الموقف الطبيعي والعلم
أوضح ما يميز الموقف الطبيعي هو أنه لا يضع مشكلة وجود العالم الخارجي موضع التساؤل، بل «يطرح جانبًا» التفكير في احتمال عدم وجود العالم وما فيه من «أشياء»، وهذا الموقف ليس «ساذجًا» بالضرورة؛ إذ إن صفة السذاجة مرتبطة بنوع من الجهل أو «الغفلة»، في حين أن كل إنسان — حتى الفلاسفة والعلماء — يشارك في هذا الموقف في تصرفاته العملية.
ومن جهة أخرى، فإن وصف هذا الموقف ﺑ «السذاجة» يغفل احتمالًا آخر على جانب عظيم من الأهمية: فربما كان هذا الموقف هو الوحيد الذي يضمن للإنسان علاقة متسقة مع العالم الخارجي، وربما كان هو الحل الوحيد الذي يقتضيه سلوكنا في هذا العالم، في حين أن المواقف المضادة له — أي المثالية — إما أن تنتهي إلى إخفاق، أو تتوقف عند نقطة لا يمكنها المضي إلى ما بعدها، فتنتهي إلى نوع من اللا أدرية التي لا تحل أي إشكال، وبالاختصار فهناك دائمًا احتمال في أن يكون الحل الوحيد لمشكلة العالم الخارجي منتميًا إلى المجال العملي، بعد أن يثبت عقم المحاولات «النظرية» للتشكيك في هذا العالم أو إنكاره، وطالما أن هذا الاحتمال قائم، فمن الخطأ وصف هذا الموقف بالسذاجة، بل إن الموقف المضاد قد يكون هو المفرط في التحليل والنقد بلا جدوى.
وأغلب الظن أن الموقف الطبيعي قد وُصِفَ بالسذاجة نتيجة لتلك الحالات التي يبدو فيها أن تقدم العلم البشري قد حتَّم الخروج عنه، مثال ذلك أن علماء الفلك لو كانوا قد التزموا هذا الموقف لما وصلوا إلى فكرة دوران الأرض حول الشمس؛ إذ إننا نعتقد — في موقفنا الطبيعي — أن الأرض هي الثابتة، وهكذا نجد أن تعريف الموقف الطبيعي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديد علاقته بالعلم أو بالموقف العلمي على الأصح، وسنحاول هنا أن نثبت أنه حتى لو وُجِدَت تجارب أو كشوف علمية تبدو مخالفة للموقف الطبيعي، فإن هذا يرجع إلى اختلاف وظيفة الموقفين الطبيعي والعلمي، واختلاف الغرض من تجربة الإنسان في كلٍّ منهما.
فالموقف الطبيعي عملي وحيوي (بيولوجي) في المحل الأول، إنه ليس موقفًا تحليليًّا أو نقديًّا نحاول فيه إرجاع الظواهر إلى أصلها أو كشف عللها، وإنما يتعلق هذا الموقف بسلوكنا العملي في هذا العالم، وهو يعبر عن استعداد طبيعي فينا لا يختلف كثيرًا عن استعدادنا للأكل والشرب والنوم، بل إنه هو الذي يجعل هذه الاستعدادات الطبيعية الأخرى ممكنة، ومن المؤكد أن ذلك النزوع الطبيعي لدى جميع البشر إلى النظر إلى العالم على أنه ينطوي على «أشياء» خارجة عنا، راجع إلى أن هذه النظرة هي الوحيدة التي تيسر لنا سلوكنا العملي، وعندما نقول: إنها تيسر لنا السلوك العملي، فليس في ذهننا أية فكرة برجماتية عن إثبات صحة الموقف الطبيعي ﻟ «نجاحه» في المجال العملي، بل إن ما نقصده أبعد من هذا بكثير؛ فنظرة الإنسان الطبيعية إلى العالم — وهي التي يعده فيها مكونًا من أشياء خارجية مستقلة عنه — أعمق تأصلًا في الإنسان من أن تعد مرتبطة بمجرد «النجاح» أو «الصلاحية»، وإنما نحن هنا إزاء ظاهرة لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها «محدودة» بأي معنى من المعاني، ولا أظن أن أحدًا من الباحثين قد صادف حالة ينظر فيها الإنسان «عمليًّا» إلى العالم على أنه غير مكون من أشياء خارجية مستقلة عنه، أعني حالة يعالج فيها شخص «النار» مثلًا — من الناحية العملية — على أنها مجرد فكرة ذاتية في رأسه، وصحيح أننا سمعنا عن حالات كثيرة لأشخاص ألقوا بأنفسهم عمدًا في النار، ولكني لا أظن أن أحدهم — طالما كان من العقلاء — قد فعل ذلك لاعتقاده بأن النار مجرد فكرة في رأسه، وبالتالي لن تؤذيه! وإن النتيجة المحزنة التي ينتهي إليها أي فعل عملي كهذا — لو حدث — لتدل على شيء واحد: هو أننا في حياتنا العملية اليومية لا نستطيع أن نسلك إلا على أساس هذا الموقف الطبيعي.
لو كانت لنا حواس تبلغ من الحدة ما يمكِّنها من إدراك الدقائق الصغيرة للأجسام والتركيب الحقيقي الذي تتوقف عليه كيفياتها المحسوسة؛ لبعثت فينا دون شك أفكارًا مختلفة كل الاختلاف، ولاختفى ما هو الآن اللون الأصفر للذهب، ورأينا محله نسيجًا منظمًا من الأجزاء ذات الشكل والحجم الخاص، وهذا ما تكشفه لنا المجاهر بوضوح … فالدم يبدو للعين المجردة أحمر كله، ولكن المجهر الجيد الذي يكشف أجزاءه الصغيرة لا يطلعنا إلا على كرات حمراء قليلة تسبح في سائل رائق …
وإذا دلت هذه النصوص المفصلة على شيء، فإنما تدل على أن لوك قد اهتدى بكل وضوح إلى ذلك الارتباط الأساسي للموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي في العالم الطبيعي، فإذا حاولت وأنت تسبح أن تنظر إلى البحر على أنه ليس خارجيًّا، فلن يكون لهذا من نتيجة سوى غرقك، وإذا شئت — خلال سيرك — أن تعد الشجرة فكرة ذاتية في رأسك، فلن يؤدي ذلك إلا إلى اصطدام رأسك ذاتها بها.
