تذييل
إذا كان لديك إدراك شاذ مثل أ أو ب أو ﺟ … فما الذي يضمن ألا يكون كل إدراك لديك من نفس النمط؟
وهكذا نجد الشُّكاك والمثاليين يتخذون نقطة بدايتهم من تعديد أمثلة لحالات في الإدراك كحالة «انكسار العصا في الماء» أو «ازدواج الإبصار» أو الهلوسة … إلخ، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة المبدأ العام الذي يخضع له هذا النوع من الاستدلال، وهو المبدأ القائل: إن شذوذ — أو حتى خطأ — الإدراك في بعض حالاته يبرر الشك فيه كله أو تفسيره بطريقة مضادة للطريقة الواقعية «المألوفة»، فلزام على كل باحث في نظرية المعرفة أن يواجه هذه الحجج الأساسية، ويكون أمامه إما أن يقتنع بها، وينتهي إلى النتائج التي استخلصها منها الشُّكاك أو المثاليون، وإما أن يناقشها من حيث تفاصيلها ومن حيث مبدؤها العام الذي ترتكز عليه، وعندئذ يكون في ذلك أيضًا مناقشة للاستنتاجات الشكية والمثالية ذاتها.
والهدف من هذا المقال هو مناقشة حجة مألوفة من أمثلة «حالات الشذوذ» التي أشرنا إليها من قبل، هي حجة الأحلام، وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الحلم ظاهرة مألوفة إلى أبعد حد، وأن من الخطأ بالتالي إدراجها ضمن حالات الشذوذ، ولكن الواقع أن الحلم مألوف من حيث هو ظاهرة نفسية، أما من حيث هو طريقة من طرق الإدراك — على نحو ما يستخدمه الفلاسفة في حجتهم هذه — فهو حالة شاذة بالقياس إلى ما اصطلحنا على تسميته بإدراكنا في «حياة اليقظة».
فلنتتبع إذن أمثلة لتلك الحجة التي يهيب فيها الفيلسوف بإدراكنا في الحلم لكي يؤكد أن كل إدراك لنا — بوجه عام — مشكوك فيه، أو أنه ذو طابع ذاتي، لا يتناول «عالمًا موضوعيًّا» على نحو ما نعتقد في «واقعيتنا الساذجة»، وليس هدفنا هنا هو أن نقدم بحثًا «استقرائيًّا» شاملًا لطريقة عرض الفلاسفة لهذه الحجة، بل سنختار بعضًا من أوضح الأمثلة على سبيل النماذج فحسب؛ لكي ننتهي آخر الأمر إلى إصدار حكم على قيمة هذه الحجة بوصفها جزءًا من الاستدلال الشكي أو المثالي في نظرية المعرفة.
- (١)
التشكيك — ولو مؤقتًا — في حقيقة العالم المسمى، في النظرة المعتادة، باسم العالم الموضوعي.
- (٢)
نقد الإدراك الحسي.
- (٣)
تأكيد مثالية العالم.
•••
وأوضح حالة تتمثل فيها المرحلة الأولى لحجة الأحلام هي حالة ديكارت، ومن المعروف أن ديكارت قد اتخذ موقف الشك التام وسيلة للوصول إلى نقطة ارتكاز ثابتة يبدأ منها التفلسف على أساس لا يتزعزع، وهنا كان دور حجة الأحلام في الشك الديكارتي أساسيًّا.
وينبغي في بداية مناقشة أي حجة متعلقة بالشك الديكارتي أن نوضح مسألة على جانب كبير من الأهمية؛ ذلك لأن من الممكن الاعتراض بأن مرحلة الشك عند ديكارت كانت بأسرها مرحلة افتراضية، ممهِّدة لمرحلة أخرى من اليقين، وأن ما يتقدم به ديكارت من الحجج في هذه المرحلة لا ينبغي أن يُنْظَر إليه حسب قيمته الظاهرة، وإنما على أنه فرض مبالغ فيه، ولا هدف منه إلا هدم جميع المعتقدات المتلقاة لكي يبدأ بداية جديدة تمامًا، على أن هذا الاعتراض يجب استبعاده؛ إذ لا بد أن ديكارت قد وجد أساسًا للحجج التي عرضها في مرحلة الشك، وإلا لما عرضها أصلًا، ويجب أن نتوقع منه تقديم حساب عن هذه الحجج؛ إذ لا بد أنه وجد فيها نوعًا من الصحة بحيث أدت بالفعل إلى تبرير شكوكه في العالم.
