الفصل التاسع والثلاثون
كانت رائحتهما كريهة؛ إذ لم يكن يُسمح لهم بالاستحمام لفترات طويلة، اعتلى الدَّرج الخشبي نحو الطابق العلوي حيث غرفة نوم الضابط، فتَّش الخزانة، كان فيها بزتان عسكريتان وثلاثة بناطيل وخمسة أقمصة ورداءان، أحدهما أسود اللون والآخر أخضر باهت، وملابس نوم وثلاثة أزواج أحذية من الجلد الطبيعي، لفت انتباهه صورةٌ مؤطرة على طاولة خشبية صغيرة قرب السرير، ألقى نظرة فيها، كانت صورة امرأة تحمل طفلًا في الخامسة من عمره، يبدو أنها زوجته وابنه، استلقى على السرير حاملًا الصورة بيديه ويفكِّر في غرابة الإنسان، هذا المخلوق العجيب كيف كان يقتل ويتسبَّب في قتل الأطفال والنساء في النهار ثم في الليل يضع هذه الصورة على صدره ويحضنها شوقًا إلى طفله وزوجته؟! كيف يقسو مَن يحمل هذه المشاعر المرهفة؟! ألم يفكِّر يومًا ماذا لو حلَّ بابنه ما يحل لأبنائنا بسببهم؟ أسئلة لا يمكن إيجاد أجوبتها حتى لو كان صاحب الصورة أمامه.
توجَّها إلى وارسو بإحدى العربات العسكرية للحلفاء، وللمرة الأولى صعد مايكل على الصندوق الخلفي لعربةٍ عسكرية دون الخوف من مصير مجهول أو اعتقال بلا سبب يُذكر، كانت نظراتهما هو وروبرت تتحدَّث دون النطق بكلمة وترتسم على وجهيهما البسمة والفرح، أمر لا يُصدَّق، البارحة في مثل هذا الوقت كنَّا معتقلين يائسين عبيدًا مذلولين مهانين في بقعةٍ صغيرة لا نخطو فيها إلا بأمرٍ، ولا نعيد الخطوة للوراء إلا بأمر، واليوم نحن أحرار وكأن الدنيا فتحت أبوابها لنا وكتبت لنا حياةً جديدة! كل الناس وُلدوا مرةً واحدة في حياتهم إلا نحن، وُلدنا مرتين فيها.
على الضفة الثانية لنهر فيستولا الذي يمرُّ من منتصف وارسو، كانت أسوار الغيتو المبنية من الطوب الأحمر وأبنيتها تبدو محطَّمة ومحترقة من بعيد. وصلا قرب البوابة الرئيسية للغيتو؛ المكان الذي تم نقل مايكل منه إلى معسكر أوشفيتز. نزل من العربة مسرعًا متلهفًا لرؤية أمِّه والخوف قد سرى إلى جوفه بعد رؤيته المباني المهدمة. كان المكان يبدو قد فرغ من البشر والباب الرئيسي مخلوع، كان روبرت يتفحَّص المكان، ومايكل يخبره عن بعض الذكريات في طريقهما نحو المبنى الذي كان يسكن فيه مايكل. حطام المباني المهدَّمة كان قد سد بعض الأزقة بالكامل.
– روبرت، هنا في هذه الساحة بتُّ ليلةً كاملة تحت المطر والبرد، وهناك في تلك الغرفة الصغيرة المحطَّمة كان المحرس، يومها أتى ذلك الحارس الشهم بقطعةِ جبن ملفوف عليه الخبز وأطعمني.
ثم سارا يمينًا ودخلا أحد الأزقة ثم يسارًا.
– هذا مبنى المجلس اليهودي، كان أعضاؤه من اليهود يديرون شئون سكان الغيتو ويقدِّمون القرابين لأسيادهم، بعضهم كان يفعل ذلك ليحيا حياةً طيبة على حساب الآخرين، والبعض الآخر كان يبرِّر فِعلته بالقول: «إذا تركنا الأمر للنازية فسيكون عدد الضحايا أكثر.» حتى وصل الحال بهم ليكونوا آلهةً يقرِّرون مَن سيبقى ومَن سيرسل للموت. وهذا مبنى الشرطة اليهودية، كانوا يتنافسون في البطش بأبناء جِلدتهم حتى ينالوا الرضا من النازية ويحصلوا على الترفيعات!
