الفصل الثاني والأربعون
كانت الحارات القديمة وأزِقَّتها الضيقة، والقناطر التي تتدلى منها أغصان الياسمين، والأسواق المزدحمة بالمارَّة والباعة المتجولين، وروائح الأطعمة الزكية التي تفوح منها، قد شغفت قلب مايكل منذ زيارته الأولى إلى القدس؛ إذ وفَّرت له الوكالة اليهودية المسئولة عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين في المادة الرابعة لصك الانتداب، غرفةً في أحد بيوتات حي مونتفيوري خارج أسوار القدس القديمة الذي بناه أحد أثرياء اليهود في عهد محمد علي باشا. فكان يزور هذه الحارات بين الفينة والأخرى مع بنيامين الذي تعرَّف عليه في أحد التدريبات القتالية بمنظمة الأرغون التي انضم إليها بعد أشهرٍ قليلة من قدومه إلى فلسطين، وكانت المنظمة تقدِّم مغريات كبيرة للشباب الجدد المهاجرين من البلدان المتفرقة للانضمام إليها.
كان بنيامين شغوفًا بالتعرُّف والتقرُّب من القادمين الجدد من اليهود الذين تعرَّضوا للاضطهاد في المعسكرات النازية، ويرى بنجاتهم استجابةَ دعواته وصلواته المتكررة لأجلهم. كانت الفرحة تعتلي وجهه وهو يحاول التحدُّث إليهم بالرغم من عدم إجادته لغير العربية. خلال الفترة التدريبية القصيرة التي جمعته مع مايكل توطَّدت علاقتهما كثيرًا.
عند مدخل باب المغاربة انتبه بنيامين إلى شابٍّ يجلس تحت شجرةٍ معمرة وهو سارح في تفكير عميق أصدر صوتًا لفت انتباه مايكل إليه.
– أوه إنه حسن!
مضيا نحوه وبنيامين كأنه يطير من الفرح، شعر مايكل أن حسن من أعز أصدقائه؛ فالفرحة التي ارتسمت على وجهه بعد رؤيته له لا تدُل إلا على ذلك. عندما اقتربا منه أصاب مايكل الذهول، كانت ملامح حسن تشبه كثيرًا ملامح أخيه ديفيد، ظل مايكل يتأمَّل وجهه المليء بالحزن والأسى وينظر إليه وهو يتذكَّر ابتسامةَ أخيه وذكرياته معه في ميونخ، تسلَّل إلى قلبه شعور ممزوج بالسعادة والحزن، تمنَّى لو أنه لم يرَ بعينيه جثته في معسكر بيركناو ولم يسمع أزيز احتراقها وتطاير رمادها إلى السماء؛ ليخدع نفسه بأن ديفيد قد وصل هنا قبله وتعلَّم لغتهم وصار منهم! ثم انتبه إلى حديثهما، كان النقاش حادًّا، قال في نفسه: «يبدو أنهما ليسا صديقين حميمين كما ظننت في البداية، بل عدوين حميمين!» تركهما حسن بعدما أكمل حديثه دون أن ينتظر بم يردُّ بنيامين، فكان الرد إليه مع ابتسامة عريضة: أرأيت! لقد انسحب ضعيف الحجة.
ظلَّت ملامح حسن في مخيِّلة مايكل حتى بعدما عاد إلى غرفته في مونتفيوري، ارتمى على فراشه وشعر أن هنالك سببًا ما ربطه بهذه البلاد؛ فقد كان شعور الهجرة إلى أمريكا يراوده بين الفينة والأخرى، وبالأخص بعدما وجد اسم أمِّه في سجل الوفيات لدى الوكالة اليهودية. يبدو أنها نجت من النازية لكنها لم تنجُ من صدمة الفقد لأولادها، فحدث لها ما كان يحدث للسجناء من فقدان الإرادة بالحياة، ثم الموت تدريجيًّا.
•••
عند قبر أمِّه مسح يده على الشاهد الحجري وتلمَّس الأحرف البارزة المكتوبة باللغة العبرية، ثم انتبه إلى تاريخ الوفاة ٢٥ / ١١ / ١٩٤٥ فاختلجه شعور غريب، لمعت عيناه وهو يحاول فكَّ شفرة الأرقام وكأنها كانت تدل على سرِّ وفاتهم جميعًا إلا هو! مرَّر إصبعه على الرقم ١٩ وهو يقول عُمر ديفيد حينما تُوفي وأُحرقت جثته، ثم الرقم ٤٥ عمرها هي عند وفاتها، كانت الدموع تذرف من عينيه دون إرادة، ١١ عمر سارة حينما أرسلها السيد مارك إلى الموت من غيتو وارسو، إلا الرقم الأخير خيَّب ظن التاريخ المشئوم ولم يوافق القدر.
– هوِّن عليك يا رجل.
التفت مايكل بعينين محمرتين من البكاء.
– ليس كل شيء يهون في الحياة يا بنيامين.
