الفصل السادس والثلاثون
لم يتخيَّل مايكل يومًا أن يرى الشحوب والاصفرار في وجوه ضباط فِرق الإس إس الألمان أصحاب العِرق النقي كما يصفون أنفسهم، حسبَ أن ملامح الخوف لا تعرف طريقَها إلى تلك الوجوه القاسية من بأسها وشدة بطشها، أو أنها ملامح ظالمة طاغية لا تعرف سوى وجوه الفقراء والمساكين أمثال المعتقلين في المعسكرات والغيتوات والمحتشدات، لكن ما من سبيلٍ، الجميع من طينة واحدة لا عِرق ولا أصل يؤثر أو يقف عائقًا أمامها، كان مايكل من قلائل اليهود الذين غمرتهم الفرحة العارمة برؤية تلك الملامح التي كسرت العظمة النازية وأنفتها وكِبرها.
قبيل الغروب خرج السيد «أرنست» من مكتبه، تقدَّم صوب مايكل بخطوات وئيدة وهو يحمل بعض الماركات النقدية بيده، ابتسم في وجهه وقال: هذه أجرة الأشهر الستة التي قضيتها في خدمتي.
حدَّق مايكل في عينيه مستغربًا، ثم أشار بإصبع السبابة نحو صدره: أجري أنا؟!
– نعم يا مايكل، أنت تستحقها، خذها من يدي ستنفعك.
– لكن يا سيدي إن أخذتها فسيعاقبني حرس باب المعسكر؛ فهم يفتشونني حين أغادره وحين أعود إليه، سيتهمونني بالسرقة، ولربما أُعدم عند الباب، ونحن منذ متى نأخذ أجرًا يا سيدي! نحن نخدمكم دون مقابل، مجرَّد نقلك لي إلى هذا المكان فضلٌ لن أنساه لك طوال حياتي.
– خذها، وأنا سوف أوصي الحرس بألا يتم تفتيشك اليوم عند الباب.
– هل هنالك أمرٌ خطير يا سيدي؟ معذرة لكن الذي أراه منذ رحيل ويلدا وفاندا والسيدة تريسا هو أن الأمور قد تغيَّرت كثيرًا.
– لا توجد خطورة عليكم .. هيا عُد إلى المعسكر.
«لا توجد خطورة عليكم». كانت الجملة التي تشغل تفكير مايكل طول طريقه إلى المعسكر: «لماذا خصَّنا نحن؟ ثم مَن نحن بالتحديد؟ المعتقلون جميعهم؟ أم اليهود فقط؟ ثم ما هي هذه الخطورة أصلًا؟»
عندما دخل من باب الثكنة تذكَّر روبرت فضرب كفًّا بكفٍّ ندمًا، آهٍ كيف نسيت جلب بعض الأطعمة التي كان يشتهيها روبرت ما دام السيد آرنست أوصى بعدم تفتيشي عند العودة؟! دخل الثكنة وهو يردد: غدًا سأجلب له، غدًا أفعلها وإن اضطررت للتحدُّث إلى السيد آرنست عن ذلك.
– روبرت، أين أنت؟
– أين أكون أيها الأبله! في غرفة مسئول المعسكر أحتسي القهوة؟!
ضحِك مايكل بأعلى صوته، ثم قفز إلى سريره.
– انظر، إنها ماركات قد أعطانيها السيد آرنست.
– وكيف سمحوا لك بإدخالها إلى هنا؟
– لقد أوصى حرَّاسه بعدم تفتيشي لدى الباب.
– وما فائدتها هنا؟! لا تفرق شيئًا عن الأوراق العادية ما دمت لا تستطيع بها شراء رغيف خبز.
– لا أدري، لكنه قال خذها ستنفعك. روبرت لقد تغيَّروا كثيرًا، لو رأيت أولئك الضباط لما حسبت أنهم يمتُّون بصلةٍ إلى النازية سوى بزاتهم العسكرية تلك، والصليب المعقوف أعلى قبعاتهم.
– لم يحصل شيءٌ، إنك واهمٌ، لربما هؤلاء أدركوا أن عقوبةً ما ستطالهم؛ فالمنظومة النازية مهما كانت قاسيةً معنا فهي أقسى على مَن يخونها أو يتردد في تنفيذ أوامرها من المنتمين إليها بأضعافٍ كثيرةٍ.
– ربما يكون كما وصفت، لكنه ذكر جملةً شغلتني منذ خروجي من منزله «لا توجد خطورة عليكم»، هنالك خطورة قادمة، لكن لم يفصح عنها.
– لعلهم سينقلونه من هنا، أو أنه يتعرَّض لضغوطات من القيادة، نحن لا نعلم ماذا يدور في الكواليس يا صديقي.
– إذا كان الأمر كذلك فالسيد آرنست كان مقصده من إعطاء الأجر أن اليوم كان آخرَ يومٍ لي عنده.
