الفصل السابع والأربعون
امتلأت باحات الأقصى بالمشيِّعين، وكأن أهلَ القدس كلهم قد تجمَّعوا فيها، كانت الجنازة الخشبية المغطاة بالعلم بالفلسطيني قد وُضع فوقها إكليل من الورود بشكل دائري تكريمًا للشهيد، يحملها على الأكتاف ستة رجال يتقدَّمهم ضابط ببزته العسكرية الرسمية، وعلى جانبي الجنازة صفوفٌ من الجنود يرتدون زيهم العسكري الأخضر، وعلى رأسهم الغُترة والعِقال، وخلفها القادة والضباط وشخصيات القدس المعروفون، يمشون الهوينا مع حشدٍ غفيرٍ من الناس الذين يكبِّرون ويهلِّلون، أطلق الجنود الرصاص نحو السماء، بكت فلسطين شهيدها بعيون أبنائها ونعاها كما تنعى الأمُّ وحيدَها، ثم شيَّعوه إلى المصلى القبلي، ليصلوا عليه. لم تشهد القدس صلاة جنازة مثلها قط، اصطفَّ الناس في الباحات والحدائق والطرقات وحتى البعض اعتلى الجدران لضيق المكان، ولأن الصلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، لم يكن يفصل بين صفٍّ وآخرَ سوى شبر واحد، كانت مآذن الأقصى وجوامع القدس تصدح بالتكبيرات وأجراس الكنائس تدقُّ بحزن على رحيله.
انتشر خبر استشهاد عبد القادر الحسيني وتشييعه المهيب كالنار في الهشيم، في كل أرجاء فلسطين. كان حسن في قريةِ عين كارم عندما سمِع الخبر يحاول الوصول إلى القدس بعد تماثله للشفاء، لكن الطُّرق سُدَّت، والمعارك كانت دائرةً على أطراف القدس.
– «لقد خسِرت الثورة أعظمَ رجالاتها يا حسن.» قال أبو عثمان ذلك وهو يحوقل ويضرب كفًّا بكفٍّ.
هزَّ حسن رأسه متأسفًا، أدرك أن الأمور ستزداد سوءًا بعد استشهاد الحسيني، استأذن منه ليتمشَّى قليلًا في أزقة القرية، ويمرِّن ساقه على المشي.
– «أمامنا أيامٌ عصيبة يا أبا عثمان.» قال حسن ذلك وهو يبتعد منه. سار بين تلك البيوت المبنية من الأحجار الكلسية، ذات النوافذ الخشبية المقوَّسة النهايات والأبواب المحفوفة بقنطرة تتخلف قليلًا كالمحراب عن واجهة البناء، تذكَّر حارات القدس ورائحة الياسمين، وصل قربَ جامع القرية، اغترف بيده من ماء عين مريم البارد الذي يجري من خلاله فابترد به، ثم توجَّه إلى ساحة «الحرجة» حيث يتجمَّع رجال القرية وتجَّارها هناك يتبادلون أطراف الحديث وأخبار القتال الدائر في البلاد، والآمال المعهودة بجيش الإنقاذ العربي. لكن في ذلك اليوم كان الحزن والحِداد والخيبة التي تعتلي الوجوه سيدةَ الموقف، خيبةٌ أخرى من خيبات هذا الشعب المخذول دومًا، تذكَّر حسن وجوهَ الرجال في مقهى الحي بعد خيانة أبي هشام.
اقترب منه أحدُ جنود جيش الإنقاذ العربي، ألقى السلام، ثم صافحه بحرارة وهو يقول: الحمد لله على سلامتك.
استغرب حسن من حفاوته الكبيرة به، فقال: يبدو أنك تعرفني.
– نعم، فقد كنت مع الجنود الذين أسعفوك في ساحة الاشتباك يوم أصِبت في ساقك.
شكره حسن كثيرًا، ثم دار بينهما حديثٌ طويل عن المعارك وإمكانية جيش الإنقاذ مقابل الإمكانية الضخمة للعدو الذي اشترى عتاد القوات البريطانية المنسحبة من فلسطين وامتلك حتى الطائرات، كان الجندي شابًّا في نهاية عَقده الثاني ذا ملامح سمراء جميلة، يتكلم باللهجة العراقية المحبَّبة، يقول: قد شارك أبي في ثورة العشرين هناك في العراق، وقتل العديدَ من جنود الاحتلال البريطاني، وما إن سمع أنهم فتحوا المجال للجهاد في فلسطين حتى أرسلني مع أول مجموعةٍ غادرت العراق، كانت وصيته لي قبل السفر: «بني، إن وصلت الأقصى صلِّ ركعتين فيها، ثم عاهِد الله وأنت تنظر للقبة المشرفة وتمدُّ يدك نحوها على ألا تعود للعراق إلا بعد تحرير فلسطين بالكامل أو شهيدًا على جنازة.»
