقض عليه وحوله الجنود برماحهم وسيوفهم التي تقطر منها الدماء.
ثم كسر مانوكيان صمتَه قائلًا: ما أبلغ رسالة الفنان في هذه اللوحة، لقد رتَّب سلَّم الأهمية في الحرب بلمسةٍ فريدة، فبرَّز قادةَ الطرفين وأعطاهما تفاصيلَ أدقَّ بكثير وألوانًا حيةً عن الفرسان والجنود ثم أعطى هالةً كبيرة للسلطان على حساب خَصمه؛ فالناظر لهذه اللوحة يدرك من الوهلة الأولى ودون أن يفكِّر مَن هو الطرف الأقوى والأشجع ومَن المنتصر في الحرب.
ثم غطَّى بكفِّه صورةَ السلطان في اللوحة، والتفت إليهم قائلًا: إن اختفى، انتهى أمرُ جيشه وخسِروا المعركة.
رفع كفَّه عن الصورة وأكمل: وإن بقي حيًّا يقودهم انتصروا.
ونحن الآن في معركةٍ مشابهة، إن أردنا النصرَ وجب علينا أن نقضي على السلطان عبد الحميد الثاني بأي ثَمن كان، وإلا فلن تقوم لنا قائمة.
•••
على مشارف الآستانة من جهة البوابة الجنوبية المبنية من الحجر والمزيَّنة بالنقشات الدقيقة من الطراز العثماني، بوابةٌ عظيمة ارتفاعها أكثرُ من خمسة أمتار تذكِّر أرتين ببوابات قلعة وان الحجرية، لكنها لم تكن بهذه الضخامة.
بعد تفتيش القافلة من قِبل الجنود، سُمح لهم بالدخول إلى المدينة التي لم يروا مثلَ جمالها قط، حيث البيوت الفاخرة للأثرياء والمبنية من الرخام الأبيض والمآذن الطويلة التي تعانق السماء والأزقة المرصَّعة بأحجارٍ مربعة دقيقة وتفوح منها روائح الأزهار المتسلقة على الجدران، أما الناس فكُثر من كل بقاع الأرض يملئون الأسواق وأرصفة الشوارع والحدائق وشواطئ البسفور، وهي مدينة تعج بالحياة ليلًا ونهارًا.
كان «تهلريان» الرجل المسئول عن إيصالهم إلى الآستانة في تلك القافلة، وهو من أرمن الآستانة ولم يُفصح لهم عن عمله في الحزب، كان يُدخلهم من زقاقٍ إلى زقاق ومن سوق إلى آخر، وهم لم يأبهوا به؛ فقد أخذت المدينة عقولهم وشغلت أذهانهم وكأنهم تحوَّلوا إلى آلةٍ للنظر، مرت أمامهم دوريةٌ للجنود يسيرون بشكلٍ منضبط وكأنهم في ساحةِ استعراض عسكري، ضربات أقدامهم كأنها ضربة قدم واحدة، كل شيء حولهم كان لافتًا للانتباه ومثيرًا للاهتمام.
•••
كان القبو واسعًا ومظلمًا تملؤه رائحة رطوبة ثقيلة، مكوَّنًا من عدة غرف وممرٍّ ينتهي إلى بهوٍ صغير، تناهت إلى مسامعهم أصواتٌ بعيدة غير مفهومة، ساروا باتجاه الممر البعيد ثم توقَّف تهلريان فجأةً أمام باب خشبي متهالك، طرقه ثلاث مرات متتالية، مرَّت دقائق سمعوا ذَف أحذية تقترب، سأل مِن خلف الباب عن كلمة السر فقال تهلريان: «رأس الحية.» فتح لهم الباب شابٌّ عشريني يحمل قنديلًا بالكاد يضيء الممر أمامه، ثم قال: الحقوا بي.
عند نهاية الممر ولجوا غرفةً مضاءة بالكامل، كان الحاضرون قد التفُّوا حول طاولة خشبية مستطيلة وعليها خارطة الآستانة، وعلى رأس الطاولة شخصٌ منحنٍ يحمل قضيبًا طويلًا يشرح مخطط العملية بشيء من التفصيل ويشير إلى قصر يلدز وميدان تقسيم، والأسواق المزدحمة في المدينة ويضع في مكانٍ مجموعةً لتنفيذ المهمة التي ستزلزل الآستانة والعالم برمَّته.
كان أرتين يظن وهو في «وان» والقائد فارتان يتكلم عن العملية النوعية ويزيد من حماسه ومعنوياته أثناء توجيهه للمهمة، أنه هو ومجموعته مَن سيقومون بالعملية، فكانت المفاجأة عندما تم توزيع المهام أن مجموعة أرتين ليست مَن ستقوم بعملية اغتيال السلطان؛ فقد أُنيط بهم القيام بتفجير القنابل في «ميدان تقسيم» بعد التأكُّد من نجاح عملية الاغتيال.