وإذن فللموقف الطبيعي مجاله الضروري، وهو المجال العملي الحيوي.
وحواسنا — مهما كانت «خشونتها» — تقدِّم إلينا صورة للعالم لا نستطيع أن نرفضها رفضًا قاطعًا في سلوكنا العملي، وإلا أدى ذلك إلى إلحاق أبلغ الأضرار بحياتنا ذاتها، حقًّا إن نصيب هذه الحواس يتفاوت نجاحًا أو فشلًا حين تقتحم ميادين أخرى، كميدان تفسير الظواهر أو فهمها، ولكنها في الميدان العضوي العملي لا مفر منها، وتؤدي وظيفتها الكاملة فيه، ومن العبث الاعتراض على قدرتها في هذا الميدان.
•••
فإذا عدنا إلى النص الأول الذي اقتبساه من لوك لوجدناه في أول هذا النص يتحدث عن حدة الحواس كما لو كانت تؤدي بنا إلى إدراك «التركيب الحقيقي» الذي تتوقف عليه الكيفيات المحسوسة للأشياء، وتلك هي نقطة الضعف في هذا النص، وربما كانت فيه مجرد تعبير غير موفَّق لا يؤثر في السياق العام للنص، ولكنها في ذاتها تمثل اتجاهًا مشتركًا بين كثيرين من مفكري العلم والفلسفة، وهو اتجاه كانت له أخطر النتائج بالنسبة إلى التفكير في مشكلة العالم الخارجي.
- (١)
الصورة «الخشنة»: التي تطلعنا عليها حواسنا: صورة العالم بما فيه من «أشياء» نتعامل معها في حياتنا اليومية.
- (٢)
الصورة الميكروسكوبية: التي نرى فيها أو نحاول أن نرى «العالم الأصغر» عالم الكائنات الحية الدقيقة أو الخلايا أو الجسيمات.
- (٣)
الصورة التلسكوبية: وهي صورة «العالم الأكبر» كما تكشفه لنا المناظير المكبِّرة بما لديها من قدرة على تقريب مسافات شاسعة إلى أنظارنا.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن كلًّا من الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تتعرض لاختلافات أساسية كلما كُشِفَت آلات أقْدَر على تكبير الجسم الصغير أو تقريب الجسم البعيد.
وفضلًا عن ذلك، فليس هذا هو العدد الوحيد من الصور الممكنة للعالم؛ فمن وراء العالم الميكروسكوبي، هناك عالم الذرات والإلكترونات وهو عالم تعد الجراثيم الميكروسكوبية بالنسبة إليه «عالمًا أكبر»، ومن وراء العالم التلسكوبي هناك المجموعات الكونية التي لم يصل إلينا ضوءُها حتى الآن، والتي تُعد الأبعاد التلسكوبية بالنسبة إليها «عالمًا أصغر»، وفي هذا — ولا شك — ما يجعل كلمة «الأصغر» و«الأكبر» كلمات نسبية إلى أقصى حد، ولا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال منظور معين، وعلى أية حال فسوف نكتفي لإيضاح فكرتنا — بالصور الثلاث التي تحدَّثنا عنها — على أنها مجرد أمثلة للصور المختلفة الممكنة للعالم.
والآن، فهل هناك صورة معينة من هذه هي الصحيحة دون الأخريين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: إن صورة كوب الماء في يدي باطلة؛ لأن المجهر يكشف آلافًا من الكائنات الحية الدقيقة في قطرة واحدة منها؟ أو أن صورة المريخ — كما أدركها بعيني المجردة — باطلة؛ لأن التلسكوب يدرك بقعًا ملونة وأجواءً ليس لها أي أثر في صورتي هذه؟ ربما كان هناك ميل لدى البعض إلى الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب؛ لأن أحد أطراف المقارنة هنا — وهو المنظور المعتاد — متهم دائمًا بالخطأ، ولكن النقطة التي نود إثباتها تتضح بسهولة إذا ما أجرينا المقارنة بين الطرفين الآخرين: فهل يجوز لنا أن نشك في دقة الميكروسكوب أو نعتقد ببطلانه لعجزه عن إدراك النجوم البعيدة، أو أن نرمي التلسكوب بالقصور؛ لأنه لا ينقل إلينا دقائق قطرة الماء؟ إن الجميع سيردون على هذا السؤال قطعًا بالنفي، وهنا نسارع فنسألهم: ولكن «لماذا» لم تشكُّوا في دقة الميكروسكوب أو التلسكوب عندما عجز كلٌّ منهما عن إرشادنا في مجال الآخر؟ إن الجواب الوحيد على هذا السؤال هو أن لكلٍّ منهما «مجاله» الخاص، وهذه بعينها هي النقطة التي نود إثباتها.
فصورة العالم «صحيحة» حسب كل مجال من المجالات التي تُسْتَخْدَم فيها هذه الصورة، وبالنسبة إلى أغراض مجال الإنسان العملي الحيوي، تكون صورة العالم في الموقف الطبيعي صحيحة تمامًا؛ لأنها هي الوحيدة المتسقة مع غايات الإنسان في هذا العالم، ومن العبث أن تنقد إحدى هذه الصور الثلاث: الصورة الحيوية أو الميكروسكوبية أو التلسكوبية؛ لأنها تعجز عن أداء وظيفة الأخرى.