ولقد كانت حجة الأحلام ممتازة بوصفها وسيلة تبرر الشك؛ إذ إن من أقوى الأسباب التي يرجع إليها الاعتقاد «الساذج» بأن إدراكاتنا تسببها «أشياء» موجودة بالفعل في عالم واقعي حدوث هذه الإدراكات رغمًا عن إرادتنا، وهذه اللاإرادية في فئة معينة من الإدراكات سلاح قوي جدًّا في يد الواقعي؛ إذ إنه يستطيع دائمًا أن يحرج المثالي غير الدقيق بقوله: إذا كان العالم ذاتيًّا كما تقول، فما هو الفارق بين تمثلي لأفكاري الخاصة وتمثلي للموضوعات الخارجية؟ ولماذا أستطيع أن أنتج الأولى بإرادتي بينما الثانية تفرض نفسها فرضًا عليَّ، ولا تحدث إلا إذا توافرت شروط معينة لا أستطيع التحكم فيها بنفسي؟ لا بد أن للأولى مصدرًا ذا طبيعة مغايرة تمامًا لمصدر الثانية، وهنا يكون أفضل رد للمثالي هو أن يشير إلى ظاهرة الأحلام التي هي بدورها لا إرادية، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إن محتوياتها مطابقة لموضوعات فعلية في العالم الخارجي، وهذا بالفعل ما يلجأ إليه ديكارت في «التأمل الثالث»، ففي ظاهرة الأحلام مثال واضح لإدراكات يتعلق الكثير منها بموضوعات خارجية، وتحدث رغمًا عن إرادة الإنسان، ومع ذلك فمصدرها ليس الأشياء الخارجية.
من الواضح إذن أن الوسيلة التي يراها ديكارت كفيلة باستعادة ثقته بالعالم، وللتمكن من التمييز بين عالم اليقظة وعالم الأحلام، هي (اتساق) أفكارنا الخاصة بالعالم الواقعي أو عالم اليقظة وعدم وجود تنافر بينها، وهنا ينبغي أن نتساءل: هل يُعد هذا ردًّا مقنعًا على الشك الكامل الذي أثاره ديكارت في البداية؟ الواقع أن شكه كان أقوى من أن تبدده فكرة الاتساق هذه؛ إذ إنه — في حالة الشك هذه — كان خليقًا بأن يقول: إن أحلامه كثيرًا ما تتبدى له تامة الاتساق، وأي فارق بينها وبين اليقظة في هذا الصدد سيكون فارقًا في الدرجة فحسب، بحيث لا بد أن توجد حالات يعجز فيها المرء عن إيجاد تفرقة قاطعة بين العالمين من خلال فكرة الاتساق وحدها.
وفضلًا عن ذلك، فإن كان الاتساق كافيًا لتبديد هذه الشكوك، فما الذي منع ديكارت من استنتاج وجود هذا الاتساق منذ البداية، فلا يبقى لشكه أي أثر منذ بداية الأمر؟ إن ديكارت — كما هو واضح — لم يستنتجه من شيء، فلا بد إذن أن نفترض أنه يقول بالاتساق بعد أن هدأت نفسه عندما توصل إلى فكرة الله؛ إذ تأكد عندئذ أن العالم ليس فوضى، وأنه أهل للثقة، وفي ضوء هذه الثقة وحدها يمكننا أن نبرر اكتفاءه بفكرة اتساق اليقظة لتبديد شكوك كانت — بلا شك — أقوى من أن تُبدَّد بهذه السهولة.
أما من الوجهة المنطقية الخالصة، فلم يكن ديكارت محتاجًا إلى هذه الرحلة الطويلة التي انتقل فيها من الشك إلى اليقين؛ لأنه لم يستنتج منها منطقيًّا شيئًا في هذا الصدد؛ إذ إن فكرة الاتساق ليست في حاجة إلى الكوجيتو أو فكرة الله، هذا إلى أن آخر ما ينتهي إليه في التأملات ما زال نوعًا من الشك أو عدم الثقة في معرفة الإنسان، التي ظل إلى النهاية يعدها ضعيفة هشة معرضة للخطأ.