– متوقعٌ جدًّا.
– وأعود للعمل الشاقِّ مرةً أخرى؟ لقد اعتاد جسدي على الراحة.
– استعدَّ للغد يا صديقي، المعول قد اشتاق إلى قبضتك.
– يااه!
– هيا ارحل إلى سريرك، أنا متعبٌ ولا أقوى على الكلام بعد.
كانت فكرة العودة إلى الحفر وتكسير الحجارة وحمل المعول من الفجر إلى حين غروب الشمس والمشقة والعناء، هما شغل فكر مايكل وعقله مع شعورٍ بقبضةٍ في القلب لرؤية تلك المساحات الشاسعة اللعينة ومنظر العمال هنا وهناك بملابسهم الرثَّة وأجسادهم الهزيلة.
وبينما هو في قمة البؤس ويمنِّي النفس أن تطول تلك الليلة قدرَ البعد بينه وبين الموت، فجأةً سمِع صوت انفجار قريب هزَّ الثكنة كلها وأيقظ جميع الراقدين على أسرَّتهم، وتلا الانفجارَ أصواتُ طلقات نارية، واكتمل المشهدَ بتحليق الطائرات فوق المعسكر، تجمَّعوا قرب الفتحات الهوائية الصغيرة أعلى الجدار في الثكنة يحدِّقون منها لعلهم يبصرون شيئًا يقودهم لفهمِ ما الذي يجري في الخارج، العربات العسكرية كانت لا تهدأ وهي تصدِر أصوات عادمها العالي والطائرات تحلِّق بشكل منخفض، والمدفعية تطلق الصواريخ، إنها معركة لا محال. أقبل روبرت نحو مايكل وسَحبه من وسط الجموع التي تراقب ما يحصل في الخارج.
– الآن فهمت مقصد السيد آرنست.
– ماذا فهمت؟
– «لا توجد خطورة عليكم»، يقصدنا نحن المعتقلين، الحلفاء قادمون سينقذوننا يا مايكل.
– هذا يعني أنِّي غدًا لا أحمل المِعول اللعين؟
قالها بفرح يغمر وجهه.
– هذا الذي يهمك، المِعول؟ فعلًا إنك أبله، سنكون أحرارًا يا أحمق! عن أيِّ مِعول تتكلم؟!
– لا تسبق الأحداث، مَن قال إن الحلفاء سينتصرون؟
– أنا أقول ما دام حال ضباط النازية كما وصفت، فتلك دليل الهزائم المتكررة .. أرجو من الرب أن يحمينا في هذه الليلة.
– ممَّ تخاف؟
– أخشى أن يقوموا بتصفيتنا قبل الانسحاب .. صبرنا كلَّ تلك السنين ونموت قبل أيام أو ساعات من التحرير! أيُّ قدرٍ تعيسٍ هذا إن حصل؟
– لا يهمني البقاء على قيد الحياة بعد الآن، المهم أني رأيت الأيام الأخيرة للنازية.
استمرَّت المعركة إلى منتصف الليل، الطائرات لم تهدأ في سماء المعسكر، والمدفعية ما لبثت تقصف منذ بدء المعركة وأضواء الانفجارات تُرى من بعيد وتضيء المكان لبرهة وتختفي.
بعدها فجأة ساد صمتٌ مخيف سوى طلقات نارية متقطعة، وصوت طنين طائرة يبدو أنها تحلِّق على ارتفاعٍ عالٍ. ما الذي جرى؟ هل انسحبت النازية من المعسكر؟ أم انتهت المعركة بانتصارهم على المهاجمين؟ كان كسر الباب والخروج مجازفةً كبيرة، والبقاء دون معرفةِ ما الذي جرى لا يمكن تحمُّله .. لم ينم أحد تلك الليلة إلى الفجر.
حان وقت مجيء الجنود لسَوقهم إلى الطابور المقيت، لكنهم تأخَّروا على غيرِ عادتهم، زادت الظنون يقينًا وبدت البهجةُ تظهر على وجوه المعتقلين، الالتزام بالوقت من المقدسات النازية الأساسية، تأخُّرهم يعني وجودَ أمرٍ مستجدٍ .. لم يأتوا بأيةِ حركةٍ خشيةً من أنهم ألغوا الخروج للعمل جرَّاء معركة الليلة الماضية، لربما الوضع في المنطقةِ غير مستقرٍّ ويتوقَّعون هجومًا في أي لحظة.