كان «إدوارد جوريس» خبيرَ متفجرات تم جلبه خصيصًا للتخطيط وصناعة القنابل التي ستُستخدم في العملية؛ إذ لا يمكن إدخال المتفجرات إلى الآستانة بسبب التشديد الأمني في مداخلها؛ لذا فقد تكفَّل بتحضير المتفجرات اللازمة لكل مجموعةٍ من بعض المواد الأولية التي يسهُل توفيرها من السوق، وتم استغلال فترة صناعة القنابل بالذهاب إلى ميدان تقسيم للتعرُّف على المكان والأزقة التي سيتم سلكها بعد التفجيرات، وأماكن الضعف والقوة في الميدان، وهكذا فعل بقية المجموعات لتتم تكملة العملية بنجاحٍ بعد اغتيال السلطان.
تمَّت التحضيرات الكاملة لكل المجموعات وإيصال المتفجرات الخاصة بهم داخل أكياس الخضار والفواكه الورقية، عن طريق أرمن الآستانة الذين يعرفون المدينة وأزقتها جيدًا، وكذلك تمَّت إضافة عنصرين مهمتُهما نقلُ الخبر اليقين بمقتل السلطان بعد العملية إلى المجموعات خارج المسجد للبدء بالتفجيرات التي تهز المدينة وتخلق نوعًا من الفوضى، فيستغل حزب الاتحاد والترقي تلك الأجواءَ للانقلاب على الحكم بعد مقتل السلطان.
كان كل شيء يجري كما هو مخطَّط له بإحكام، وفي يوم الجمعة ٢١ تموز من سنة ١٩٠٥ خرجوا نحو «ميدان تقسيم»، كان أرتين حاملًا على كتفه اليسرى حقيبةً مصنوعة من الصوف وضع فيها القنابل بعدما لفَّها بعدةِ أقمشة وجعل جزءًا من القماش يتدلَّى خارج فتحة الحقيبة لكي يظهر للمارَّة أنه يحمل نماذجَ أقمشة يعرضها للتجار بغيةَ تحديد النوع قبل الاتفاق بجلب الكمية المطلوبة.
في الجهة الأخرى توجَّهت المجموعة المنفِّذة للعملية إلى مسجد قصر يلدز، قبل وصول السلطان إليه وحسب مراقبة السلطان في الجُمَع الماضية، كان الحرس يوقِفون عربته في باحة المسجد ثم يتوجَّه السلطان مع حاشيته إلى الحرم في الصف الأول للمصلين، ويبقى حارسان قرب العربة مع مجموعةٍ من الحراس المتوزعين في باحة المسجد. حسب خبرة «جوريس» فقد تم حساب الزمن الذي يتأخَّر فيه السلطان بعد انتهاء الصلاة، فالقنبلة المجهَّزة للاغتيال كانت تحوي مؤقتًا زمنيًّا للانفجار عكس القنابل التي تم توزيعها للمجموعات، التي تحتاج إلى إشعال فتيلها ثم رميها إلى المكان المستهدَف.
وصل السلطان المسجدَ والجميع منشغلون به، والبعض يحاول الوصول إليه بغيةَ طرْح مشكلته أو مظْلمته عليه، والحرس يحيطون به من كل الجوانب ويمنعونهم منه. جلس السلطان في المكان المخصَّص له كالعادة، قُرئ القرآن ورُفع الأذان ثم اعتلى الخطيب المنبر، كان صوته يصدح خارج المسجد والحاضرون في خشوعٍ تام وهو يتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من الكفار وأعوانهم من الخونة، ثم أكمل الخطبة بالدعاء للسلطان وحفْظه بكنف الرحمن، أقاموا الصلاة وكبَّروا في جوٍّ إيماني كبير.
عندما انتهت صلاة الجمعة، وبينما كان السلطان يتَّجه مع حاشيته إلى باحة المسجد نحو العربة، أوقفه شيخ الإسلام جمال الدين أفندي، صافحه بلطفٍ وقبَّل كتفه ثم جرى بينهما حديث داخل المسجد، مما أخَّر خروج السلطان إلى العربة، حينها وقبل أن يكملا حديثهما انفجرت القنبلة في الباحة على الحراس والمصلين الذين كانوا ينوون مغادرةَ المسجد، وأدَّى الانفجار الذي أحدث فجوةً كبيرة في مكانه وقذف الزجاج في جميع الأنحاء، إلى مقتل ثلاثة من العساكر وأربعة صحفيين وثلاثين شخصًا من العامة، وجرح ٥٨ شخصًا نتيجةً لتطاير عظام الخيول في الهواء. عند حدوث الانفجار هاجت الناس وماجت في ميدان تقسيم. نظر أرتين تجاه غريغور وقد أدخل يده في حقيبته يريد إخراج القنبلة أومأ إليه أرتين برأسه لينتظر قليلًا؛ لأن الخطة تقتضي وصولَ الأرمني الذي سيجلب لهم الخبر اليقين بمقتل السلطان، كان الناس يركضون صوبَ مكان الحادث، حاول غريغور تفجيرَ قنبلته.