ففائدة هذه المرحلة المتوسطة إذن لم تكن منطقية، وإنما هي — في رأينا — «نفسية»، وديكارت كان محتاجًا إلى دعامة نفسية يستعيد بها ثقته في العالم، وكان يكفيه أن يجد هذه الدعامة في فكرة الله؛ لكي تصطبغ كل الأشياء بصبغة جديدة، ويصبح أكثر استعدادًا للاقتناع بأفكار كانت هي ذاتها غير قادرة على تبديد الشك في بداية الأمر.
•••
وإذا كان الوجه الأول للحجة يتعلق بالشك في إدراكنا الخارجي، فإن الوجه الثاني يتعلق بالشك في طريقتنا أو وسيلتنا إلى هذا الإدراك، ولا شك أن بين الأمرين ارتباطًا وثيقًا: فإذا وصل بنا الأمر إلى حد توجيه السؤال: أليس من الجائز أن يكون إدراكنا للعالم الخارجي مجرد إدراك ذاتي، ما دمنا في حالة الأحلام نمارس مدركات تبدو لنا خارجية، ولا تتوقف بالفعل على إرادتنا، ومع ذلك فنحن على يقين من أن مصدرها ليس هو الأشياء الخارجية؟ إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فمن الطبيعي أن يتضمن هذا الشك شكًّا آخر في وسيلتنا إلى إدراك هذا العالم؛ إذ إن هذه الوسيلة تؤكد لنا أنه خارجي، بينما (قد يكون) هذا العالم — كما رأينا الآن — داخليًّا بحتًا.
واستخدام حجة الأحلام للشك في المعرفة الحسية قديم مألوف في تاريخ الفلسفة، وإذا كان ديكارت قد جعل هذه الحجة كلاسيكية في كتاباته، فإنه لم يكن على الإطلاق أول مَنْ تنبه إليها، فمنذ أفلاطون استُخْدِمَت الحجة وسيلة للطعن في صحة المعرفة الحسية ذاتها إلى جانب العالم الحسي، ويتمثل الارتباط بين الوجه الأول والوجه الثاني لحجة الأحلام بوضوح في قول أفلاطون في «تيتاتوس»:
وبغض النظر عن قيمة الحجة التي يقدمها أفلاطون، والتي تناولتها المثالية من بعده وعرضتها بصور شتى، فلنلاحظ هنا — على الأقل — أن عرضه لم يكن موفقًا تمامًا؛ إذ إنه بعد تقسيمه الحياة ﺑ «التساوي» إلى نوم ويقظة، يفترض أن الأحلام تحتل كل هذا النصف المسمى بالنوم، ورغم أن الفارق بين ما يقول به أفلاطون وبين ما يحدث في الواقع — حيث لا يمثل النوم «نصف» وقتنا، ولا تشغل الأحلام من النوم إلا وقتًا ضئيلًا — فارق في الكم فحسب، فلا جدال في أن قيمة حجة الأحلام كانت تعلو كثيرًا لو كان وقت الإنسان مقسمًا بالتساوي بين نصفين يمتلئ أحدهما بإدراكات يسميها «يقظة» والآخر بإدراكات يسميها «حلمًا»، غير أن المسألة — لحسن الحظ — ليست معقدة إلى هذا الحد، ولا جدال أنه حتى مع افتراض حالة الشك فإن حياة اليقظة مرجحة — كميًّا على الأقل — على حياة الأحلام بدرجة كبيرة.
ولو اختبرنا عن كثب هذا النقد الذي يُوجَّه إلى الإدراك الحسي عن طريق حجة الأحلام لوجدنا أنه حتى لو صح، فلا يمكن أن يُعَدَّ اعتراضًا على صحة المعرفة بالحواس، فكل ما يؤدي إليه هذا النقد الذي لم يكن أفلاطون إلا الحلقة الأولى من سلسلة طويلة من موجهيه، هو أننا لا نستطيع أحيانًا أن نتأكد إن كانت تجربتنا حسية أم لا، أي إن إدراكنا الحسي يصعب تمييزه بصفة قاطعة من إدراكنا غير الحسي في الأحلام، بحيث لا يستطيع المرء أن يجد معيارًا دقيقًا يحدد به أيهما هذا وأيهما ذاك، وبعبارة أخرى: فإذا استطعنا أن نهتدي إلى طريقة نميز بها دائمًا بين الإدراك الحسي وبين الأحلام، فسوف تكون مهمة هذا النقد قد انتهت، وينتهي الإشكال بالنسبة إليه، فدور هذا الوجه من حجة الأحلام ينحصر إذن في التشكيك في إمكان التفرقة بين الإدراك الحسي وإدراك الأحلام، ولكنه ليس على الإطلاق تفنيدًا للإدراك الحسي ذاته، بل إنه لا يمسه على الإطلاق، ومن الممكن جدًّا أن يكون الإنسان مؤمنًا كل الإيمان بأن الإدراك الحسي يلعب الدور الأهم في المعرفة — على عكس ما كان يعتقد أفلاطون — ويظل مع ذلك يشكو من وجود ذلك النوع الآخر من الإدراك الذي يشككنا في أصالة إدراكنا الحسي، فليس مما يحط من قدر الإدراك الحسي في ذاته أبدًا أن يكون هناك نوع آخر من الإدراك يشبهه إلى حد يجعل الأمر بينهما مختلطًا على ذهن الإنسان.
