الفصل الحادي والثلاثون
كان شعورًا أشبه بالنشوة عندما سمع أرتين الخبر؛ فبعد عَقدين من القتال والمذابح التي راح ضحيتَها الآلاف ومحاولة اغتيال فاشلة، ها هو السلطان ينتهي به الأمر في المنفى يناظر سلطانه الزائل من خلف البسفور، ويرى أولئك الذين استهان بقدرتهم يجوبون في حنايا قصره على قمة تلة قازانجي أوغلو ويتنعَّمون بملكِه وحديقته الغنَّاء ويستقبلون المهنئين بصالة استقبال الضيوف التي منها نشأت الفرسان الحميدية وظلمت وطغت في الولايات الأرمنية تحت إمرة زكي باشا وزبانيته، يطلق حسرات وزفرات ويحوقل جيئةً وذهابًا. مَن كان يصدِّق أن الأتراك أنفسهم دون المِلل الأخرى القابعة تحت الحكم العثماني يخلعون السلطان بتلك الطريقة المهينة!
آهٍ يا عبد الحميد! كيف يمكن التغاضي عن نواياهم التي بانت لك واتَّقيت الظلم فيهم فأطاحوا بسلطانك؟ أمَا كنت تتصف بالشدة والحنكة؟ كيف وهنتَ وتساهلتَ، وأنت تدرك أن «الحكم والزهد لا يجتمعان»، والحاكم الزاهد بالدنيا الذي لا يتقي شرَّ أقرب الناس إليه مصيره الموت أو النفي كما حصل للخلفاء الثلاثة، عمر وعثمان وعلي، حتى أدرك ذلك المفهوم بنو أمية فأحاطوا سلطانهم بالحذر والحيطة والشدة وقطع رأس الفتنة أول بزوغها، فاستمر حكمهم أكثر من الخلفاء الراشدين، وعندما أراد عمر بن عبد العزيز أن يعيد الزهد إلى الحكم سُمِّمَ وقُتل؟!
انتشر خبر خلع السلطان عبد الحميد الثاني كالنار في الهشيم بكل أرجاء الدولة العثمانية، وتناقل أرمن المدينة أخبارًا تفيد بأن الإصلاحات التي وعد بها حزب الاتحاد والترقي حليفُ حزب الطشناق الأرمني ستكون على رأس القائمة، واستبشروا خيرًا بطي صفحة السلطان إلى الأبد. كانت الفرحة ظاهرةً على وجوه رواد المقهى قرب الخان، وكأن الأرمن وُلدوا من جديد وأُزيح عنهم الخوف القابع في صدورهم لعقود خلت، وتم تغيير الولاةِ التابعين للسلطان المخلوع وإعادة العمل بمجلس المبعوثين (البرلمان) ومجلس الأعيان لتشارك جميع القوميات والمِلل في القرار العثماني.
كان سوق مدينة وان يعجُّ بالناس والباعة المتجولين والعربات التي تجرُّها البغال، وأصوات مناقشات حادَّة تأتي من هنا وهناك وكلام حول إهانة السلطان بكلمة «الخلع» ودفاع وذم ومناوشات واتهامات بالظلم ومدح بالعدل، كان الكلام حول السلطان وخلعه وتنصيب أخيه محمد رشاد ذي الشخصية الضعيفة بمنصب شكلي مسلوب الإرادة الشغلَ الشاغل للأهالي لشهر كامل، وحدثت حالاتُ مشاحناتٍ وقتال بالسكاكين في ساحة السوق بين المؤيدين والمعارضين للخلع أدَّت إلى تدخُّل الدَّرك أكثرَ من مرة، كانت حادثة لا يمكن أن تمرَّ مرور الكرام؛ فللسلطان هيبته ومكانته في نفوس المسلمين؛ لأنه يحمل صفةَ خليفة رسول الله، وهو من سلالة السلاطين العثمانيين الشرفاء.
•••
كانت باتيل في المطبخ تجهِّز العَشاء ورائحة اللحم المسلوق مع البهارات وحبات القرفة قد ملأت باحة البيت، نادت بانوس بأن يحضر الطاولة ويفرش القماش الأبيض المزخرف عليها ويجلب الكراسي من غرفة أرتين وغريغور، ويخبرهما بأن العشاء قد جَهُز.
