الفصل السابع

مدينة وان – تركيا ١٨٩٥م

كان سوق مقاطعة غاردن عبارة عن شارع طويل ومزدحم بالناس والباعة المتجولين الذين يتنافسون فيما بينهم برفع أصواتهم ترويجًا لتجارتهم .. أما الدكاكين فكانت متوزعة على طرفَي الطريق «العطارين والصفارين والبزازين والنجارين»، وكلُّ ما يحتاجه الناس هنا متوافر وبكثرة، بسبب موقع المدينة التي تعتبر مركزًا تجاريًّا لقوافل التجار التي تمر من خلالها في طريقها إلى بغداد والتي تبدأ من مدينة «باتوم» مرورًا ﺑ «يريفان» في أرمينيا الشرقية إلى «وان»، ومنها إلى جولميريك مرورًا من الموصل وصولًا إلى بغداد، وكذلك القوافل التي تمر منها إلى مدينة تبريز الإيرانية.

استيقظ أرتين على أصوات العربات التي تجرُّها البغال، انتبه إلى غريغور وبانوس كانا غارقين في نوم عميق، فتح شُباك الغرفة الخشبي المطل على السوق، كانت الشمس تُولد من خلف التلة شيئًا فشيئًا وتحيط بها هالة من اللون البرتقالي الممزوج بالأحمر وكأنها توحي إلى مخاضٍ عسير في السماء! كانت العربات المحمَّلة بالفواكه والخضراوات التي تأتي من القرى تدخل تِباعًا إلى السوق، وأصحاب الدكاكين يضعون بضاعتهم أمام الباب بقليل، والعجائز في المقهى الملاصق للخان يحتسون الشاي ويتبادلون الأحاديث.

في زحام السوق كان البحث عن طرَف خيطٍ يوصلهم إلى الثوار كمن يبحث عن إبرةٍ في كومة قش؛ فالثوار يعلِّقون البيانات الصادرة عن الحزب على الجدران في الليل، يحثُّون فيها الشبان الأرمن بالانضمام إليهم، ويتوعَّدون فيها بعض الأرمن المتعاونين مع الحكومة بالقتل، لكن البيان لأرمن المدينة الذين يعرفون بعضهم جيدًا، ويستطيعون الوصول إليهم بسهولة، أما الغريب عن المدينة فيصعب عليه ذلك؛ فهم لا يملكون مركزًا أمام أنظار الحكومة التي إن اعتقلت أحدهم، فقد ينتهي أمره في أحد سجون الآستانة أو حلب؛ فالوالي «بحري باشا» قد وضع أعينًا كثيرة على السوق بعدما تكرَّرت مشاهد الاغتيالات لبعض الضباط والجنود، وحتى بعض الأثرياء الذين يرفضون دفع الإتاوة للثوار.

– أرتين يبدو أن بقاءَنا هنا سيطول، وأن الانضمام إليهم ليس بالسهولة التي كنا نتوقَّعها؛ لذا أقترح أن تحاول أنت الوصول إليهم بأي طريقة كانت وتتفرغ لذلك، أما أنا وغريغور فنبحث عن عملٍ يعيننا على البقاء.

– بانوس: محقٌّ يا أرتين.

أومأ أرتين برأسه موافقًا وربَّت على كتف بانوس مبتسمًا، ثم وجَّه نظره نحو السوق الذي كان يعجُّ بالمارَّة، تأمَّل الوجوه، ثم قال بصوت مسموع: يا تُرى مَن مِن هؤلاء سيوصلنا إليهم؟

– أنت.

– أنا؟! لكنني لست منهم؟

– يجب أن تكون لنصل.

تفاجأ أرتين من عمقِ إجابة بانوس، فالتفت إلى غريغور: ألم أقل لك في القرية إننا سنكون بحاجةٍ إلى أفكاره كثيرًا.

– وأيُّ فكرة عظيمة هذه؟ كيف ستكون منهم، أخبرني؟

هل ستتزوج من إحدى بناتهم لتكون منهم؟ إنك تبالغ في مدحه يا أرتين.

– يا لك من أحمقَ يا غريغور! أنا قصدت أن يخالطهم، يجلس في المقهى، يحاول الاقتراب من أرمن المدينة، يكسب ودَّهم وثقتهم فيكشفون له الأسرار التي تُوصِّلنا إلى الثوار.