ولنضرب لذلك مثلًا: فإذا كان لديك عدد من العملات بعضها زائف وبعضها من الذهب الخالص، دون أن يمكنك التمييز بينهما على نحو قاطع، فسوف تشك في قيمة أية واحدة منها إن حاولت تداولها، غير أن مثل هذا الشك لا يعدو أن يكون عجزًا عن التفرقة بين الصحيح والمزيف، ومن المحال أن ينطوي على أي تشكيك في قيمة الذهب ذاته، بل إنك لو تمكنت من فصله من غيره على نحو قاطع — بحيث تستخرجه نقيًّا — فلن يعود شكك الأول منصبًّا عليه.
•••
والوجه الأخير والأكمل لحجة الأحلام هو ذلك الذي تغدو فيه الحجة عنصرًا إيجابيًّا مكملًا للرأي المثالي في نظرية المعرفة، وهذا الوجه بدوره لا يمكن فصله بحال عن الأوجه السابقة، التي تُعد في الواقع تمهيدًا ضروريًّا؛ إذ إن حجة الأحلام إن كانت تؤدي إلى شكنا في الموضوعات الخارجية وإلى «نقد» المعرفة الحسية، فإن الخطوة الطبيعية التي تلي ذلك هي القول إيجابيًّا بمثالية المعرفة، والوسيلة التي تُسْتَخْدَم بها حجة الأحكام لإثبات مثالية المعرفة، هي القول إيجابيًّا بأن عالم الأحلام لا يتميز بالفعل عن عالم الواقع، فهنا يستخدم المثالي حجة الأحلام لا بوصفها تعبيرًا عن مرحلة من الشك سرعان ما يتجاوزها، بل بوصفها حجة قائمة عنيدة لا يمكن التخلص منها، وتؤدي بالفعل إلى نوع من محو التفرقة بين عالم اليقظة وعالم الأحلام.
ففي فلسفة باركلي تلعب هذه الحجة دورًا هامًّا؛ لأنها في نظره دليل «إيجابي» على إمكان وجود إدراكات لا تقابلها أجسام خارجية.
هنا إذن تُسْتَخْدَم حجة الأحلام لإثبات أن «افتراض وجود الأجسام الخارجية ليس ضروريًّا لإحداث أفكارنا»، وهو — كما نرى — هدف يتجاوز الهدفين السابقين؛ إذ إنه ليس مجرد «شك» عابر في وجود العالم الخارجي أو نقد لدور إدراكنا الحسي في المعرفة، بل هو النتيجة الضرورية التي يستخلصها المثالي من هذه القضايا السابقة.
والسؤال الذي لا تتضمن فلسفة باركلي ردًّا صريحًا عليه هو: إذا كان التماثل في ترتيب أفكار الأحلام وترتيبها في عالم اليقظة يؤدي إلى القول بأن أفكارنا لا تحتاج في حدوثها إلى موضوعات خارجية، فعلى أي نحو نستطيع أن نميز بين ما نراه في الأحلام وما يحدث في اليقظة؟ ولا شك أنه يكاد يكون من المستحيل — إذا سلَّم المرء بجميع استنتاجات باركلي — أن يهتدي إلى معيار قاطع ومن المؤكد أنه هو ذاته، بعد أن استخدم الحجة على هذا النحو، لم يحاول تقديم هذا المعيار، وترك الأمر معلقًا عند هذا الحد.
وهكذا تُعد المثالية النقدية عند كانت تقدمًا على مثالية باركلي الأقرب إلى السذاجة، إذ إن كانت على الأقل أكثر شعورًا بما يمكن أن تؤدي إليه المثالية — في إنكارها وجود الموضوع الخارجي — من عجز عن التفرقة بين عالم اليقظة وعالم الأحلام.