فإذا جمعنا الآن بين الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تحت «جنس» أعم — هو اسم «الصورة العلمية» — لجاز لنا أن نعبر عن هذه النتيجة الهامة السابقة تعبيرًا آخر، هو أنه «من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم؛ إذ إن كلًّا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تمامًا عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تمامًا لمجالها.»
•••
والآن فلنتحدث عن الخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي بضرب أمثلة له، وبيان آثاره العظيمة الأهمية في التفكير الفلسفي.
ولكي نوضح طبيعة هذا الخلط نضرب ذلك المثل المألوف لدينا جميعًا، مثل العلاقة بين الأرض والشمس من حيث الدوران، فليس أوضح بالنسبة إلى أي شخص — لديه أبسط قسط من التعليم في عصرنا هذا — من أن الأرض هي التي تتحرك حول الشمس، ومع ذلك فمجرد القول بتحرك الأرض يعني أننا دخلنا في مجال «التفسير العلمي»، لا في مجال الحياة اليومية بما لها من مقتضيات بيولوجية، فرغم وضوح هذه الفكرة، فإن من المستحيل حتى الآن — وربما ظل من المستحيل إلى الأبد — أن نتصرف في حياتنا اليومية على أساس أن الأرض متحركة؛ إذ إن هذه الحركة لا تؤثر مطلقًا في ذلك المجال الحيوي الذي يسود فيه الموقف الطبيعي، ومن هنا كنا لا نزال نرى الناس جميعًا — بما فيهم كبار علماء الفلك لدينا — يستخدمون في أحاديثهم المعتادة تعبيرات مثل «عندما طلعت الشمس أو غابت …» هذه التعبيرات ليست مجرد تعبيرات متوارثة منذ كان الناس يعتقدون بحركة الشمس حول الأرض، وإنما هي تعبيرات تدل على ما يلزمنا في موقفنا الطبيعي، والدليل على ذلك أننا سنسخر حتمًا من ذلك الذي يستخدم في حديثه المعتاد عبارة مثل «قابلت فتاتي على شاطئ البحر عندما دارت الأرض بحيث لم تعد الشمس ظاهرة …» لماذا إذن نسخر من مثل هذا التعبير مع أنه صحيح ودقيق، ونفضِّل عليه تعبيرًا آخر أقل دقة هو «بعد غروب الشمس»؟ لأن المسألة هنا ليست دقة أو عدم دقة أو صحة وبطلان، وإنما هي مسألة مجالين مختلفين لكلٍّ منهما مقتضياته الخاصة وينبغي ألا يُخْلَطَ بينهما.
ولنَسِرْ خطوة أخرى في طريق إيضاح فكرتنا، فنقول: إن الكثيرين ينقدون الموقف الطبيعي على أساس أنه كان عقبة في طريق التقدم العلمي، ففي المثال السابق كان الاعتقاد «الطبيعي» بأن الشمس هي المتحركة — وهو اعتقاد تولِّده الحواس بإدراكها ثبات الأرض وتغير مواقع الشمس — عائقًا في سبيل كشف العلاقة الحقيقية بين الأرض والشمس من حيث الحركة، وظل يغذي حركة مقاومة النظرية الفلكية الجديدة بعد ظهورها بمدة طويلة، وهذا الانتقاد صحيح ولا شك، ولكن الخطأ هنا في واقع الأمر لم يكن خطأ الموقف الطبيعي ذاته، بل خطأ العلماء القدماء الذين حاولوا الاكتفاء بالموقف الطبيعي وتفسير كل الظواهر العلمية من خلاله، والأمر الذي لا شك فيه أن الموقف الطبيعي والموقف العلمي يكونان في بداية الأمر متفقين، ثم يصبح للعلم مجاله الخاص كلما اقتضى تقدمه البحث عن أوجه أخرى للظواهر غير الأوجه المحسوسة مباشرةً منها، ولكن الذي ينبغي أن نتنبه إليه — مع اعترافنا بهذا الانتقاد — هو أن «الموقف العلمي حين يستقل عن الموقف الطبيعي لا ينبغي أن يحلَّ محله في ميدانه»؛ إذ يظل الموقف الطبيعي محتفظًا بصلاحيته وقيمته في الميدان المخصص له، ويكون الفارق بين حالة العصر المستنير والعصر غير المستنير هو في إدراك الأول لارتباط هذا الموقف بمجاله الخاص، وكَفِّ الأذهان عن محاولة تطبيقه في جميع الميادين.
وهكذا يمكن القول: إن الفكرة التي ننادي بها — والتي يمكننا أن نجد صدًى لبعض جوانبها في كتابات فلسفية أخرى — ليست على الإطلاق دفاعًا «مطلقًا» عن الموقف الطبيعي، وإنما هي دفاع عنه في تلك المجالات التي لا ينبغي أن يزاحمه فيها الموقف العلمي، والتي ينبغي أن تظل لغة الموقف الطبيعي هي وحدها السائدة فيها، أما في المجالات التي يجب أن تكون الكلمة الأخيرة فيها للعلم، فمن السذاجة — دون شك — أن يحاول أحد الدفاع عن الموقف الطبيعي على حساب العلم.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر «جاستون باشلار» من أشد المفكرين نقدًا للموقف الطبيعي، بوصفه عقبة ظلت تعترض طريق التقدم العلمي ردحًا طويلًا من الزمان، وكان نمو العلم — في رأيه — نموًّا متعرجًا لا يسير في خط مستقيم، بل يحدث التقدم فيه من خلال صراع مستمر مع الخطأ، فالحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، وليس ثمة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تظهر منذ البداية واضحة ساطعة متميزة عن كل ما عداها (وفي ذلك يتخذ باشلار موقفًا مضادًّا تمامًا لموقف ديكارت، الذي جعل من الوضوح والتميز معيارًا لصحة الأفكار، وكانت أرفع الحقائق في نظره هي تلك التي تفرض نفسها على الذهن، وتصدر عن الحدس، على نحو لا نملك معه إلا قبولها)، بل إن الخطأ كامن في قلب الحقيقة، وللخطأ الأولوية في كل معرفة حقة تتوصل إليها الإنسانية؛ لأن هذه المعرفة إنما هي — في الواقع — خلاص تدريجي من ربقة الجهل والخطأ الذي يظل يفرض نفسه علينا ما لم نعمل على مقاومته بلا هوادة، ولا جدال في أن تشبث الخطأ بمواقعه، واضطرار العلم في كل خطوة من خطوات تقدمه إلى أن يكافح ويصارع من أجل إزاحة «عقبة» الجهل التي تقف أمامه بعناد، إنما يرجع إلى تأثير الموقف الطبيعي الذي يزاحم الروح العلمية ويمسك بتلابيبها محاولًا منعها من المضي في طريقها قدمًا.
