الفصل الخامس
في تلك الأزقة الضيقة والجدران الحجرية العتيقة وتكاتف البيوت مع بعضها البعض بقناطرها المقوَّسة الجميلة وروائح الياسمين التي تفوح بين حناياها وتتدلى أغصانها الرقيقة من منافذها العلوية، كان حسن يدفع العربةَ مع أخيه خالد متوجهَين إلى الحي الأرمني، يتقدمهما العم أرتين بخطواتٍ وئيدة متكئًا على عكازه الخشبي المصنوع من خشب الزان المزخرف بأشكال وألوان مميزة.
وكان خالد يوبِّخ حسن طوال الطريق؛ لأنه لا ينتبه معه على تعرجات الطريق فيدفع العربة بقوة ويسبِّب اهتزازها وتحرُّك الأحجار عليها، فصاح خالدٌ بأعلى صوته: يواش يواش ستنكسر زوايا الأحجار هكذا!
التفت العم أرتين ووبَّخ خالدًا، وقال له: لا تستخدم كلماتٍ تركية أمامي مرة أخرى!
ثم أدار وجهه وأكمل السير، ارتسمت علامات التعجُّب على وجه خالد وظل صامتًا مذهولًا، وحسن بالكاد يكتم ضحكته وهو فَرِح؛ لأن العم أرتين أخذ بحقه من خالد ووبَّخه .. اقترب من حسن وهمس بأذنه: ما به يكره الأتراك هكذا؟
– لا أعلم، أنا أيضًا ذكرت أمامه خان «أوتزبير»، فوبخني مثلك، ولولا كبر سِنِّه وصحبته للحاج صالح لما سكتُّ عنه.
– وأنا أيضًا لولا البضاعة لما سكتُّ عن توبيخه لي، أخشى أن يردها وأتسبَّب في خسارة زبون دفع نقدًا.
عجوز أخرق .. تمتم خالد وعاد ليدفع العربة.
عند وصولهم إلى بيت العم أرتين أوصاهما بأن يُنزلا الأحجار ويضعاها عند باحة المنزل تحت نافذة الغرفة المقابلة للباب الخارجي، وشرع الباب على مصراعيه ثم توجَّه إلى الداخل، وهو يقول: أكمِلا عملكما وأغلِقا الباب وارحلا.
استشاط خالدٌ غضبًا من تصرُّفه وكلامه معهما بهذه الطريقة غير المهذبة، وقال لحسن: دعنا نكمل العمل بسرعة، بتُّ لا أتحمَّل فظاظته، أخشى أن أفقد أعصابي وأرميه بحجر على رأسه فأدعه ينسى لغته ويتكلَّم اللغة التركية فقط.
ردَّ عليه حسن وهو يضحك ويقطع حديثه من شدة الضحك: لا أستبعد أنه سيقصُّ لسانه، وسيفضِّل أن يكون أخرسَ على أن يتكلم تلك اللغة.
في باحة الدار انتبه حسن إلى حركةٍ خلف سِتارة النافذة التي يضعون تحتها الأحجار، في البداية قال لنفسه: إنه العجوز الأخرق يراقبنا، وخشي أنه استمع إلى حديثهما عنه، لكن عندما اقترب من النافذة وهو يحمل بحضنه الحجر ظهرت أمامه فتاة لم يرَ مثل جمالها قط، ابتسمت بوجهه برهةً ثم اختفت. بقي حسن واقفًا كالصنم غيرَ مصدِّق ما رأى أمامه حتى إنه لم يَعُد يشعر بثقل الحجر الذي كان يحمله. كانت الفتاة تراقبهما من خلف الستارة كلما اقترب حسن من النافذة أظهرت وجهها وابتسمت له، وكأنها تلعب معه كما يفعل الأطفال، لكن حسن كان قلبه يتراقص لرؤيتها. وظل يتساءل طوال فترة نقل الأحجار من العربة إلى الباحة كيف تمكَّنت منه بهذه السرعة! وما هذا الخفقان الغريب الذي يشعر به؟ نظر إليه خالد بريبةٍ وكأنه قرأ بوجهِ حسن ما كتم عنه.
– حسن، لا ترفع بصرك إلى النافذة كثيرًا، هذه ليست من أخلاقنا، والله لئن سمِع بك أبي ليكون عقابك وخيمًا، نحن ندخل بيوت الناس هنا، ولكل بيت حُرْمته، فلا يجب أن تنتهكه وإلا هتك الله حرمةَ بيتنا أيضًا.
هزَّ حسن رأسه مؤيدًا، وطأطأ رأسه وهو يقول بشيء من التوسُّل: وتخبره؟
– سأفعل إن عُدْتها مرةً أخرى.
عند عودتهما إلى خان تنكز بقي حسن صامتًا طول الطريق وهو يجر العربة ويفكِّر فيما رأى، صورة طُبعت في ذهنه وشعور غريب بدا يسري في جوفه لم يخفق قلبه هكذا لأيَّة فتاةٍ من قبل، وبدأ يحاول فكَّ أُحجية ذلك الوجه الملائكي الصغير والابتسامة الخجولة التي ارتسمت على وجهها حينما كانت تنظر إليه.