هكذا يبدو أن المعيار الذي أتى به كانت قد أخفق، وهنا لا يجد الفيلسوف المثالي مفرًّا من الاعتراف بعجزه عن إيجاد تفرقة قاطعة بين المجالين؛ ذلك لأنه ينكر من جهة أن تكون الإدراكات ناتجة عن موضوع خارجي مستقل عن الذات، ومن جهة أخرى يضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، وهو أن الأحلام بدورها ليس لها مصدر خارجي.
وهنا تصل حجة الأحلام إلى قمة فعاليتها؛ إذ تثير هذا السؤال الخطير: أليس من الجائز أن تكون حياتنا بأسرها حلمًا متصلًا؟ والأهم من ذلك أن السؤال لا يُثار — في هذه المرحلة — على مستوى الشك المؤقت أو المنهجي، بل يُثار بوصفه احتمالًا جديًّا لا يستطيع المثالي بوسائله الخاصة أن يستبعده تمامًا، وإذ تتخذ الحجة هذا الوجه الهام فإنها تغدو أيضًا أداة في يد المثالي لها خطرها الكبير عليه؛ إذ إن إخفاقه في التمييز بين الحلم والواقع هو في الوقت ذاته حكم على مذهبه كله بالإخفاق.
ونستطيع أن نقول: إن هذه النتيجة لحجة الأحلام لا تتعلق بفيلسوف بعينه أو بفترة خاصة من فترات التفكير الفلسفي، وإنما هي في الواقع نتيجة كامنة في طبيعة الموقف المثالي ذاته، الذي أعني به، عمومًا، موقفًا ينكر استقلال الأشياء الخارجية — إما في وجودها أو في صورتها المدركة على الأقل — عن الذاتية المدركة، ويرد هذا الوجود أو هذه الصورة المدركة إلى وجه من أوجه الذاتية، ونستطيع أن نقول بوجه عام: «إن التمييز المنطقي بين الأحلام وحالة اليقظة يغدو أصعب كلما ازداد الفيلسوف تمسكًا بالمبادئ المثالية»، فالنظر إلى الحياة على أنها حلم متصل، هي إمكانية قائمة على الدوام في التفكير المثالي الأصيل.
ومن الأدلة على ذلك أن هذه الإمكانية تظهر لدى أقدم ممثلي التفكير المثالي وأحدثهم عهدًا.
فلنتأمل قليلًا مغزى «أسطورة الكهف» عند أفلاطون، إنها لا تعدو — في واقع الأمر — أن تكون تعبيرًا مجازيًّا عن هذه الفكرة ذاتها، أعني فكرة «العالم بوصفه حلمًا متصلًا أو شاملًا»، فهنا توصف حياة الإنسان في هذا العالم بأنها خداع، ومعرفته بأنها معرفة ظلال فحسب، وإن التقابل بين حالة الوجود في الكهف، وبين حالة تأمل الضوء «الحقيقي» ورؤية الأشياء وقد أنارتها «الشمس الحقيقية»، إنما هو موازٍ تمامًا للتقابل بين الحلم واليقظة، فهنا يحمل أفلاطون على معرفة الإنسان في هذا العالم بأسرها، لا على لحظات أو نواحٍ معينة في هذه المعرفة، ويثير صراحةً إمكانية كون حياة الإنسان في هذا العالم خداعًا أو حلمًا متصلًا.
وفي الطرف الآخر من تاريخ الفكر الفلسفي، يجد المرء أمثلة عديدة لمفكرين معاصرين أو قريبي العهد لم يسعهم إلا أن يأخذوا مأخذ الجد تلك الفكرة القائلة باحتمال كون الحياة حلمًا متصلًا.