تأخَّروا كثيرًا حتى بزغت الشمس وتسلل ضوءُها من فتحات التهوية المستطيلة للثكنة، في مثل هذا الوقت في العادة يكون كلُّ معتقل في المكان المخصَّص له للعمل، وبما أن للصبر حدودًا، وهذه الحدود لم يتم رسمُها لكل البشر بنفس المقياس، يبدو أن أحد المعتقلين لم يتحمَّل أكثر من ذلك، فركل الباب بكلِّ ما أُوتي من قوة، لكنه لم ينفتح، أصدر صوتًا عاليًا فصمت الجميع فجأةً وشحبت الوجوه مرةً أخرى، إن سمعوا الصوت فالعقاب الجماعي آتٍ لا محالة، انتظروا وقتًا كافيًا ليصل الجنود إلى الثكنة، لكن ما من أحد .. تشجَّع آخرُ وآخرُ وتناوبوا على ركلِ الباب حتى كُسر القفل وانفتح الباب.
خرجوا إلى الساحة، لا يوجد أحدٌ .. هدوء مخيف، ألقى مايكل نظرةً إلى أبراج المراقبة، الحراس غير موجودين، بدأ المعتقلون يركضون كالمجانين نحو الثكنات يكسرون الأبواب فيخرج معتقلون آخرون وآخرون، حتى عجَّ المكان بهم بلباسهم الرثِّ المخطَّط وأجسادهم النحيلة والمثلَّثات الملوَّنة على صدورهم مع أرقامهم.
حالما سمعوا صوت دبابةٍ تقترب من الساحة هُرع الجميع إلى ثكناتهم، حسِبوا أن النازية قادمون، أغلقوا الباب على أنفسهم وتسلَّق البعض ليسترق النظر إلى الساحة من فتحة التهوية في أعلى الحائط، وبدأ يخبرهم بما يرى، بلغت القلوب الحناجر، والكل يمنِّي النفس بالخلاص.
– وصلت دبابة.
ثم يسكت.
– وصلت عربة عسكرية غريبة.
سأل أحدُ المعتقلين: أخبِرنا هل هم النازية أنفسهم؟
– وكيف لي أن أعرف؟
– من البزة العسكرية أيها الأحمق!
– لم ينزل أحد من الدبابة ولا من العربة.
ظل يراقبهم إلى أن صاح: نزل أحد الجنود لقد نزل.
– أمِن النازية؟
– لا أظن، إنني لأول مرة أرى هذا الزي العسكري، ها قد خرج إليهم المعتقلون ولم يفعلوا لهم شيئًا، إنهم ليسوا نازيين.
عمَّت الفرحة والبهجة والسرور المكانَ وطغت على وجوه المعتقلين، وتعانق الجميع مع بعضهم البعض، ركض روبرت نحو مايكل فاتحًا كلتا يديه وعانقنه بكل ما أوتي من قوة وهو يبكي ويضحك في الآن نفسه.
– لقد تحرَّرنا يا مايكل، تحرَّرنا!
لم يفرح مايكل كثيرًا كما فرح الجميع، كانت دموعه تذرف دون إرادة وكأن السعادة التي نحلم بها تتفق مع أسوأ الأوقات؛ لتحمل في جوفها ألمًا يزيح بهجةَ مجيئها، قال في نفسه: ماذا لو وصل هؤلاء قبل موت ديفيد وأنقذنا حياته؟ ما الذي ربحته النازية من التسبُّب في موتك يا ديفيد؟ كيف لي أن أسعد بحريتي وأنا السبب الأساسي بموتكما أنت وسارة؟ فليغفر لي الرب خطيئتي!
– أين ستكون وجهتك؟
– سأرجع إلى وارسو علَّني أجد والدتي هناك، وأنت؟
– أنا أنتظر دخول الحلفاء إلى ألمانيا، ثم أعود لقريتنا علَّني أجد أحدًا من أهلي، هذا إن بقَوا على قيد الحياة إلى الآن.
– تعالَ معي إذن، تمكث في وارسو لحين دخولهم ألمانيا.
قبل العودة كان الجوع قد أخذ منهما مأخذه، هُرعا نحو بيتٍ من بيوت ضباط فِرق الإس إس، كان جنود الحلفاء فيها يبحثون عن الأوراق والمستندات والخرائط، توجَّها مباشرةً إلى المطبخ لم يمانعوا تحركاتهم في المعسكر، كان المطبخ مليئًا بالأطعمة، اللحم والخضار والفواكه والحليب والجبن والخبز الطري وكلِّ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كان روبرت يأكل بكلتا يديه بشراهة حتى تنتفخ وجنتاه وبالكاد يستطيع إغلاق فمه، لا يدري أيمضغ الطعام أم يبلعه حتى كاد أن يختنق.
– ما بِك تأكل كالمشردين! لن يسرق طعامك أحدٌ، على رسلك.
– لو لم يُشبِع بطنَك ذلك النازيُّ اللعين لكنت تفعل مثلي أو أكثر.
– السيد أرنست يختلف عن النازية كثيرًا يا روبرت، على الأقل كان يحمل في قلبه قليلًا من الرحمة تجاهنا.
– مهما يكن فهو نازيٌّ لعين.
– أكمل طعامك، سأبحث عن ملابسَ نرتديها عند عودتنا إلى وارسو.
– خيرًا تفعل.