لم يكن لديه مَن يحمل عنه ثقلَ ما شعر به سوى هشام، فاستأذن من أبيه ثم توجَّه إلى باب المغاربة إلى تحت ظل الشجرة المعمرة؛ فهناك بالتأكيد سيجد هشامًا؛ إذ إنه يقضي طوال يومه هناك أحيانًا، يتأمَّل القبة التي ملكت قلبه كما ملكت تلك الفتاة قلب حسن وأحيانًا يقوم بمساعدة زائري الأقصى من المدن والبلاد البعيدة، ويدلهم على أماكن الوضوء وأماكن قضاء الحاجة وأحيانًا أخرى يجمع لِجَدته حبَّات الصنوبر الخشبية الصغيرة التي يلتقطها من باب الأسباط المؤدي إلى المُصلَّى القِبلي حيث تتواجد أشجار الصنوبر على جانبي الطريق وتتساقط منها الحبَّات مع هبوب الريح، ولها نكهةٌ خاصة كأنَّك تتذوَّق الشمس والهواء والأرض.
– أنت هنا؟ خشيت ألَّا أجدَك.
– لا، لست هنا! أوَلا تراني أيُّها الأبله؟ كيف تسأل أنت هنا؟!
– هذا سؤال توكيد أيُّها الفَطِن ودلالة على موضوع مهم يقال بعده، ألم تقرأ قوله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ هل تظن أن الله لم يكن يعلم ما في يمينه حتى يسأله؟! لكنه أراد أن يخبرَ موسى عن المعجزة التي وضعها في العصا.
– وأنت أيَّة معجزةٍ تريد أن تخبرني بها؟
– أما والله إنها معجزة فتاةٍ لم أرَ مثل جمالها قط، لمحتها عدةَ مرات ووددت أن يتوقَّف الزمن عندها، لربما لن تصدقني إن أخبرتك بأن النظرة الأولى فقط كانت كافية بأن تملك فؤادي حتى شعرت بها تسري في عروقي وتسير إلى أطراف أصابعي وتداعبها كما يداعب النسيم أوراقَ الشجر.
– قد أوغلتَ ورب الكعبة، هيَّا أخبرني بنت مَن هي؟
– ليست من حارتنا، إنها من الحي الأرمني.
– مسيحية؟
– نعم، ما الضير في ذلك؟!
– لا ضير، لكنَّ قصص الحب مثل هذه لا تسير على ما يُرام، سترى الرفض حتى في منامك .. نصيحتي أن تجهضها في قلبك قبل أن تُولد.
نظر حسن في وجه هشام وظلَّ صامتًا وهو يفكِّر فيما قال عقله، فاستجاب للكلام واقتنع به، أما قلبه فكان كالمرأة التي تُبَشَّر بالحمل بعد سنوات طويلة من الانتظار، مَن يستطيع أن يقنعها بالإجهاض ولا حتى مجرد التفكير به؟! إنها مسألة مستحيلة.
– لا أدري ماذا أفعل، ثم إنني لا أعرف هل ستبادلني الشعور أم لا؟ وكيف لي أن أراها مجددًا وأتحدَّث معها، لا أعرف عنها سوى أنها حفيدة ذلك العجوز المزعج أرتين أو قريبته.
لكن دعنا من هذا الكلام، لديَّ عتبٌ عليك، كيف لك أن تخبِّئ عنِّي ما يقوم به والدك في الحي؟
– لم أُخبِّئ عنك شيئًا، كنتُ أحسب أنك تعلم ذلك، فكل أهل الحي يتكلمون بالأمر ويجلُّون ويحترمون أبي، ويقول بعضهم لو كان كل تجار القدس مثل أبي هشام، لَمَا بيع شبر لليهود .. لكن حتى اليهود أنفسهم قد اتخذوها تجارة، بعضهم يشتري من اليهود ويبيع لمن يدفع أكثرَ حتى وإن لم يكن الشاري يهوديًّا! هكذا يقول أبي وليس كلُّهم يهتم بما يشاع بين الناس بحلم دولتهم المزعومة، إنهم عبَّاد المال لا يهمهم غير المال، وأن يعيشوا إلى أرذل العمر، وأيُّ خطرٍ يهدِّد حياتهم أو مصالحهم التجارية تراهم يهربون كالفئران المذعورة، لكن ما يفعله أبي سأقوم به أنا أيضًا، لكن من جانبٍ آخر.
– ماذا تقصد ﺑ «من جانب آخر»؟
– سأنضم للمقاومة، هو يدافع عن الأرض بماله، وأنا أدافع عنها بنفسي ودمي.
شعر حسن بالخجل من نفسه ومن تفاهةِ ما يفكِّر به، هو يتكلَّم عن الحبِّ وفتاةٍ أُغرم بها، وصديقه يفكِّر بمستقبل الوطن والأرض ويفدي نفسه من أجلها، وتذكَّر حال والده الذي لا يهمه شيء سوى توفير قوتِ يومهم، ووالد هشام الذي يقدِّم ماله فداءً للوطن وللأرض، كانت مقارنةً أليمة غرزت في نفسه ألمًا عميقًا، وشعر أنه هو وأهله عديمو الفائدة ولا خير فيهم لوطنهم!
لم يستطِع حسن أن يكمل الحديث ويسأله كيف ينضمُّ إليهم، وأين سيتلقَّى التدريبات، وهل سيترك القدس أم يبقى فيها؟
كان شعوره بالتقصير وتألُّمه لذلك يحتِّم عليه عدمَ الخوض في الموضوع أكثرَ، فاتكأ على جذع الشجرة وأخرج من جيبه حبةَ صنوبر اشتمَّها قليلًا قبل أن يمضغها كي يخفِّف الوطء على نفسه ويعدل مزاجه قليلًا.
ومع كل هذا الشعور السيئ الذي اجتاحه، كانت صورة تلك الفتاة لا تفارق مخيِّلتَه وكأنها الداء والدواء، حبُّها تسبَّب له في ذلك الشعور السيئ بعد كلام هشام، وخيالُها مَن أخمده!