•••
- (١)
ففي الوجه الأول لهذه الحجة، أعني ذلك الذي تؤدي فيه إلى الشك في وجود عالم خارجي، تفترض الحجة مقدمًا وجود سبب «داخلي أو باطن» للأحلام، وهكذا، ففي وسط كل ذلك الشك الشامل الذي عرض به فيلسوف مثل ديكارت حجة الأحلام في أول أوجهها، يتقرر شيء ما — وأعني به المصدر الداخلي للأحلام — بطريقة توكيدية جازمة، فإذا كان من الأمور اليقينية أن مصدر الأحلام داخلي، فلا شك في أن هذه الفكرة اليقينية تجر وراءها حتمًا أفكارًا يقينية أخرى، فكيف علمنا أن هذا المصدر «داخلي»؟ إن معرفة ما هو داخلي تفترض مقدمًا معرفة ما هو «خارجي»، ومن المستحيل على المرء أن يؤكد أن فئة معينة من إدراكاته لها مصدر داخلي إلا إذا افترض مقدمًا أن فئة أخرى منها لها مصدر خارجي، ومجرد كون المرء قادرًا على أن يجزم عن مصدر الأحلام على هذا النحو من اليقين، يعني أن هذه الأحلام مميزة عن إدراكات أخرى بصفة خاصة بها، وهذا يتضمن القول بأن لهذه الإدراكات الأخرى طبيعة مقابلة، أي خارجية.
- (٢) والوجه الثاني للحجة، أي ذلك الذي يؤدي فيه إلى نقد للإدراك الحسي من حيث هو مصدر للمعرفة، يهدم نفسه بنفسه، فمثل هذا النقد يتضمن — بطبيعة الحال — القول بأن المعرفة المستمدة من الذهن — لا من الحواس — صحيحة، ولو سلَّم المرء بذلك لكان عليه أن يفترض أن الأحلام — بوصفها ظواهر ذهنية — ينبغي أن تكون أدق من الإدراكات الحسية، على حين أنها في واقع الأمر حافلة بالتناقض، هذا التفنيد ينبغي أن يُرَدَّ إلى «لوك»، وإن كان قد أتى به في سياق مخالف،١٥ والواقع أن هذا الوجه من الحجة يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مضادة تمامًا لما تقول به الحجة ذاتها، فمن الممكن أن يُقال: إن تناقض الأحلام دليل على الخلط والاضطراب الذي ينتج كلما فقد الذهن صلته بالعالم الخارجي ولم يستعن بالحواس في إدراكه.
- (٣)
أما الوجه الثالث لحجة الأحلام، وهو الوجه الذي تغدو فيه الحجة جزءًا لا يتجزأ من النظرة المثالية الذاتية إلى العالم، ويعجز فيه الفيلسوف عن إيجاد تمييز قاطع بين الحلم واليقظة، أما هذا الوجه فلا يفيد فيه أي تفنيد نفساني، فمن العبث أن يؤكد المرء أن حالة اليقظة أوضح وأكثر حيوية من الحلم، أو أن من الممكن — عن طريق الاختبار الواعي — التمييز بين ما هو حلم وما هو يقظة، على أساس أن اليقظة وحدها هي التي تصمد لهذا الاختبار؛ ذلك لأنه سيظل من الممكن دائمًا الإتيان بأمثلة لأحلام لا تقل حيوية ووضوحًا عن أي حادث يمر بنا أثناء اليقظة، أما الاختبار الواعي لحياة اليقظة، فلا يمكن أن يحدث إلا بالنسبة إلى «اللحظة الحاضرة» في هذه الحياة، ومن المحال أن يُطَبَّق على حادث مضى لكي ندرك أن ذلك الحادث كان حلمًا أم حقيقة.
أما معيار الارتباط العلي — كما قال به كانت — فلا شك في أنه معيار سليم، بشرط أن يسبقه تفنيد منطقي لفكرة «الحلم المتصل»؛ ذلك لأن الاعتراض الجدي الوحيد على المعيار الذي وضعه كانت، هو ذلك الاعتراض الذي يثير إمكانية كون الحياة بأسرها حلمًا طويلًا متصلًا، فإذا أمكن استبعاد هذا الاحتمال منطقيًّا، أي إذا ثبت منطقيًّا أن الأحلام تقترن دائمًا بواقع ولا يمكن أن تكون شاملة أو تشغل وحدها حياة الإنسان، فعندئذ يغدو معيار كانت — وهو معيار الارتباط العلي — هو الأصلح في التمييز بين هذين الوجهين للحياة بعد أن يثبت ضرورة وجودهما معًا.