وهكذا كان اعتراض باشلار منصبًّا — في الواقع — على «الخلط» بين مجالَي العلم والتجربة اليومية، لا على هذه الأخيرة في ذاتها … فإذا اتُّخِذَت التجربة اليومية أساسًا لبحث علمي كان من الضروري انتقادها، وتدل فكرة المقاومة والتصحيح المستمر — التي أكد باشلار أنها هي المبدأ الأساسي في تكوين الروح العلمية — على أنه يعترف ضمنًا بأن التجربة اليومية تفرض نفسها علينا في شتى المجالات، ولكن الدخول في ميدان العلم يُحَتِّم علينا أن نقاومها ونصحح أخطاءها، ومجمل القول: إن باشلار — في نقده للموقف الطبيعي — كان يتحدث من منظور العالم، وكان له كل الحق في أن ينتقد العلم المرتكز على الموقف الطبيعي، والعلماء الذين يخلطون بين مقتضيات كلٍّ من العلم والحياة اليومية، ويطبقون معايير الثانية على الأول، وكل هذه آراء لا تتعارض على الإطلاق مع ما نقول به من ضرورة الفصل بين المجالين، وعدم محاسبة أحدهما لعجزه عن تحقيق أهداف الآخر.
•••
وإذن فمن الضروري أن نفصل بين مجالي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، ونتجنب الخلط بينهما، ولكن هذا الخلط قد حدث بالفعل خلال تاريخ الفلسفة، وكان مسئولًا عن عدد كبير من الأخطاء التي ارتُكِبَت في ميدان نظرية المعرفة.
ففي الفلسفة القديمة كان الموقف العلمي مندمجًا في الموقف الطبيعي، وكان الخطأ الذي ارتكبه الفلاسفة هو أنهم نظروا إلى الموقف الطبيعي على أنه يمثل العلم في الوقت ذاته، ورأوا أن «مقولاته» — كفكرة الجوهر — تعبر أيضًا عن الأسس الأولى للعلم، أي إن طبيعة الأشياء تُفْهَم فهمًا كاملًا من خلال الموقف الطبيعي، بحيث لا تحتاج إلى البحث عن أية صورة أخرى لها مخالفة لصورتها في حياتنا اليومية، وهذا هو ما يعلل ظاهرة عدم التفرقة بين الفيلسوف والعالم في العالم القديم.
أما في عصر انفصال العلم عن الفلسفة، فقد ارتكب الفلاسفة الخطأ المضاد، وهو محاسبة الموقف الطبيعي عن عجزه عن تفسير الظواهر العلمية، وهكذا نُقِدَت — مثلًا — فكرة «الشيء» أو فكرة «الجوهر» على أساس تحليل العلم للصفات المختلفة التي يرجع إليها ما نسميه بالشيء، وهي صفات بعيدة كل البعد عن صفات «الجوهر» القديم، ونسي الفلاسفة هنا أن كشف ذلك العالم العلمي الزاخر ليس معناه هدم الأسس التي يقوم عليها الموقف الطبيعي؛ إذ إن تلك الأسس ستظل منطبقة على هذا الموقف مهما كانت درجة التقدم التي يبلغها العلم.
ولنتحدث الآن بشيء من التفصيل عن هذين النوعين من الخلط بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي.
•••
فمن المعروف أن الذهن البشري في العالم القديم لم يكن لديه العتاد العلمي اللازم لاكتشاف «العالم الأصغر» و«العالم الأكبر» على أسس تجريبية صحيحة، حقًّا إن بعض النظريات «الذرية» وكذلك بعض النظريات الفلكية قد ظهرت، ولكن الاستنباط العقلي أو الرياضي كان له الدور الأكبر في كشف هذه النظريات، أما في ميادين البحث الأخرى فإن أساس التفكير العلمي كان الارتكاز على وجهة النظر الطبيعية الشائعة، مع شيء من الترتيب المنهجي الذي تطبق فيه قواعد المنطق الصوري المعروفة، وهكذا كان مجال بحث العلم لا يكاد يختلف كثيرًا عن الأشياء كما تراها أعيننا العادية، ولما كان هذا المجال يكوِّن النقطة التي يبدأ منها البحث الفلسفي بدوره، فإن التمييز بين العلم والفلسفة لم يكن ممكنًا في ذلك العهد.