على المائدة كان غريغور يأكل بشراهة كعادته وباتيل تطلِق الابتسامات خلسةً مع زوجها بانوس، لم تكن ابتسامة استهزاء بقدرِ ما كانت شعورًا بالسعادة؛ فكل النساء تحبِّذن مَن يأكل طبخهن بهذا النَّهم، إنهن يشعرن أن ساعات التعب والتحضير لم تذهب سدًى.
– برأيك كيف سيكون حال الثورة بعد عبد الحميد يا بانوس؟
وضعَ الملعقة من يده على الصحن والتفت إلى أرتين: بالتأكيد سيكون أفضل بكثير.
– لكن مانوكيان في آخر اجتماع للقادة قال: «لا يغرنَّكم شعارات الاتحاد والترقي بالإصلاحات والوعود بالحكم الذاتي للأرمن، إننا ندرك جيدًا أنها يكذبون ويماطلون، وهذا ما رأيناه في أول اجتماع معهم بعد خلع السلطان.»
– حتى لو كانت الوعود كاذبة، لكن التضييق على الثوار سيقل، وستكون حركتنا أكثر حرية من ذي قبل و…
قاطعه أرتين قائلًا: أصبتَ، وهذا ما نوَّه إليه مانوكيان، قال يجب أن نستغل فترة التغاضي عن الثوار بانشغالهم في توطيد أركان الحكم، ونعمل على زيادة تهريب الأسلحة نحو وان والقرى الأرمنية، فلا يمكن تخمينُ ما تئول إليه الأمور في البلاد، السلطان حي ومؤيدوه من المسئولين والضباط في الجيش ينتهزون الفرصة لزعزعة الأوضاع وإشاعة الفوضى في البلاد لكي يثور الشعب على حزب الاتحاد والترقي ويعيدوا السلطان من المنفى إلى سُدة الحكم من جديد.
عندما سمع غريغور بإمكانية عودة السلطان رفع رأسه عن الصحن، كانت حبات الأرز عالقةً على شاربيه وقطرات من مرق اللحم تطفو على لحيته، تجهَّم وجهه وكأن الكلام انتزع لذة الطعام لديه فانتصب واقفًا وقال: إن عاد السلطان من جديد إلى الحكم فسيكون أشد بطشًا من ذي قبل، وسيكسب تأييدًا منقطع النظير، ويكسر شوكة معارضيه ويستأصل شأفتهم إلى الأبد.
ردَّ عليه بانوس: أرى أن الخوف من السلطان المخلوع قد تمكَّن منك أيها البطل المقدام!
أطلق أرتين قهقهة امتُقع وجه غريغور بسببها، وعلم أن بانوس يريد أن يستفز غريغور المجنون، فهو يتقبل أبشعَ الأوصاف إلا أن يُتَّهم بالخوف أو أن يتم وصفه بالجبان، ولولا وجود باتيل وخجله منها لانقضَّ على بانوس وأشبعه ضربًا، لم يتمالك نفسه فردَّ عليه وقد اكفهر وجهه من الحنق: الخوف يعرف أهله يا بانوس الشجاع! وثورة وان الأخيرة خيرُ دليل على ذلك، وهي شاهدة على مَن كان في الصفوف الأمامية يقاتل العدو ويقتل العديد من الجنود والفرسان الحميدية ومن أُصيب من أول لحظةٍ وبقي بالصفوف الخلفية طيلةَ أيام الثورة؟ إن وصفك هذا مجرد خرقةٍ كانت بالية عليك فرميتها بي، وأحذِّرك من أن تعيدها، أحذرك!
كان غريغور يحرِّك سبابته متوعدًا وهو يغادر المائدة، وبانوس يحرِّك رأسه هازئًا وعلى وجهه ابتسامة مستفزة ويرد عليه: افعل ما بوسعك.
كان بانوس يدرك أن وعيد غريغور مجرد كلام؛ فهو طيب القلب يهدِّد ويتوعد في كل مرة ولا شيء وراء ذلك، كما أنه لا يريد أن تظن باتيل بأن زوجها محقٌّ بما وصفه، إنه شعور قابع في مخيِّلة جميع الرجال، لا يجب الظهور أمام النساء بما يعيب رجولتهم وينتقص منها، لربما يُظهِر الرجل ضَعفه بين أقرانه، يتعرَّض للإهانة ولا ينتفض، يُهزم ويستسلم بسهولة، إلا أن حضورَ امرأة واحدة يكفي بأن يُظهِر القوة مهما شعر بالضَّعف وينتفض ولا يستسلم لآخر نفس.