– مايكل، إن هذا الحطام قديم، يبدو أن المدينة تحرَّرت منذ زمن .. انظر إلى الأعشاب التي نبتت بين الحطام.
– إنك محقٌّ .. لكن بالرغم من ذلك لدي بصيص من الأمل أنني سأجدها.
كل شيء حولهما كان يقول إن المكانَ مهجور، أسرَعا الخُطى حتى وصلا زقاق المبنى، فجأة توقَّف مايكل.
– ما بك يا مايكل، هل وصلنا؟
– لقد تذكَّرت يومَ عُدت من مقابلة السيد مارك في الحانة لأجل مرض سارة وعلاجها ثم أخبرني أنها ماتت، هنا في هذا المكان وقفت يومها أحدِّق إلى والدتي وهي على الشرفة تنتظر مني خبرًا سارًّا عنها .. انظر يا روبرت تلك هي شرفة غرفتنا.
– المبنى مهدَّم يا مايكل، والشرفة آيلة إلى السقوط .. مؤكدٌ أن لا أحد فيه.
– لا أريد الاقترابَ أكثر، دعنا نخرج من المكان يا روبرت، بدأت أختنق، كل شيء هنا مرتبط بذكريات سوداء تعيسة، هيا علَّنا نجد أحدًا خارج السور نسأله ماذا حلَّ بأهل الغيتو.
– هيا بنا.
صادفا رجلًا طاعنًا في السن خارج السور، كان بالكاد يستطيع المشي وهو متكئ على عكازه الخشبي اللامع .. اقترب مايكل منه وأعطاه ابتسامة صغيرة.
– هل بإمكاني أن أسألك سؤالًا؟
حدَّق بوجهه وتفحَّص ملابسه، ثم قال: إن كنت من أهل الحاجة فليس عندي ما أعطيك.
– وهل يبدو على هيئتي ذلك؟!
– حسنٌ، وماذا تريد إذن؟
– دعني أجلِسك على تلك المصطبة الحجرية، يبدو عليك التعب.
أمسكه من ذراعه اليمنى وتوجَّها بخطوات بطيئة نحو المصطبة الحجرية .. بعدما أخذ الرجل نفَسًا سأله مايكل: هل أنت من وارسو؟
– نعم أنا من يهودها.
– يهودي!
– نعم، وهل هناك ضيرٌ في ذلك؟ لم يمرَّ بالوقت الطويل حتى تخلَّصنا من أولئك النازية الملاعين، ثم تأتي وتستغرب أنِّي يهودي!
وكأنه كان يوبِّخ مايكل بتلك الكلمات.
– على رِسلك، أنا أيضًا يهودي مثلك، وقد كنت معتقلًا في هذا الغيتو، ومن ثَم تم نقلي إلى أوشفيتز.
– أحقًّا ما تقول؟! ابتهج الرجل .. وكيف نجوتم من المعسكر؟!
– تم تحريرها البارحة ليلًا من قِبل قوات الحلفاء .. لكن أخبِرني، هل هذا الدمار حصل للغيتو أثناء التحرير؟
– لا، الدمار سببُه الثورة التي حصلت ضد النازيين قبل سنتين في وارسو.
– ثورة! وما الذي حلَّ لسكان الغيتو؟
– نعم، ثورة قام بها الآلاف من سكان المدينة، كانت مقاومة شرسة استمرت أكثرَ من شهرين على أملِ تحرُّك القوات الروسية لمساندتهم، لكنهم خُذلوا ولم يُحرِّك الجيش الأحمر ساكنًا. أنهكتهم بشاعة الرد النازي، فهُدمت الأسوار وبعض البنايات وتم حرق بعضها الآخر، وقُتِل الكثير من السكان، ونُقِل الباقون إلى المعسكرات النازية.