ونستطيع أن نقول: «إن شيوع فكرة «الجوهر» في الفلسفة القديمة كان تعبيرًا عن ارتكاز الفكر القديم بأسره — في المجالين العلمي والفلسفي معًا — على الموقف الطبيعي»، ففكرة الجوهر ترتبط بالموقف الطبيعي ارتباطًا واضحًا؛ إذ إن العنصر الأساسي في هذا الموقف هو أننا ندرك «أشياء»، وفكرة «الشيء» هذه هي الأساس الذي استُخْلِصَت منه فكرة الجوهر، وكما يميز الموقف الطبيعي بين الشيء ومظاهره، فكذلك كانت الفلسفة القديمة تميِّز بين الجوهر وأعراضه، على أساس أن الجوهر هو العنصر الثابت من وراء تغيرات الأعراض.
وإذا تذكرنا أن مقولات أرسطو كانت تحليلًا للطرق التي تُقال بها أحكامنا أو عباراتنا على الأشياء، وأنها كلها تلخيصات لأعم طرق الحكم والحمل في اللغة المألوفة؛ لكانت النتيجة الضرورية هي أن فكرة الجوهر تسجيل لاتجاه عام في استخدامنا المعتاد للغة، ولم يكن استخلاص أرسطو لها — شأنه شأن الكثير من عناصر فلسفته ومنطقه — إلا تلخيصًا للأفكار العامة الكامنة من وراء استعمالاتنا المألوفة.
•••
والمهم في هذا كله — على أية حال — هو أن أعنف الفلاسفة نقدًا لفكرة الجوهر في الفلسفة كانوا يعترفون في كتاباتهم ضمنًا بأن الفكرة مرتبطة بموقف الإنسان الطبيعي، رغم محاولتهم تصوير التجربة على نحو يخالف ما حدث فعلًا في هذا الموقف، والنتيجة الحتمية للارتباط بين فكرة الجوهر — مفهومة بمعنى أنها إدراك موضوعات إدراكنا على أنها «أشياء» — وبين التجربة اليومية الفعلية للإنسان، هي أن ذلك الارتباط سيظل مستمرًّا وقائمًا مهما تغيرت الظروف العلمية أو الفكرية التي يعيش فيها الإنسان؛ ذلك لأن الموقف الطبيعي — كما لاحظنا من قبل — غير قابل للتغير، ومقتضياته الأساسية تظل قائمة على الدوام.
وإذا كان ضمن هذه المقتضيات فكرة وجود «أشياء» لها كيان مستقل قائم، وما تؤدي إليه هذه الفكرة من القول بوجود «جواهر»، فإن هذه المقتضيات ستظل على الدوام لازمة للموقف الطبيعي، ومن العبث أن يحاول أحد في أي عصر فصلها عنه.
- (أ) ففي كتاب «علم الميكانيكا» يقول إرنست ماخ: «إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها، ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر، أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه، فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء»، وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريد للأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تُلاحَظ لأنها ليست بذات أهمية عملية، فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز لمركب من العناصر نجرد منه التغيرات، والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة، فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي، وبعبارة أصح: فالعلم ليس مؤلَّفًا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلَّف مما نسميه عادةً بالإحساسات الفردية.»٢١
في هذا النص يحاول المؤلف أن يقنعنا بأن فكرة «الشيء» ترجع إلى عملية غير صحيحة قام بها الإنسان البدائي لأغراض عملية، أي إن لفكرة «الشيء» أصلًا تاريخيًّا مرتبطًا بظروف معينة في مدنية الإنسان لا بطبيعة الإنسان نفسه، وهو حين يشير إلى أن أقدم الألفاظ هي أسماء الأشياء، يرمي إلى إثبات هذا الارتباط بين تكوين فكرة «الشيء» وبين الإنسان البدائي، على حين أن هذا القدم إن دل على شيء فإنما يدل على تأصُّل هذه الفكرة في طريقة إدراك الإنسان من حيث هو إنسان، وعلى أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بأية مرحلة حضارية بعينها.
- (ب) وتقترب من ذلك إلى حد بعيد تلك المحاولة التي بذلها «مارجنو Margenau» لإثبات تطور قواعد تلك العملية التي يضفي بها الإنسان صبغة الشيئية على موضوعات إدراكه، فهو يذهب في كتابه «طبيعة العالم المادي» إلى أن عملية إضفاء الشيئية reification تنطوي على عدة عناصر لا يمكن استخلاصها بالتجريد من المعطيات الحسية، ومن بين هذه العناصر: عنصر التركيب وفقًا لقواعد قابلة للتغير، لا كامنة في طبيعة الذهن البشري كما اعتقد كانْت وأتباعه، وهكذا انتهى إلى أن «عملية إضفاء صبغة الشيئية هي في الواقع أول خطوة يتخذها جنسنا في سبيل الوصول إلى الإجراءات الأكثر تعقيدًا والسائدة حاليًّا في العلوم الدقيقة.»٢٢ ولنذكر هنا أنه يعرِّف عملية إضفاء صبغة الشيئية بأنها «عملية افتراض «شيء» كلما عرض مظهر حسي.»٢٣ وهذا التعريف ذاته يستتبع أن تكون هذه العملية مختلفة تمامًا عن تلك العملية المعقدة التي ندرك بها، فهي عملية افتراض «شيء»، وليست عملية تعرُّف على شيء «محدد»، وليست عملية إضفاء صبغة الشيئية كما ظن «مارجنو»، هي تلك العملية المعقدة التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شجرة»، بل هي مجرد العملية التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شيئًا» فحسب، أو على الأصح: إن هناك «شيئًا» ترتبط به هذه الإحساسات، ونحن نعترف أن العملية الأولى عملية معقدة، وأنها تؤلف بالفعل الخطوة الأولى نحو التصنيف العلمي، ولكن من الخطأ تحديدها بأنها عملية إضفاء صبغة الشيئية على الأشياء، بل إنها قد تكون «تعرفًا» أو تحديدًا أو تصنيفًا، أي تحديد كنه الشيء، لا مجرد افتراض وجود «شيء» فحسب، فهذا الفعل الأخير — أعني مجرد افتراض شيء — هو فعل أكثر أصالة، وغير قابل للتغير، ولا شأن له على الإطلاق بما يحرزه العلم من تقدم، ولقد كان الخلط بين ذلك الفعل الأصيل البسيط وبين العملية الأخرى الأكثر تعقيدًا — وهي تحديد كنه هذا الشيء — من أهم العوامل التي أدت إلى تعقيد العملية البسيطة الأولى، فكانت النتيجة النهائية لهذا الخلط هي ظهور تلك الآراء التي يبدو أنها تؤدي إلى القول بأن فعلًا أصيلًا كهذا يمكن أن يتغير تبعًا لتقدم العلم أو تطور مدنية الإنسان.