تنحنح غريغور وهو يحكُّ فروة رأسه بأصابعه الأربعة، وشعر أنه أحمقُ بالفعل، فأراد أن يغيِّر مجرى الحديث.

– ألا تشعرون بالجوع؟

ابتسم أرتين بوجه بانوس.

– هيا بنا.

•••

في أحدِ الأيام، وبينما أرتين كان جالسًا في المقهى قرب الخان، منشغلًا في تفكير عميق وقد تخلل اليأس إلى جوفه، وبدأ يفكِّر بالعودة إلى القرية؛ لأن البقاء في المدينة بات لا يُجدِي نفعًا، وأرمن مدينة وان حذِرون جدًّا مع الغرباء حتى لو كانوا أرمنًا مثلهم، ولا يخوضون في أحاديثهم عن الثوار وعملياتهم ضد العثمانيين ولا يتناقشون حول البيانات التي تصدر منهم وتُعلَّق على الجدران في الليل، الخوف يتملَّك الجميع والكل هنا يُبعِد الشبهات عن نفسه؛ فالأعين التي وضعها الوالي كثيرة، ومصير مَن يؤيدهم مجهول، والناس هنا لا يأبهون كثيرًا بما ينوي به أرتين ومن أجلِه ترك أهله وقريته، وفي خِضم هذه الأفكار سمع أصوات أشخاص يصيحون: «افتحوا الطريق، إنه موكب الوالي! افتحوا الطريق! هييه، أنت صاحب العربة، تنحَّ جانبًا، هيَّا افتحوا الطريق.»

توجَّه أرتين صوبَ مكان تجمُّع الناس ليلقي نظرةً على موكب الوالي كما يفعل الحاضرون؛ فعلى الرغم من ذَهابه مع أبيه المختار تلمكيان لزيارة الوالي عدة مرات، لكن لم يكن يُسمح له بمقابلته، فكان لديه فضول كبير لرؤية هذا الشخص الذي يبجِّله ويحترمه المختار كثيرًا.

كان الجنود يحيطون بموكب الوالي؛ أربعة جنود من المشاة على طرفَي العربة التي تُقِل الوالي، وفارسان على صهوةِ جواديهما أمام العربة، واثنان آخران خلفها .. كان الوالي «بحري باشا» ذو اللحية البيضاء والشارب الطويل المعقوف النهايتين جالسًا على مقعده في منتصف العربة، وقد لبِس رداءً أسودَ مزخرفًا بخيوطٍ ذهبية، وعلى رأسه «طربوش» أسود مزخرف أيضًا، وقد وضع يده اليمنى على اليسرى متكئًا على عكازه.

وأثناء مرور العربة من أمام أرتين كان الوالي يطلق ابتساماتٍ صغيرة للناس ويشير إليهم بيده وهم يهتفون باسمه وباسم السلطان، لكن فجأة سُمِع صوت طلقة نارية ثم أعقبها صوتٌ آخر، وآخر، فردَّت حمايةُ الوالي على المهاجمين، وتطايرت الطلقات من كل مكان. أخفض الجميع رءوسهم وهربوا باتجاهات مختلفة، حاول أرتين الهرب نحو الزقاق الذي يوصله إلى الخان من الباب الخلفي، لكنه انتبه إلى سطحِ أحد الدكاكين فرأى شخصًا ملثَّمًا بكوفيةٍ يحمل مسدسًا، أطلق رصاصةً ثم اختفى. شعر أرتين أن تلك فرصته الأخيرة للوصول إلى الثوار، لحِق به إلى الزقاق الخلفي للدكاكين، فرأى الملثَّم نفسَه يريد ركوب حصانه. أسرع أرتين خطاه وقفز خلفه فوق الحصان: انطلِق، أنا معكم في العملية.

فانطلق كالبرقِ بين الأزقَّة والأفرع الضيِّقة التي بدا أنه يعرفها جيدًا حتى وصلا خارج المدينة، فسأله أرتين: هل تمَّت العملية بنجاح؟

– لقد رأيت الوالي يسقط من العربة، أظن أن أحدنا قد أصابه.