– وهل عاهدت الله في الأقصى؟
– فور وصولي إلى القدس.
نظر حسن إليه فرأى في عينيه ما رآه في عيني هشام يوم أخبره عن استشهاد عمر الصفدي في تلك الليلة القمراء في باحة الأقصى، وكأن الشهادة سِمةٌ تظهر في العيون التي تصبو إلى المعالي، وتزرع في النفوس الهمم العالية، فما الذي يدفع شابًّا إلى ترْك حياته ومدينته الآمنة وعيشه الرغيد ليقطع آلاف الأميال ويرخِّص نفسَه من أجل فلسطين إلا تلك الهمة العالية التي تنبع منها.
•••
تسلَّلت أشعةُ الشمس خلسةً من النافذة الخشبية لغرفة حسن في بيت أبي عثمان، وأيقظته بأناملها الدافئة وهي تتلمَّس وجهه وكأنها أنامل أنوشكا، وحالما فتح عينيه هاجه شعور قوي بالشوق إليها؛ فقد مرَّ وقت طويل على رحيلها، فجأةً تذكَّر أنه رآها في الحلم الليلة الماضية، كانت جالسة على شرفة منزلهم في جنين تتأمَّل مرج ابن عامر وشعرها المنسدل كذيل حصانٍ يتطاير مع الريح، ثم فجأة مدَّت يدَها ناحيةَ المدى ونادت بأعلى صوتها: حسن، حسن، وهي تبكي وتذرف الدموع، ثم انتهى الحُلم هكذا. لم يخطر في ذهنه تفسيرٌ لذلك الحلم إلا أنها بحاجته والشوق قد أخذ منها مأخذه كما فعل به هو أيضًا.
أثناء ذلك تناهى إلى مسامعه أصواتُ صيحات نساء وبكاء أطفال قادمة من ساحة الحرجة، ظن أن القرية تعرَّضت للهجوم من العصابات الصهيونية، لكن الغريب في الأمر أنه لا يوجد صوت إطلاقات نارية، فزَّ من فراشه ارتدى ملابسه وحمل جَعبته ورشَّاشه الستن المركون في زاوية الغرفة، ثم هُرع إلى الساحة.
كانت النساء تصيح وتندب وتستنجد برجال القرية أن يلحقوا الأهالي في قرية دير ياسين التي تعرَّضت لهجومٍ مباغت منذ الفجر من قِبل العصابات الصهيونية، وصل ضابط جيش الإنقاذ العربي المرابط في أطراف القرية إلى الساحة، ارتفعت صيحات النساء عند رؤيته، كانت إحداهن تبكي وتقول: «لقد قتلوا زوجي وابني وحرقوا الدار، إن لم تلحقوا بهم فسيقتلون أهل القرية جميعًا.» كان الضابط يردِّد كلَّ مرة: لا توجد أوامر بالتحرُّك، لا توجد أوامر!
صاح أحد شبان القرية: أعطونا أسلحتكم ونحن نذهب للقتال هناك.
– الأمر ليس بهذه البساطة، اهدءوا، يجب أن نتبع أوامر القيادة، أخشى أن نتحرك إلى دير ياسين، فتتعرض القرية إلى هجوم أيضًا، مَن يدافع عنها حينها؟!
بين جموع أهالي القرية الغاضبين لعدم تحرُّك جيش الإنقاذ لنجدة أهالي القرية، همس أحدهم بأذن حسن وقال: هيا أيها البطل، لا وقت لدينا لنضيِّعه.
كان الشاب متلثمًا بكوفية، انتبه حسن إلى سلاحه فعرف أنه أحد جنود جيش الإنقاذ، كشف عن وجهه وإذا به ذلك الشاب العراقي.
– وتخالف الأوامر؟
– أيَّة أوامر هذه، إخوتنا يتعرضون للموت إن لم ننجدْهم ونقاتل دونهم فلماذا أتينا للقتال إذن، وما فائدة السلاح الذي نحمله؟!
– صدقتَ.
كانت قرية دير ياسين على بُعد ميلين عن قرية عين كارم، وكلما اقتربا منها تناهت إلى مسامعهما أصوات الانفجارات والإطلاقات النارية، فيسرعان خطاهما، أخبره حسن أنه قد زار القرية من قبلُ يومَ أتى مع والده إلى بيت الحاج أسعد.