- (١) وتظهر لدى لوك — مرة أخرى — وسيلة من وسائل تفنيد هذا الوجه للحجة، فإذا كان كل ما حولنا حلمًا طويلًا، فعندئذ تغدو المعرفة والحقيقة مستحيلة، بل إن نفس الشك الذي يعرب عنه من يثير هذا الاحتمال يكون عندئذ حلمًا، وبالتالي شيئًا لا يعوَّل عليه.١٦
- (٢)
وهناك احتمال آخر مضاد لم يُشِرْ إليه أحد من قبل، وإن لم يكن أقل إمكانًا من الاحتمال القائل بأن كل شيء قد يكون حلمًا، فلماذا لا نقول — على العكس من ذلك — أن الحياة بأسرها، وضمنها الأحلام، هي سلسلة متصلة من الحوادث «الحقيقية»؟ ولنفرض أنني حلمت بأني أرى رجلًا ذا رأسين، فهل هناك استحالة منطقية في القول بأنني رأيت «بالفعل» رجلًا كهذا؟ إننا على استعداد للتسليم بجميع الحجج المؤيدة للرأي المضاد: أعني القول باستحالة وجود تمييز منطقي بين الأحلام واليقظة، وبأن الحلم قد تكون له نفس حيوية أية تجربة «حقيقية» … إلخ، كل هذه الحجج يمكن أن تُسْتَخْدَم — في الواقع — لتأييد الرأي المضاد، القائل: إن كل ما يحدث في الأحلام قد يكون «حقيقيًّا» شأنه شأن أي شيء آخر، أما عن امتناع هذا القول الأخير، فلست أظنه أكثر امتناعًا من الفرض القائل أن كل شيء قد يكون حلمًا.
وهكذا فإن نفس المقدمات التي تؤدي إلى فكرة «الحلم الشامل» يمكن أن تؤدي أيضًا إلى نتيجة مضادة تمامًا هي «انعدام الحلم» أو «الحقيقة الشاملة»، فإذا ما وجه المثالي بهذا الاحتمال المضاد، فسوف يضطر هو ذاته إلى البحث عن وسيلة للتمييز بين الحلم وبين حياة اليقظة، وبذلك يتخلى عن فكرة الحلم الشامل.
- (٣)
والتفنيد المنطقي الحاسم للفكرة القائلة إن الحياة قد تكون حلمًا متصلًا، أو إنه ليس ثمت تمييز قاطع بين الحلم والواقع، هو أن لفظي الحلم والواقع أو اليقظة لفظان متضايفان لا يتصور أحدهما دون الآخر، فمن المستحيل «لغويًّا» الكلام عن حلم بلا واقع، ونفس معنى لفظ «الحلم» مستمد من تقابله مع الواقع، ومن المحال تصور الحلم إلا مغلفًا بالواقع ومحاطًا به.
هذه هي الحقيقة البسيطة التي غابت على «مناطقة» مثل برتراند رسل، فإذا كانت تؤدي بنا إلى استرداد ثقتنا بالعالم — الذي «لا يمكن» أن يكون حلمًا متصلًا — فعندئذ يمكن استخدام معيار الارتباط العلي «بعد» استبعاد إمكانية كون العالم حلمًا شاملًا.
وينبغي أن نذكر ها هنا أن هذا التفنيد المنطقي لا يقتصر أثره على حجة الأحلام وحدها، بل إنه ينطبق على أية حجج تثير إمكانية وجود خداع شامل في المعرفة البشرية، فالتعبير «خداع شامل» شأنه شأن التعبير «حلم متصل» هو تناقض في الألفاظ، ومجرد كوني أستطيع التحدث عن حلم أو خداع، يعني أن لديَّ المعيار الذي أميزهما به بما هما كذلك، وكوني أدرك الخداع على أنه خداع، أو الحلم على أنه حلم، يعني أن في وسعي تجاوز حالة الخداع أو الحلم، وهذا — في ذاته — تفنيد للحجة.
وهكذا فإن ظاهرة الإدراك في حلم أو الإدراك الخادع ينبغي أن تُسْتَخْدَم، لا من أجل نقد المعرفة البشرية أو التشكيك فيها، بل من أجل دعمها وتأييدها، طالما أن الكلام عن الحلم أو الخداع يفترض مقدمًا وجود الواقع والحقيقة، ومعنى ذلك أن على الفيلسوف — حتى قبل أن يتجاوز مرحلة الشك، وحتى قبل أن يصل إلى نقطة بداية يعدها ثابتة راسخة كالكوجيتو — أن يرفض مقدمًا إمكانية كون العالم حلمًا متصلًا؛ إذ إن المنطق المجرد يحتم عليه بالأحرى أن يقول: الخداع موجود «إذن» فالحقيقة موجودة، أو أنا أحلم «إذن» فالواقع موجود.