– لكن ما الفائدة من قتْل الوالي؟

– إنها أوامر القيادة، لا أعرف السبب، عليَّ تنفيذ المهمة فقط.

ثم فجأةً أوقف الحصان وقفز إلى الأرض، وأوقع أرتين من على الحصان وانقضَّ عليه.

– كيف تقول لي أنا معكم في العملية وأنت لا تعلم أنها أوامر القيادة؟ هيَّا تكلَّم، مَن أنت؟!

– فُكَّ خناقي .. دعني أوضِّح لك.

أنا أرمنيٌّ مؤيد لكم وأريد الانضمام إليكم، تركت قريتنا منذ شهر وأتيت إلى «وان» من أجل ذلك، لكنني لا أعرف أحدًا يدُلني إليكم، صدقني أرجوك!

حاول أرتين كسْب ثقته، فتكلَّم معه بالأرمنية، وأقسم بالرب أنه صادق فيما يدَّعي.

– حسنًا سآخذك إلى القائد لينظر في أمرك، لا وقتَ لدينا للنقاش، هيا ننطلق.

مضيا كالبرق باتجاه الشرق حتى بلغا مشارفَ بلدة «أرجاك»، فنزع اللثام عن وجهه وخفَّف من سرعة الحصان إلى أن وصلا أحدَ البيوت التي تقع على أطراف البلدة. خرج مجموعة من الشبان أمامه وهم متشوِّقون لسماع الأخبار المفرحة.

– هل نجحت المهمة؟

– رأيت الوالي يسقط من عربته أرضًا، لقد أصيب بطلقة نارية، لكنني لستُ متأكدًا من مقتله.

استبشر الجميع بأنه قُتل، وبدا على وجوههم الفرح.

– وأين البقية الذين كانوا معك، ومَن هذا الغريب؟

– لا أدري أين هم، أنتم تعرفون منهجنا في مثل هذه العمليات نهاجم بمفردنا ونهرب بمفردنا، لكن هدف الجميع واحد، أما هذا الأرمني فخذوه إلى غرفة الضيافة وأنا سأخبركم بأمره بعد ذلك، دعوني أقابل القائد.

أخذه اثنان منهم إلى غرفةٍ صغيرة خلفَ الدار لا تبدو أنها غرفة ضيافة، غرفة مظلمة فيها فانوس صغير معلَّق خلف الباب والكثير من الحطب المقطَّع والمكدَّس فوق بعضه البعض في الزاوية البعيدة، وضعاه فيها وأغلقا الباب عليه، استغرب أرتين من تصرُّفاتهم الغريبة معه، شعر بالفرحِ المشوبِ بالخوف، فرحِ الوصول إليهم أخيرًا والخوف من عدم تصديقهم له.

بعد قرابة نصف ساعةٍ وضع أحدُهم أمامه خِوانًا فيه خبز وحَساء العدس وجَرة ماء، ثم خرج وأغلق الباب. رفع أرتين الجَرة على رأسه حتى ارتوى، ثمَّ أسند ظهره إلى الحائط فأغمض عينيه وصلَّى للرب بأن يصدقوه.

بعدها فُتح الباب فجأة، فإذا برجل طويل القامة ضخم الجثة عريض المنكبين دخل الغرفة وخلفه الملثم الذي هرب أرتين معه من وان، جلسا بالقرب منه، كانت ملامح الرجل قاسية وعيناه ثاقبتين ترى فيهما الشدةَ والغلظة دون أن ينطق بحرف.

دبَّ الخوف في قلب أرتين وشعر أنه في ورطة حقيقية، ثم بدأ الرجل بالكلام: لقد أخبرني «ديكران» عن الذي حصل بينكما، والآن أخبِرني عنك ابنُ مَن أنت؟ ومن أي قرية؟

– أنا من قرية «أنجرلك»، وأبي مختارُها «تلمكيان».

– تلمكيان والدك لديه علاقةٌ طيبة مع الوالي!

– أوَتعرفه؟

– نحن نعرف الجميع هنا.

– أبي يتنازل ويتقرَّب من الوالي لأجل أبناء قريته، للحفاظ على حياتهم من هجمات عصابات الحيدرانلي، وأنا تركتُ القرية لأجل الانضمام إليكم، في النهاية كلنا نريد حمايةَ أبناء جلدتنا من الأرمن.