– ماذا تنتظر يا أرتين، لقد قُتل هيا نكمل العملية.
– توقَّف يا غريغور، يجب أن نلتزم بالخطة وننتظر الخبر اليقين، فإن لم يُقتل سيكون مصيرنا الاعتقال، ومن بعدها الإعدام شنقًا في هذه الساحة، اصبرْ قليلًا، إن قُتل فسينشغلون بالانقلابيين، وإن لم يقتل فسينشغلون بالمنفذين.
بعدها وصل الخبر اليقين من صاحب المهمة بأن العملية فشلت.
– ارحلوا من المكان بسرعةٍ، وتخلصوا من القنبلة بأية طريقة.
اتجهوا نحو الأزقة الضيقة والمتفرعة في تقسيم، كان التعرُّف على المكان قبل العملية مفيدًا جدًّا؛ إذ أمكنهم معرفةُ الأزقة من الوصول سريعًا إلى بيت تهلريان.
بعدما علِم تهلريان أن العملية فشلت، لم يدَعْهم يمكثون في البيت، بسبب معرفته بما يحصل في مثل هذه الحوادث لبيوت الأرمن في إسطنبول، من مداهمات وتفتيش واعتقالات وضرب في الشوارع كما حصل بعد حادثة الهجوم على البنك العثماني قبل عدة سنوات، وكذلك عمليات الانتقام التي ينفذها أهالي المقتولين.
– أرتين إن فرصتنا الوحيدة بالنجاة هي الخروج من الآستانة الآن ما دامت المدينة تعج بالفوضى وخبر عملية الاغتيال، إن تأخَّرنا فسيتم إلقاء القبض علينا.
توجَّهوا سريعًا إلى البوابة الجنوبية التي دخلوا منها أول قدومهم إلى المدينة، توقَّف تهلريان فجأة!
– هنالك تشديدٌ كبير على البوابة، مخاطرة كبيرة خروجنا هكذا ونحن أرمن.
– ما العمل إذن؟
خطرت فكرة مجنونة في ذهن أرتين، ومن دون أن يشرح لهم، حمل حجرةً كبيرة من الأرض وضربها على رأس غريغور من الخلف، فأُغمي عليه وسقط أرضًا والدماء تسيل من رأسه، بقي بانوس وتهلريان مصدومَين من فعلته.
– ما هذا الذي فعلته بحق السماء؟
– لا مجال لدينا للنقاش هيَّا نحمله، إلى البوابة، وأنتما ابكيا عليه وقولا لحرس البوابة إنه مات جرَّاء إصابته في تفجير مسجد قصر يلدز، هزَّ تهلريان رأسه وبدا أنه فهم الفكرة، عندما وصلوا البوابة هُرع إليهم الحرس مسرعين: ما الذي حصل له أخبرونا هيا!
– لقد شُجَّ رأسه بانفجار القنبلة في باحة المسجد، ولم نلحق أن نوصله إلى المشفى حتى مات.
– وأين تأخذونه؟ يجب أن يدخل المشفى ويتم إعطاؤه بيان وفاة له من الطبيب.
هنا بدأ أرتين يرفع صوته في البكاء عليه: «كيف تركتني وحيدًا يا أخي كيف؟» وانقضَّ عليه يحضنه ويزيد من صوت صراخه وبكائه، وتهلريان يحاول إسكاته: «هذا قضاء الله، هذا قضاء الله وقدره»، استرقَ النظر أرتين في وجه حارس البوابة فوجده متأثرًا بما يحصل أمامه، توسَّل إليه تهلريان: أرجوك يا سيدي، دعنا نوصل الجثة إلى أمه أرجوك، الآن ليس وقت الأوراق والطبيب، ألا ترى الدماء التي عليه؟
نظر الحارس يمينًا فرأى إحدى العربات تغادر المدينة.
– هييي يا صاحب العربة، احمل هذا الميت ومَن معه على عربتك وأوصلهم إلى قريتهم.
شكره تهلريان كثيرًا وهم يغادرون البوابة، بعد عبورهم البوابةَ تنفَّس الصُّعداء، وكأن الروح قد عادت إليهم من جديد، تبادلوا الابتسامات فيما بينهم خلسةً والمجنون ممدَّد على أرضية العربة، وعندما ابتعدوا عن المدينة أخبر أرتين صاحبَ العربة أن قريتهم خلف تلك التلة القريبة، وشكره على إحسانه معهم، لم يهتم صاحب العربة أن هنالك قريةً خلف التلة أم لا، توقَّف مباشرة وكأنه يريد الخلاص منهم بأي وسيلة كانت.