ولو قيل: إن علينا أن نقارن — زمنيًّا — بين النظرة إلى العالم على أنه مكون من إحساسات، وبين النظرة إليه على أنه مكون من أشياء، لقلنا: إن أساس المقارنة ذاته غير صحيح، فالنظرة الثانية تنتمي إلى الموقف الطبيعي، والأولى إلى الموقف العلمي، وعلى ذلك فالثانية في مجالها الخاص غير قابلة للتطور؛ إذ لا يستطيع أحد أن يدَّعي أننا كنا أيام أرسطو ننظر إلى التفاحة على أنها شيء أو جوهر، بينما أصبحنا الآن نعدها مجموعة من المدركات، أي لونًا وطعمًا وشكلًا فحسب، ونتعامل معها على هذا الأساس، فمن الواضح أن التفاحة كانت ولا تزال وستظل دائمًا «شيئًا» بالنسبة إلى موقفنا الطبيعي.
بل إننا في هذا الموقف الطبيعي نقول بالشيء أولًا، ولا ندرك كيفياته البسيطة بما هي كذلك إلا في عملية تالية، فمن الخطأ الزعم بأن فكرة «الشيء» حاجز لفظي يحجب عنا المكونات الحقيقية للطبيعة، وهي الإحساسات المباشرة، وأن تخطي هذا الحاجز الذي تضعه اللغة بيننا وبين الطبيعة يوصل حتمًا إلى هذه المكونات الحقيقية، فالقول بأن العالم — في موقفنا الطبيعي — مكوَّن من «أشياء» هو قول أكثر أصالةً من أي وضع لحاجز لغوي.
والواقع أن هذا الرأي — الذي يرد فكرة «الشيء» إلى اللغة، ويجعلها حاجزًا لغويًّا يحجب عنا حقيقة العالم (وهي الإحساسات أو المعطيات المباشرة) — ينطوي على سوء فهم لمعنى «الاتصال» ذاته، وبالتالي فهو تعبير عن نظرة قاصرة إلى طبيعة اللغة ووظيفتها، بالإضافة إلى ما فيه من أخطاء في نظرية المعرفة؛ ذلك لأن وظيفة الاتصال هي نقل فكرة أو معنى من ذهن إلى ذهن آخر، أما «واسطة» هذا النقل فليست هي التي ينصبُّ عليها الاهتمام، ومن الممكن تشبيه اللغة التي تُتخذ واسطة في عملية نقل الأفكار من ذهن إلى آخر بالعملة الورقية في عمليات التبادل الاقتصادي، فصحيح أن هذه العملة الورقية بعيدة كل البعد — من حيث قيمتها الذاتية — عن السلع التي نبادلها بها، وليس للورقة المالية في ذاتها — مهما عَلَتْ قيمتها التبادلية — قيمة تُذْكَر، ولكن المهم هو أن يعترف الناس فيما بينهم بقيمة واحدة لها، ففي هذا الاعتراف المتبادل تكمن قيمتها وفائدتها، أما قيمتها الذاتية أو علاقتها بما تتبادل معه فليست لها أهمية، واختلاف القيمة الكامنة للعملة الورقية عما نشتريه بها لا يعني أبدًا أنها لا تصلح للاستخدام في الشراء والتبادل، ولو طبَّقنا هذا المثل على المشكلة التي نحن بصددها لتبين لنا بوضوح أن اختلاف اللفظ عن الموضوع الذي ندل به عليه لا يعني أبدًا أن هذا اللفظ يشوه طبيعة هذا الموضوع أو يحول بيننا وبين معرفته، والواقع أن المساواة بين الرمز اللغوي وبين ما يدل عليه ليست مطلوبة على الإطلاق، وما الرمز إلا جسر يعبر بالمعنى من ذهن إلى آخر، وهو يكون قد أدى وظيفته كاملة إذا حقق عملية العبور هذه، بغض النظر عن علاقته — من حيث التشابه أو المساواة — بالموضوع الذي يعبر عنه.
ولكننا لو تركنا هذا النقد اللغوي جانبًا، وعدنا إلى ذلك التقابل الذي يضعه أنصار الانطباعات الحسية بين التجربة المباشرة — التي نكتسبها عن طريق هذه الانطباعات — وبين التجربة غير المباشرة، أو التحريف الذي يطرأ على التجربة بفضل إدخال فكرة «الشيء» في إدراكنا؛ لأمكننا أن نقول، على العكس مما ينادي به أصحاب هذا الرأي إن الزعم بأن الإحساسات المباشرة هي المكونات الحقيقية للطبيعة هو الذي يدل على التأثر بالحواجز اللغوية، على حين أن القول بأن العالم مكون من «أشياء» هو الذي يعكس تأثير التجربة المباشرة، وهذا القول يبدو مضادًّا تمامًا للآراء السابقة المأثورة عن فلاسفة عديدين في مختلف عصور التفكير الفلسفي، ولكن إثباته في ضوء التفرقة بين الموقفين العلمي والطبيعي ليس عسيرًا: فتجربة الإنسان الفعلية المباشرة ليست تجربة ألوان وطعوم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة، وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه لا أخطاء الإنسان البدائي أو التفكير قبل العلمي، أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور، وهذا التجريد هو الذي يقتضي تصنيفًا لغويًّا، وتقسيمًا لإدراكنا المتكامل إلى عناصر مستقلة، وهذا التصنيف والتقسيم هما اللذان يكونان أول مرحلة من مراحل التفكير العلمي، وبعبارة أخرى: فكون الأشياء — التي هي موضوع إدراكنا المباشر — تنقسم إلى عناصر مميزة، هو كشف لاحق يقتضي عملية معقدة لا بد لحدوثها من تطور عقلي وتهذيب حضاري وتجريد لغوي معقد.