انتصب واقفًا وأدار ظهره على أرتين، وخطا بخطواتٍ بطيئة نحو الحائط المقابل، كان يبدو عليه أنه يفكِّر بشيءٍ ما، وهو يمسح لحيته ويحكُّها بأصابعه، ظل صامتًا على هذا الحال والكل يترقَّب ما ينجم عن هذا الصمت المخيف، ثم أدار وجهه وقال: حسنًا، سأرسلك غدًا مع بعض رجالنا إلى «تبريز» لتهريب الأسلحة منها إلى مدينة وان. إن نجحت في إيصال الأسلحة إلى الثوار داخل المدينة فستنضم إلينا، وإن فشلت .. فستعود إلى قريتك، فما رأيك في هذا العرض؟

– موافق لكنْ لديَّ صديقان قد بقيا في «وان» ولا يعرفان عنِّي شيئًا، هل تسمح لي أن أذهب إليهما وأطمئنهما عني ثم أعود ونذهب إلى تبريز، أخشى أن يخبرا والدي وتعجُّ القرية بالخبر، لا أريدهم أن يقلقوا عليَّ.

– لن تذهب إلى «وان»، سنرسل إلى صديقَيك مَن يطمئنهما عنك، فقط أعطِ عنوانهما إلى «ديكران»، وهو سوف يتولَّى الأمر، أما أنت فتجهَّز للسفر غدًا.

وضع رأسه على الوسادة وبدأ يرحل بتفكيره بعيدًا إلى تبريز ورؤية الأسلحة والمهمة الأولى له في مسيرته النضالية، كان شعورًا لا يمكن وصفه بعدما يئس من الوصول إليهم، وكاد أن يعود إلى القرية حاملًا ذيول الخيبة .. تأمَّل سقف الغرفة والابتسامة تعلو جبهته منذ خروجهما وقال في نفسه: ليت المجنون غريغور والمتردد بانوس كانا معي في هذه المهمة لقضينا الطريق في المزاح والضَّحك ولم نشعر بالتعب.

•••

امتطوا الأحصنةَ وتوجَّهوا باتجاه الشمس عندما تكون في كبد السماء، مضوا قرابة الساعة على طريق «طرابزون-إيران» الذي يمرُّ من وان أيضًا، بعدها حادوا عن الطريق وتوجهوا صوب جبل «أرارات» الذي يفصل بين الدولة العثمانية وإيران (بلاد فارس)؛ الجبل الذي استقرَّت على قمَّته سفينةُ نبي الله نوح، كما جاء في أول سِفر من «أسفار العهد القديم».

كانت الطُّرق متعرِّجة، والوديان عميقة تغطيها الأشجار، وصوت خرير المياه العذبة يملأ المكان، توقَّفوا على حافة الوادي. انتبه أرتين إلى قائد المهمة كان يتفحَّص المكان وكأنه يبحث عن شيء لم يعرفه، ثم جرَّ لجام فرسه مبتعدًا، وقال: اتبعاني.

عند أسفل الوادي قرروا أخذَ استراحة بسيطة لتناول الغداء تحت ظل أشجار الجوز الكثيفة. كان أرتين مستمتعًا في تلك الرحلة وكأنه يعيش في حلمٍ لطالما تمنَّى أن يتحقَّق، لكن الغريب في الأمر أن الرجلين اللذين معه كانا قليلي الكلام ولا يتكلمان إلا للضرورة، ولم يسمع منهما غير: «سنسلك هذا الطريق»، «مِن هنا تستطيع الذَّهاب شمالًا حيث يأخذك إلى مدينة يريفان»، «الطريق وعِر على سفح الجبل، كن حذرًا عندما نصل هناك».

لم يتكلما إلا عن الطُّرق، وإلى أين يؤدي كلُّ واحد منها، وخطورة كل طريق .. وبينما هم على غفلةٍ من أسلحتهم حاصرتهم مجموعةٌ من الجنود، صاح القائد: العثمانيون!

وقبل أن يُخرِج مسدسَه من خَصره ضربه أحد الجنود بكعب بندقيته على قفاه فسقط مغشيًّا عليه، حاول أرتين الهرب، فصاح أحد الجنود: توقَّفْ وإلا أطلقت النار عليك!

