الفصل الرابع والأربعون
على خط الصد الأمامي قرب قرية «عين كارم» كان حسن متكئًا على صخرة كبيرة، يحمل رشاشه نوع ستن الذي اغتنمه من أحد جنود الجيش البريطاني، يضع الطلقات النارية بحذر في مخزنه، وقد انتشر المقاتلون على امتداد خط الصد، كلٌّ يجهِّز سلاحه ويتجهَّز لأي هجوم وشيك من عصابة الهاغانا الصهيونية؛ إذ بعد قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، تراجعت القوات البريطانية خطوةً إلى الوراء وخطت العصابات الصهيونية «الهاغانا والأرغون وشتيرن وغيرها» خطوةً للأمام في ساحة المعارك، فطرأت تغييرات كبيرة على القتال؛ إذ إن الاشتباك مع القوات النظامية يعني أنك لا تخشى على الأهالي من القتل الجماعي والمصير المجهول إن هُزمت أو انسحبت من الاشتباك، لكن القتال مع العصابات الصهيونية التي تنتهج معركة الأرض المحروقة وتتَّبع سياسةَ زرع الرعب في نفوس أهالي القرى العربية والمجازر التي يتعمدون إليها، جعل التراجع أو الانسحاب أمرًا مستحيلًا، بالنسبة للمقاتلين إمَّا النصر وإما الشهادة.
كانت السماء ملبَّدة بالغيوم الرمادية الثقيلة، وتنذر بهطول أمطار غزيرة في أي لحظة، ولعلها تنتظر بدء القتال لتنخرط السماء في معركة الأرض المرتقبة بين الحق والباطل وتنهمر منها القطرات كما تنهمر الطلقات من فوَّهات البنادق، لكن قطرات السماء تنهمر على الطرفين على الحق والباطل! إذن هي ليست مع الحق لتدافع عنه ولا مع الباطل لتقاتل دونه، تذكَّر حسن بنيامين الذي يعتقد جازمًا أنهم على حق، وقال في نفسه لربما هي معركة بين الحق والحق لكن بوجهات نظر مختلفة، أو كما بوجهة نظر السماء!
اقتربت أصوات العربات العسكرية، تأهَّب حسن وصوَّب سلاحه نحو جهة الصوت، رمق بنظرة خاطفة صاحب مدفع الرشاش الذي كان يعتلي مكانًا مرتفعًا وقد أمسك مقبضي سلاحه وتجهَّز للرمي، وكأنه فارس يمسك لجام فرسه وهو يسابق الريح. وما إن برزت العربات لهم حتى سمع تكبير أحد المقاتلين وبدأ الاشتباك، كانت العربات العسكرية المصفحة تتقدم السيرَ وخلفها يختبئ مقاتلو الهاغانا، كانت الطلقات التي تصطدم بالعربات لا تُحدِث فيها أي أثر، فأخرج حسن قنبلة يدوية ورماها بأقصى ما لديه من قوة لعلها تقع خلف العربات، لكن المسافة كانت بعيدة فارتطمت بواحدة منها وانفجرت دون أن تُحدِث تأثيرًا كبيرًا فيها، كانت مدافع الرشاش المنصوبة على تلك العربات تمطر الطلقات دون توقُّف ولا تدَع مجالًا للتصويب، سقط بقربه أحد المقاتلين، هُرع إليه حسن مطأطأ الرأس، كانت الطلقة قد اخترقت صدره، والدم يتدفَّق من مكان الإصابة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حاول حسن أن يلقنه الشهادة، لكنه لم يلحق به، انتبه إلى يده فرآه قد رفع السبابة، أغمض حسن عيني الشهيد بمَسحة على وجهه، ثم تابع القتال بحماسٍ أكبر وبدأ يكبِّر ويدب الحماس بنفوس المقاتلين ويطلق النار تجاه العربات، سقط العديد من الشهداء هنا وهناك، والعربات تقترب ببطء وثبات شديدين، كان تسليح جنود الهاغانا على أتمِّه، والعربات المصفحة لها دور كبير في تقدُّمهم نحو القرية.