ولقد ناقش «إرنست ناجل» — وهو من أكبر فلاسفة العلم المعاصرين — مواقف بيرسيون وآير وماخ، الذين يذهبون إلى أن المعطيات الحسية هي العناصر الأولى والبسيطة لكل معرفة، وانتهى إلى موقف مشابه لذلك الذي نعرضه ها هنا؛ إذ قال: «الواقع أننا إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر الحقائق السيكولوجية، فإن المعطيات الحسية الأولية ليست هي المواد الأصلية الأولى للتجربة، التي تُشَيَّد بواسطتها كل أفكارنا كما تُشَيَّد البيوت من أحجار منفصلة، بل إن التجربة الحسية — على العكس من ذلك — هي استجابة لأنماط معقدة — وإن تكن غير محللة — من الكيفيات والعلاقات، وتنطوي هذه الاستجابة عادةً على ممارسة عادة التفسير والتعرف المبنية على اعتقادات واستدلالات ضمنية لا يمكن استخلاصها من أية تجربة منفردة مؤقتة، وعلى ذلك فاللغة التي نستخدمها عادةً لوصف تجاربنا المباشرة ذاتها هي اللغة المعتادة للاتصال الاجتماعي، التي تنطوي على تمييزات ومسلمات يرجع أساسها إلى تجربة جماعية عامة، وليست لغة تحدد معناها على أساس الإشارة المزعومة إلى ذرات من الإحساسات لم يفسرها الذهن.
•••
ولنذكر دائمًا أن كل ما ذكرناه من نقد لا يصح إلا في ضوء التمييز الأساسي بين الموقفين الطبيعي والعلمي، وهو تمييز لم يكن واضحًا في الأذهان في معظم الأحوال، وبعبارة أخرى: فنحن نعترف قطعًا بأن العلم كان على حق تمامًا في استبعاده لفكرة الجوهر وفكرة الشيء من مجاله الخاص عندما وجدها عقبة في طريق تقدمه، وفي هذا الصدد: لا يستطيع أحد أن ينكر حدوث تقدم ملحوظ من العلم القديم — الذي كان يخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي، ويحصر الثاني في حدود الأول — إلى العلم الحديث الذي اتبع لنفسه منهجًا لا يتقيد فيه بحدود الموقف الطبيعي، مما أدى به إلى إحلال العلاقات الرياضية محل الكيفيات المفتقرة إلى الاطراد والتجانس، فخروج العلم عن حدود الموقف الطبيعي كان إذن تقدمًا لا شك فيه بالنسبة إلى العلم ذاته.
ولكن الأمر في الفلسفة يختلف: فعندما وجد الفلاسفة أن العلم الحديث يستغني عن فكرة الجوهر ويُحل محلها فكرة العلاقات؛ اتجهوا إلى استبعاد فكرة الجوهر استبعادًا تامًّا، ولم يتنبهوا إلى أن استغناء العلم عن هذه الفكرة لا يعني استغناء الإنسان في موقفه الطبيعي عنها، فالعلم حين شَقَّ لنفسه طريقًا مستقلًّا؛ نتيجة لاهتدائه إلى منظورات أخرى للعالم مختلفة عن المنظور المعتاد، قد استغنى عن فكرة الجوهر؛ لأنها لم تعد تلائم هذه المنظورات الجديدة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنها لم يعد لها مكان في تجربة الإنسان؛ إذ إنها — هي وفكرة الشيء الوثيقة الارتباط بها — جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان الطبيعية التي وجدت بعض فروع العلم لزامًا عليها أن تتجاوزها، ونقول: «بعض فروع العلم»؛ لأن هناك فروعًا تفترض فكرة الجوهر أو الشيء، وذلك مثل علوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا إلخ، وهي علوم لن تكف عن معالجة موضوعاتها على أنها «أشياء» بنفس المعنى الذي يدرك به الإنسان موضوعات تجربته في الموقف الطبيعي على أنها أشياء.
وإذن، فلم يكن خطأ الفلسفات القديمة ينحصر في القول بفكرة الجوهر ذاتها، وإنما في الاعتقاد بأن هذه الفكرة — التي تنطبق على مجال الإنسان المعتاد — تنطبق أيضًا على المجال العلمي، أما الفلسفات الحديثة فقد ارتكبت الخطأ المضاد، وهو محاولة استبعادها من جميع المجالات.
