الفصل الثامن والثلاثون
الخيبة اعتلت الوجوه، والصمت ساد المكان، تصاعد دخان القهر والحيف من أفواه الحاضرين وكأن المقهى تحوَّل إلى عزاء مفتوح لأهل الحي جميعًا، عزاء الثقة التي اهتزت في النفوس، عزاء الوفاء للأرض والوطن. اكتشف حسن يومها أن العزاء ليس فقط لمغادرة روحٍ جسدَ إنسان، لا، بل هنالك عزاءات أعظم أثرًا وأعمق جرحًا في النفوس منها في الحياة.
بعدما انكشف سرُّ الاختفاء المفاجئ لأبي هشام، وتناقل الناس أخبارًا تقول إن هناك مَن رأوه يركب سفينةً متجهةً إلى بريطانيا مع عائلته وقد ارتدى لباسهم وحلق شاربيه ووضع قبعة سوداءَ على رأسه. خرج صوتٌ من بين الحاضرين: «لقد باع نفسه وشرفه قبل أن يبيع أرضه.» أردف آخر «سيلحقهم العار إلى أحفاد أحفادهم.» لم يحتمل الموقفَ حسن، وثقل عليه أجواء المقهى المليء بالخيبة والخذلان، ضاق نفَسه، تذكَّر يوم الخيبة عند فشل الثورة الكبرى قبل عدة أعوام، وخيبة هزيمة ألمانيا في الحرب الأخيرة. قال في نفسه: خيبات متكرِّرة تنهال علينا من القريب والبعيد، أينما أدرت وجهك رأيتها بارزة ظاهرة على الوجوه وكأنها أصبحت السِّمة التي تميِّزنا عن باقي الشعوب!
لم يكن لديه مَن يخفِّف عنه ثِقلَ ما يحمله غير هشام، حتى لو كان تحت التراب فمجرَّد شعوره بالقرب منه يخفِّف عنه الكثير. جثا على ركبتيه ونثر حبَّات الصنوبر على قبره، قرأ سورة الفاتحة على روحه، ثم أخبره أن أهل الحارة لا يذكرونه بشيءٍ، لا بخيرٍ ولا بشرٍّ، وكأن ما فعله أبوك قد أنساهم إياك، لا تحزن يا صديقي؛ فالشر يغطي الخير مهما كان حجمه صغيرًا، هكذا نحن البشر، بل هكذا هي الحياة، لا إنصاف فيها لأحد. وما دمتَ خرجت من الدنيا فلا يضيرك نسيانهم ما ضحَّيت به من أجلهم.
سمع حسن خلفَه حركةً، التفت وإذا بأنوشكا وعليها فستان أسودُ طويل وشالٌ أبيض شفاف يغطي جزءًا من شعرها المنسدل على وجهها، مسحت الدموع من عينيها بأطراف أناملها، صلَّت للرب من أجل هشام، وقبَّلت الصليب الذهبي الذي كان يتدلى على رقبتها وجلست بقرب حسن.
– تبكينه وأنتِ لم تريه في حياتك!
– أبكيه لأجلك، عندما رأيت تأثُّرك وبكاءك الشديد في يوم التشييع علمت مدى حجم فقْدك الكبير له، شعرت أن لا أحد يشيِّعه بصدق غيرك.
– هشامٌ لم يكن صديقي فقط يا أنوشكا، هشامٌ كان أخي وسندي وموضع سرِّي، وشريك ذكرياتٍ لا تُنسى. بفقدِه هوى ركنٌ كبير فيَّ وتحطَّم إلى الأبد، هشامٌ لا يعوَّض أبدًا يا أنوشكا.
ساد صمت بينهما، مكثا يتأملان القبر لدقائق حتى فاجأت أنوشكا حسن بقولها: إن تزوجنا ورُزقنا الرب بطفل فسنسمِّيه هشامًا.
ابتهج حسنٌ وقال بدهشة: أحقًّا ما تقولين؟
– نعم؛ فاسمي كان على اسم بنت بانوس أعزِّ أصدقاء أبي كما أخبرتك من قبل، ما الضير أن يكون اسم ابني على اسمِ أعزِّ صديقٍ لزوجي. يبدو أن قدرَ أسمائنا متعلِّق بأناسٍ ضحَوا بأنفسهم من أجل أن يحيا الآخرون.
أعطاها حسن ابتسامةً مليئة بالدفء ونظرات مليئة بالحب، وأمسك يدها بلطف، هاجه شعور كبير بأن يرتمي إلى حِضنها ويبكي كما يبكي الأطفال بأحضان أمهاتهم، لكن موانع كثيرة حوله حالت بينه وبين ما يريد.
– حسن أريد أن أخبرك بأمرٍ مهمٍّ.
هزَّ رأسه دون أن يتكلم.
– لقد قرَّر أبي الرحيل من القدس.
– أنتِ أيضًا تتركيني كما فعل هشامٌ!
– أنا لا أريد ذلك، لكن أبي غير مطمئنٍ للأوضاع هنا، يقول جنين أكثر أمنًا وأبعد عن المشاكل. تفجير الفندق زاد الأمور سوءًا، ولربما يعقبه تفجيرات أخرى، مَن يدري.