قيَّدوا أيديهم وفتَّشوا عن أسلحةٍ بحوزتهم، وربطوا الأحصنة مع بعضها البعض بحبل طويل، ثم حملوا قائد المهمة ووضعوه فوق الحصان مستلقيًا على بطنه.

كانت الحادثة أكبرَ صدمة لأرتين في حياته، بقي مذهولًا بالذي حدث، في لحظة واحدة انقلب كلُّ شيء رأسًا على عقب! تساءل كيف حصل كل هذا في غفلةٍ منهم؟! وكيف لهم ألا يستطلعوا الطريق قبل إرسالنا في هذه المهمة! همس في أذن صديقه الذي كان يردفه على الحصان: ألم يستطلعوا الطريقَ قبل خروجنا؟

– لا أعتقد ذلك؛ لأن هذا الطريق مِن آمَنِ طرقِنا إلى تبريز .. سنوات عديدة نمرُّ من هنا ولم نصادف يومًا دوريةً واحدة!

– لكن كيف حصل ذلك؟!

– لربما بعد عملية البارحة على الوالي قد أتَوا بعساكرَ إضافيين من البلدات الأخرى بغيةَ البحث عن المنفِّذين.

كفُّوا عن الكلام! صاح أحد الجنود.

بعدها وصلوا إلى قريةٍ صغيرة على سفح الجبل من الجهة البعيدة عن المكان الذي تم إلقاء القبض عليهم فيه، أدخلوهم أحدَ البيوت هناك، كان لا يبدو عليه مركزًا للجيش العثماني. فكَّر أرتين في الأمر وقال: لربما لا يريدون كشْف مكانهم في هذه القرية النائية؛ فالمهرِّبون والعصابات العشائرية تكثر في مثل هذه المناطق. وضعوهم في غرفة صغيرة وأغلقوا الباب الحديدي عليهم.

كانت الغرفة باردة ومظلمة، فيها نافذة علوية صغيرة ورائحة رطوبة ثقيلة تملأ المكان، كتابات قديمة على الجدران تدُل على ذكرياتٍ أليمة لمن كان فيها. بعدها فُتح الباب فجأةً، دخل أحدهم وهو يحمل دلو ماءٍ باردٍ سكبه على وجه قائد المهمة، فصحا من غيبوبته وهو يشهق، ثم سحبه من يديه إلى الغرفة المجاورة.

كان صدى صراخه تحت التعذيب يرجُّ في قلب أرتين ويدبُّ الرعب فيه. تسلل الخوف إلى كل أرجاء جسده وبدأ يرتجف ويشهق من شدة الارتجاف، انتبه إلى صديقه فرآه ينظر إليه بنظراتٍ تملؤها الثقة، فخجِل من نفسه أرتين وأراد أن يستدرك الموقف: البرد قارس هنا.

هزَّ رأسه وأشاح بوجهه عن أرتين الذي كان يحاول بثَّ الشجاعة في نفسه: «مهما يكن فلن أعترف بشيء، إن اعترفت بمكانهم فسوف يخسر الأرمن مَن يدافعون عنهم، وأحمل عارَ هذه الخسارة طوال حياتي.»

وفي خِضم التحضير الذهني للتعذيب دُفِع الباب مرةً أخرى ورُمِي القائد إلى الغرفة وانقضَّ على أرتين اثنان منهم وأخذوه إلى غرفة التعذيب حتى إنه لم يستطِع الاطمئنان على القائد. نزعوا قميصه ثم قيَّدوا قدميه ويديه بسلاسلَ حديديةٍ مثبتة على الحائط، حتى شُلَّ عن الحركة، وقبل أن يسألوه شيئًا بدأ حامل السوط بالضرب على بطنه وصدره، كلما زاد الجلاد قوَّته في كل ضربة ارتفع صراخ أرتين أكثرَ فأكثر وكأن الصراخ هو المنْفذ الوحيد للألم. تدلَّى رأسه للأسفل من شدة التعذيب، فانتبه إلى آثار السياط على جسده الأبيض؛ خطوط مستقيمة حمراء داكنة كأنها أعواد خيزران منثورة على الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