– أعلم أن خسارتك كبيرة، لكن هذا قدرهم، لم يكن بإمكانك تغييره، فلماذا تلوم نفسك إلى هذا الحد؟
– وهل القدر خط مستقيم نُساق إليه دون إرادة؟! إن كان الأمر كذلك ما قيمة وجودنا في الحياة إذن؟!
– ليس مستقيمًا إلى هذا الحدِّ، أحيانا يتغيَّر في اللحظات الأخيرة، وأحيانًا أخرى لا نفهم مغزاه فنظن بسوء أقدارنا، ولربما كانت في الحقيقة اختبارًا لمدى تحمُّلنا وصبرِنا في الحياة؛ ففي رحلة إبراهيم مع ولده إسحاق إلى موريا أراد الرب اختبار إبراهيم وطلب منه تقديم ولده إسحاق قربانًا له بذبحه.
على الطريق ظهر الشيطان إلى إبراهيم على هيئة رجلٍ طاعن في السن وقال له: «أأبله أنت لترتكب هذه الحماقة مع ابنك الذي رُزقت به على كِبر؟! ثم كيف لك أن تقوم بذبح مَن ليس له ذنب؟! كيف ستقوم بعملٍ لا يفعله سوى الرب؟!»
كان مايكل ينصت إليه بتركيز شديد، ويطلب من بنيامين لفظ الكلمات ببطء لكي يفهم القصة التي لم يسمع بتفاصيلها من قبل.
لم يأبه إبراهيم بكلام الرجل فصدَّ عنه، عندها عاود الشيطان محاولته فظهر أمام إسحاق على هيئة شاب وسيم ابتسم في وجهه وقال له: «كيف ترضخ لوالدك الأبله الذي يريد ذبحك دون ذنب؟! لا تنصت إليه ولا تدَع روحك السامية وصورتك الجميلة تفنيان من الحياة.» لكن إسحاق أيضًا لم يأبه بوساوس الشاب الوسيم فمضى مع أبيه إلى قدره بثبات، حينها وكأن إبراهيم أحسَّ أن الشيطان يحول بينهما وبين ما خرجا من أجله، فسأل ابنه إسحاق: هل يساور قلبك الشكُّ بصحة ما نقوم به يا بني؟
– لا يساورني الشك لأحيد عن الكلمات التي حدَّثك الرب بها يا أبتي، ولم يدبَّ الخوف في قلبي مما سيحصل، بل امتلأ بالسعادة؛ لأن الرب اختارني لأكون قربانًا له.
سعِد إبراهيم بكلام ابنه، ومضيا نحو المكان الذي تحدَّث الرب عنه، ثم على المذبح الذي بناه إبراهيم، وضع إسحاق خدَّه مستسلمًا لقدره على الخشب في أعلى المذبح، وقال: أبتاه، شدَّ وثاق يدي وقدمي، أخشى أن أضعف عند رؤية السكين فأمنعك منِّي رغبةً بالحياة، وأجرح نفسي فلا أصبح صالحًا لأكون أضحية، حِدَّ سكينك جيدًا ولا تتوانَ عن تنفيذ مشيئة الرب، تماسك ولا تضعف، فإن ضعفك يؤخِّر خروج روحي ويطيل عذابي.
كانت الدموع تذرف من عينيه على الخشب كما تذرف من عيني أبيه، لكنها لم تكن سخطًا على قضاء الله وقدره، بل حزنًا على فراقهما، ثم أغمض عينيه مستسلمًا، واستجمع قواه إبراهيم، ثم رفع ثوبه بجانبه وضم ركبتيه على إسحاق بقوة ليمنعه من الحركة ومقاومة الرغبة في البقاء رغم خضوعه للأمر الرباني، وعندما همَّ إبراهيم بذبحه ووضع السكين على رقبة ابنه صرخ الملاك ميخائيل: إبراهيم، إبراهيم، ارفع يدك عنه!
دبَّ الفرح في قلبه، لكنه ردَّ متسائلًا: أمرني الرب بذبحه، وتأمرني أنت بألا أذبحه، أيكما أحق بالطاعة؟!
– إنه أمر الرب.
وهكذا في لحظةٍ تغيَّر قدرُ إسحاق ودبَّت فيه روح الحياة من جديد، وبارك الرب بهما وفداهما بكبش من السماء يكون أضحية إبراهيم بدلًا من ابنه إسحاق؛ لذا فالقَدر قابل للتغيير أحيانًا وليس خطًّا مستقيمًا نساق فيه دون إرادة، حتى إن إسحاق كان بمقدوره عدم تلبية رغبة أبيه.
– لكنه في النهاية لم يمُت، فيما يعني أنه لم يُقدَّر له الموت في أيِّ طريقة كانت بقبوله أو حتى برفضه.
– أنت الآن أجبتَ على تساؤلك الأول بنفسك، فلربما لو رحلت من ألمانيا قبل الحرب لغرقت السفينة التي كانت ستأتي بكم إلى هنا وماتوا هم وبقيت أنت وحدك على قيد الحياة.
شعر مايكل لأول مرة منذ سنوات طويلة براحة نفسية، وكأن همًّا ثقيلًا أُزيح عن كاهله بتلك الكلمات من بنيامين.