حاول حسن مع ثلاثة من المقاتلين الالتفافَ على العدو ومفاجأتهم من الخلف، وفتْح ثغرة في صفوفهم بحركة بطولية، لكنها باءت بالفشل ووقعوا تحت نيران المدفع الرشاش، فأصيب حسن في ساقه اليسرى ووقع في حفرة كبيرة، واستُشهد اثنان ونجا الثالث من الإطلاقات، حاول الثالث أن يحمل حسن وينسحب لكنَّ التحرك من مكانهم والخروج من الحفرة كان يعني الموت المحتم، نزع المقاتل قميصه وشقَّه من النصف ثم ربط به مكان الجرح، شعر حسن ببرودةٍ تسري بداخله وظن أن الموت دنا إليه أكثرَ من أي وقتٍ مضى، نظر إلى السماء رأى فيها وجه أنوشكا وهي تذرف الدموع، سقطت قطرة في خده ظنَّ أنها دموع أنوشكا، اختلجه شعورٌ غريب اعتلت ابتسامة على وجهه، سقطت قطرة ثانية وثالثة، ثم أُنيرت السماء ببرق رسم على خدِّها مسارًا معوجًّا أردفه صوت رعدٍ عالٍ، ثم هطلت الأمطار بغزارة، ظن حسن أنها النهاية وأن روحه ستلحق بروح هشام هناك في السماء. لكن فجأة علت أصوات التكبيرات، حاول المقاتل الذي معه في الحفرة أن يسترق النظر تجاه القرية، فصاح بلهفة الفرج هو أيضًا: الله أكبر! واقترب من حسن: تحمَّل قليلًا يا صديقي، لقد وصلت الإمدادات العسكرية وجنود جيش الإنقاذ العربي المرابط في الجهة الثانية للقرية.
بعدها بدقائق بدأت أصوات العربات العسكرية تبتعد شيئًا فشيئًا من مسامع حسن وتقدَّم المقاتلون للأمام حتى وصلوا الحفرة. وضعوا حسن على حمَّالة نقل الجرحى على عجلٍ وأسعفوه إلى مؤخرة الصفوف.
مكث حسن في أحد بيوت قرية عين كارم لحين تماثله للشفاء بعدما أخرج الطبيب العسكري الرصاصة من ساقه وربط موضع الإصابة باللفائف البيضاء. كان صاحب البيت «أبو عثمان» يشعر بفخر كبير؛ لأنه يستضيف مقاتلًا من المقاومة في بيته، يسهر الليل كلَّه عند رأسه، وعندما يستيقظ حسن يسأله عن حاجته ويحضِر أنواع الطعام إليه، ويبادله الحديث لكيلا يضجر، وكأن حسن ملِكٌ نزل عند أحد رعيته، كان حسن يردِّد كل مرة: يا أبا عثمان، لا تتكلَّف كثيرًا، البلد يمر بظروفٍ صعبة، ونحن على أبواب حربٍ لا ندري كم ستطول.
– أنا لا أتكلَّف، هذا أقل من واجبك، ثم إن دماءك التي أُريقت من أجلنا تستحق هذا وأكثر. الخير كثير والحمد لله، وذبيحة واحدة لأجل بطلٍ مثلك لا تساوي شيئًا في مقاييس الكرم عند العرب.
لم يردَّ حسن بشيء؛ فالجود والكرم وواجب الضيف عند العرب وأهل القرى مسألةٌ لا نقاش فيها، ثم ابتسم بوجه أبي عثمان وقال: تُذكِّرني يا أبا عثمان بقصةٍ ذكرها لنا ذات مرة أستاذُ الدين «محمود الخطيب» عن حاتم الطائي. يقول: قرأت ذات مرة أنه «قيل لحاتم: هل في العرب أجود منك؟ فقال: كل العرب أجود منِّي. ثم أنشأ يحدِّث قال: نزلت على غلامٍ يتيم من العرب ذات ليلة، وكانت له عشرة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها. فلما قرَّب إليَّ دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ! فذهب، فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت. فلما أصبحت إذا هو قد ذبح العشر شياه، ولم يبقَ له شيء .. قيل: فما صنعت به؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء. قال: على كل حالٍ أعطيته مائة ناقة من خِيار إبلي.»
– وأين نحن من جودهم وكرمهم يا حسن؟!
– يا أبا عثمان، يقول أبو الطيب المتنبي:
ربَّت أبو عثمان على كتف حسن وقال: نِعمَ الفقر الذي يأتي من الجود يا بني.