– قبل قليل كنتِ تتكلمين عن زواجنا وسنسمي ابننا هشامًا، والآن تخبرينني بأن هذا لقاؤنا الأخير!
– لم أقل هذا لقاؤنا الأخير، قد زرتَ بيتنا هناك وتستطيع زيارتنا متى شئت.
– افعلي ما تشائين.
– لا تتكلم معي هكذا.
– وكيف أتكلم معك؟ تتركينني وأنا بأمسِّ الحاجة لوجودك بقربي؟! ماذا أقول لكِ! رافقتك السلامة، انتبهي لنفسك كما يفعل الغرباء!
اغرورقت عيناها بالدموع، كان حسن يتجنَّب النظر إلى عينيها لكيلا يضعُف ويبكي هو أيضًا.
– حسن أرجوك افهمني، أنا لا أريد ذلك، هنا أنت وصديقاتي ومدرستي وذكرياتي، أتظن أنني فَرِحة على فراقكم جميعًا والذهاب للعيش وحدي هناك في تلك القرية النائية؟ كيف أمنع أبي وقد عزم الرحيل وأخبر صديقه أبا يوسف بذلك؟
أطلق حسن زفيرًا طويلًا واقترب من شاهدِ قبرِ هشامٍ وقال: أتسمع يا صديقي؟ ستتركني أنوشكا أيضًا.
أخرج قهقهةً مليئةً بالأسى، ثم رفع رأسه إلى السماء ونادى: يا إله الأرض والسماء، إن كنت قد كتبت علينا الفراق فلماذا عرَّفتني بهم من الأساس؟ ما ذنبي وما جُرمي لأُعذَّب هكذا؟
– اهدأ يا حسن، ولا تسيء الظن بالرب.
انكب على قبر هشامٍ وهو ينتحب بصوت مسموع، لم تدرِ أنوشكا ماذا تفعل، أخرجت منديلها ووضعته بيد حسن، ثم هُرعت نحو الحي وهي تبكي.
لم يحتمل حسن فراقين مرةً واحدة، فراقًا تحت ظل التراب وفراقًا تحت ظل المسافات البعيدة، مكث في غرفته أيامًا لا يخرج منها لا للعمل مع والده ولا لأي شيءٍ آخر، لا يوجد شيءٌ يستحقُّ الخروج من أجله، لا هشام ينتظره تحت ظل الشجرة المعمرة عند باب المغاربة، ولا أنوشكا ستعود من المدرسة ليوصلها إلى البيت.
كانت سكينة تحاول جاهدةً أن تُخرِج أخاها من جو اليأس الذي أحاطه بنفسه، لكن دون جدوى.
– لقد التقيت بها قبل أن ترحل.
لم يجلب انتباهه ذلك الخبر.
– كانت تذرف الدموع دمًا على فراقك، لقد أوغلت في قلبها يا فتى.
– أرجوكِ يا سكينة اتركيني وحدي.
بعد الحادثة تغيَّر حسن جذريًّا وكأنه أصبح إنسانًا آخر، لا يمزح مع أحد، لا يضحك البتة، بالكاد يُظهِر ابتسامةً بوجه أحد إذا مازحه، صار جدِّيًّا على غير عادته، يتكلم بثقة كبيرة، ولا يُسمع له صوت في البيت، لا يبادر بالكلام مع أحد، لزم الصمت فوُهب الهيبة، شعر أبو خالد أن ابنه أصبح رجلًا للتو، وتخلص من مراهقته وأصبح بالإمكان الاعتماد عليه الآن، زاد احترام خالد له في البيت والدكان، حتى في المقهى وبين أهل الحارة تغيَّرت نظرة الناس إليه، وتعامُلهم معه.
عند قبر هشامٍ، وضع حسن يده على شاهده، وأقسم بتراب قبره الشريف وبدمائه الزكية التي أُريقت من أجل هذه الأرض المباركة أن يكمِلَ ما انتهى إليه هشامٌ وينضمَّ للمقاومة.
في أول عملية له مع المقاومة، استبسل حسن وقاتل بشراسة واستطاع قتل ضابط الدورية بحركة بطولية لفتت انتباه الجميع، والتف حوله المقاتلون بعد العملية، يحيِّونه ويمدحون شجاعته وكيف انقض على الضابط وقتله، سمع حسن القائد يقول لأحد مساعديه: «أين كان يختبئ هذا الأسد عنَّا؟» أطلقوا عليه خليفة «عمر الصفدي» تثمينًا لشجاعته وإقدامه في القتال.
كان يمر على حسن لحظاتٌ يستغرب فيها من نفسه، كيف يمكن لذلك الفتى الذي كان يخشى صوت الطلقات النارية على بُعد مئات الأمتار، وتصيبه رِعشة ورهبة منها، أن يدخل اشتباكًا ضاريًا مع قوات الاحتلال ويطلق النار من بارودته هو، ويقتل الأعداء دون أن يهتزَّ له جَفن! كيف كان يجهل كل هذه الشجاعة المطمورة في جوفه؟