– إلى أي معسكر تم نقلهم؟
– لم يُحدِّد معسكرًا معينًا.
وضع كفيه على وجهه كما يفعل الأطفال حين يشرعون بالبكاء، وقال: يا إلهي! أي عذابٍ هذا، وأي شقاء، لم يبقَ لي في الحياة سواها وأخذتها مني، أبقيت مَن تسبَّب في موتهم بغبائه وحمقه وعناده وأخذت الأبرياء، أمَا كان الأجدر أن يعيشوا هم وتنتزع روحي أنا المذنب بحقهم؟! هل تعاقبني فيهم يا إلهي؟
اقترب منه روبرت وهو يربِّت على كتفه.
– هوِّن عليك يا مايكل، هوِّن عليك، مَن قال إنها ماتت؟ لربما تكون قد تحرَّرت مثلنا من معسكرها .. الأحرى بك أن تبحث عنها، لا أن تندبَ وتنوح كالنساء.
صمت فجأة، كان تفكيره مشوشًا لا يستطيع التركيز في شيءٍ.
– إنك محقٌّ فيما تقول، هنالك احتمال أنها على قيد الحياة.
مسح الدموع من على وجهه بكمِّ ردائه.
– وأين تقترح أن أبحث عنها؟
– نسأل الجنود عن المعسكرات التي تم تحريرها، وبالتأكيد لديهم سجلات بأسماء المعتقلين الذين تم تحريرهم، كما تم تسجيل اسمَينا عند مغادرة أوشفيتز.
عرضا على الرجل الطاعن في السن المساعدةَ لإيصاله إلى بيته، لكنه رفض وقال: اذهبا وابحثا عنها، ولا تيأسا.
بحثا في الكثير من المعسكرات المحرَّرة ولم يجدا لها أثرًا، كانت الماركات التي أعطاها السيد آرنست لمايكل لها الدور الكبير في سرعة تنقُّلهما من معسكر إلى آخر بتأجير سيارات خاصة لأجل ذلك، أمضيا عدة أيام في التنقل والسؤال هنا وهناك لكن دون جدوى.
أخبرهما أحد المحرَّرين من معتقلات النازية عن حدوث حالات هروب قد حصلت من المعسكرات قبل التحرير، وبهذا لا يمكن إيجاد اسمها في أي معسكر محرَّر إن استطاعت الهرب، وآخرون أخبروهما أنها لربما قد نُقلت إلى المعسكرات التي لم تتحرَّر بعدُ في الداخل الألماني.
– ماذا ستفعل الآن يا مايكل؟
– لا أعلم، دعني أفكِّر، لقد تشابكت عليَّ الأمور، وبتُّ لا أستطيع التركيز.
– أقترح أن تنتظر تحرير بقية المعسكرات لعلك تجدها.
– لكن ماذا لو وجدت اسمها من بين الذين تم تحريرهم ولم أجدها هي؟
– عندها تكون قد خرجت تبحث عنكم كما تفعل أنت.
– احتمالٌ واردٌ جدًّا .. إذا كان الأمر كذلك فهي لن تفكر في العودة للغيتو للبحث عنا؛ فقد تم نقلنا أنا وديفيد منه قبل الثورة.
عندما ذُكر اسم «ديفيد» خطرَ في ذهنه أنه قال لأمه: تم اعتقال ديفيد في الغيتو ليرحَّل إلى فلسطين ببرنامج إعادة التوطين.
– وماذا تعني بذلك؟
– أخشى أنها بقيت تصدِّق تلك الإشاعات التي كانت منتشرةً في الغيتو بقضية الترحيل إلى فلسطين، ولربما تتوقَّع أنه تم ترحيلي إليها أنا أيضًا.
– إذن وِجهتها هناك في النهاية إن هربت أو إن تحرَّرت من المعسكرات المتبقية.
– هذا الاحتمال المنطقي.
– وترحل؟
– لا خيار أمامي.