– أعتقد أن الهجوم حصل من مستوطنةِ جفعات شاءول الواقعة شرق القرية من جهة القدس، إضافة إلى وجود مستوطناتٍ أخرى إلى جنوبها.
– كيف استطاعت تلك النسوة الهرب مع أطفالهن إذن؟
– لا يوجد منفذٌ إلا من الجهة الغربية، ومنها سنتسلل للقرية.
عند مشارفِ القرية، صادفا مجموعةً أخرى من النساء والأطفال وكبارِ السن وهم يفرون منها مذعورين وقد شاحت وجوههم وبلغت القلوب الحناجر، لم يتأثَّر حسن ببكاء الأطفال ولا صيحات النساء بقدرِ تأثُّره لدموع ذلك الشيخ الطاعن في السن، عندها أدرك حجمَ ما يتعرض له أهالي القرية من الوحشية والإجرام.
– «اتجِهوا نحو تلك التلة، الطريق آمنٌ إلى عينِ كارم لا تخشَوا شيئًا.» قال كاظم ذلك للأهالي.
– «أين الإمدادات العسكرية؟ أين جنود جيش الإنقاذ العربي؟» سألت إحدى النسوة ذلك.
نظر حسن إلى كاظم وقد طأطأ رأسه ولم يدرِ ما يقول.
– سيأتون، سيأتون الآن، هيا امضوا في طريقكم على عجل.
لم يتمالك كاظم نفسه فهُرع نحو القرية وهو يكبِّر ويطلق الرصاص نحو السماء، لحِق به حسن بين البساتين وأشجار العنب والتين فولِجا بيتًا في مدخل القرية كان الباب مفتوحًا على مصراعيه، استطلع حسن الغرفَ بحذرٍ واعتلى كاظم السطح ليلقي نظرةً إلى داخل القرية، وكيف يمكن لهما التقدُّم والوصول إلى مقاتلي القرية لمساندتهم، انتبه حسن إلى سفرةٍ على الأرض وأطباق الزيتون والجبن والزيت والزعتر عليها وأكواب شاي مملوءة للمنتصف وقِطع خبز متروكة على أطراف السفرة، اختلجه شعورٌ بالحزن لحالهم، جلس متكئًا على سلاحه، أغمض عينيه وأخذ نفسًا عميقًا ثم حوقل وقام من مكانه. سمِع أصوات أقدام تقترب خارج البيت، اتكأ على حائط الغرفة وصوَّب سلاحه نحو الباب، فجأة بدأت الإطلاقات النارية تنهمر على البيت، وكاظم على سطح المنزل يكبر ويطلق النار، وينادي حسن ليصعد إلى السطح.
شعر حسن أن الموت لا محال هذه المرة، ألقَوا قنبلة يدوية على باحة المنزل فتهاوت قِطع من السقف وامتلأ المكان بالدخان والغبار، فتح النارَ حسن من رشاشه وهو ينسحب من الغرفة إلى الدَّرج، خرج أمامه جندي فأرداه قتيلًا بثلاث رصاصات متتالية، سمِع تكبير كاظم وكأنه أصاب أحد المهاجمين وصل قربه.
– كاظم لا تُطلِق إلا لهدف! نحن محاصَرون هنا، سنموت عندما تنفد ذخيرتنا!
– لا عليك، لقد قتلت اثنين منهم وأصبتُ الثالث.
– وأنا أيضًا قتلت واحدًا.
– هؤلاء جبناء، ولولا أسلحتهم الحديثة وذخيرتهم التي لا تنتهي لهزمناهم أنا وأنت وحدنا.
– سنهزمهم بإذن الله، ابقَ أنت هنا وأنا أذهب للطرف الآخر، يجب أن نقتل هذه المجموعة قبل أن تصلها الإمدادات.
استمر القتال قرابةَ النصف ساعة، كان كاظم يقاتل بشراسة واستبسل في القتال، حتى رُمي بقنبلة يدوية فسقط يلفظ أنفاسه الأخيرة، هُرع إليه حسن، حمله إلى حِضنه، كانت الابتسامة تعلو شفاهه وهو يقول لقد وفيت عهدي لله بوصية أبي، ثم أخذ نفَسًا وصوت الحشرجة يخرج من صدره، ثم شهق وغادرت الجسدَ روحُه الزكية إلى السماء. وبينما هو يمسح وجهه بكفِّه ليغلق عينيه، وضع أحدهم فوَّهه سلاحه على رأس حسن وقال بلغةٍ ركيكة: ارفع يديك!