•••
- (١) ففي كتاب «ديالكتيك القرن العشرين» يتحدث «فورستنبرج» عن المثال الذي ضربه العالم الإنجليزي «إدنجتن» عن المنضدة التي نعرفها من جهة كشيء نكتب عليه، ويعرفها لنا العلم من جهة أخرى كمجموعة لا متناهية من الجسيمات والموجات … إلخ، فيقول عن هذين التفسيرين:إن أحدهما صادر عن الأطفال وأنصاف المتمدينين، والآخر راجع إلى ملاحظة بصرية بلغت مستوًى رفيعًا من الإحكام العقلي والدقة الرياضية … فنحن هنا إزاء تفسيرَيْن ناتجين عن الملاحظة وردَا إلينا من عصرَيْن مختلفين من عصور مدنيتنا؛ فما أعجب هذه النقيضة!٢٦
في هذا النص نجد مثالًا لمفكر يعد الموقف الطبيعي مرتبطًا ﺑ «الأطفال وأنصاف المتمدينين» فحسب، ولست أدري كيف يتصرف هذا المفكر ذاته في حياته العلمية إزاء ما لديه من مناضد! وهو يصف الموقف الطبيعي والموقف العلمي بأنهما راجعان إلى «عصرَيْن مختلفين»، وكأن الإنسان في عصرنا العلمي هذا يستطيع أن يستغني تمامًا عن فكرة «الشيء»، ويعامل المنضدة في جميع تجاربه — بما فيها تجارب الحياة اليومية — على أنها مجموعة من الدقائق والجسيمات!
- (٢) وفي كتاب «العلم الفيزيائي» يقول «بلانشيه»:إن الإصلاح الذي أحدثه تطبيق طريقة التفكير الرياضية على فهمنا للواقع يقترن إذن بتغير أساسي في نظرتنا إلى الواقع وعلاقته بالروح، فلم يعد الواقع نقطة بداية، بل أصبح حدًّا نهائيًّا للمعرفة، ولم يعد يعطي للحساسية عن طريق صفات جوهر، بل إن العقل هو الذي يركبه بأن يجعل منه نسقًا من العلاقات، وهكذا تتحقق في ميدان المعرفة وميدان الوجود تلك الثورة «الكبرنيكية» التي قدَّم إلينا كانت التعبير الفلسفي عنها؛ فالأشياء من الآن فصاعدًا هي التي تدور حول الروح بما لهذه من جاذبية.٢٧
مثل هذا التصوير لتطور العلم قد يبدو في ظاهره صحيحًا، غير أن الخطأ الذي ينبغي أن ننبه إليه هو أن هذا النوع من التفكير يصور الأمور كما لو كان من الواجب أن تختفي تلك الصفات الحسية التي تقدم إلينا الواقع اختفاءً تامًّا، فلا يعود هناك مجال إلا لنسق العلاقات الرياضية التي يكونها العقل، ولكن الواقع أنه إذا كانت قد حدثت في مجال العلم «ثورة كبرنيكية» فإن هذه الثورة لم تقضِ على «النظرة البطليموسية» التي لا تزال قائمة في مجال الموقف الطبيعي، والتي لا يمكن أن يغير منها تطور العلم.
- (٣)
ففي المثلين السابقين إذن تعبير عن الاعتقاد الخاطئ بأن تطور المنهج العلمي الحديث يؤدي إلى تغيير «كامل» في نظرة الإنسان إلى العالم، وكأن الموقف الطبيعي هنا يحاسب على عدم مجاراته لتقدم العلم، الذي يُظن أنه يؤدي إلى رفض الأول تمامًا، ومثل هذا الخطأ ناتج — بلا شك — من عدم التنبه إلى اختلاف وظيفة كل من الموقفين.
غير أن هناك فئة أخرى من النقاد تتخذ الموقف المضاد، فتحاسب العلم على عجزه عن تقديم وصف كامل لجميع أوجه الموقف الطبيعي، وهو خطأ لا يقل في نظرنا عن الخطأ السابق.
إن أي اختلاف عددي لا يصل أبدًا إلى إيضاح كنه اختلاف الألوان … وإن العلم إذ يقتصر على معالجة العالم من ناحيته القابلة للعد، إنما يختار سبيلًا يؤدي إلى تضييق نطاق اتصاله بهذا العالم …
مثل هذا النقد — الذي يعد محور كتابات فيلسوف مثل برجسون — يحمل على العلم؛ لأنه لا يقدم للعالم صورة عينية ملموسة كتلك التي تجلبها لنا حواسنا، وهذا أيضًا خطأ ناتج عن الخلط بين وظيفتَي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، فليس من شأن الموقف العلمي — على الإطلاق — أن يقدم عن العالم تلك الصورة التي نحتاج إليها في سلوكنا اليومي بما فيها من كيفيات عينية.
ولعل هذه الأمثلة المختارة من مفكرين ذوي اتجاهات مختلفة كافية لإيضاح ما نقصده بفكرة الفصل بين المجالَيْن العلمي والطبيعي، فمهمة العلم الأساسية هي تقديم تفسير للظواهر يؤدي إلى «فهمها» وكشف قوانينها العامة، وهو في سبيل ذلك يتبع منهجًا يؤدي به إلى رَدِّ المُرَكَّب إلى البسيط، وإحالة الكيف إلى الكم كلما أمكن ذلك، أما الموقف الطبيعي فهو تعبير عن نظرتنا إلى العلم كما نسلك فيه عمليًّا على نحو يفي بمطالبنا الحيوية، ومن هنا كان هذا الموقف يُبقي بالضرورة على اختلافات الكيفيات ولا يحاول على الإطلاق ردها إلى نسق كمِّي مطرد، فالألوان التي يردها العلم إلى موجات، والتي لا يختلف الواحد منها عن الآخر إلا كميًّا، هي ظاهرة أساسية من وجهة النظر الطبيعية، والاختلاف الكيفي بين اللون يؤدي في ذلك الموقف وظيفة أساسية: فالتمييز بين الأبيض والأسود لا غناء عنه لإمكان الإبصار، وبالتالي إمكان السلوك العملي وتجنب العوائق، والتمييز بين الألوان الأخرى يؤدي وظيفة أساسية في تذوقنا الفني لموضوعات الإبصار، والتمييز بين الأصوات لا بد منه للتعامل مع الناس ومع البيئة الطبيعية إلخ …
وهذه التفرقة الواضحة بين وظيفة الموقفَين هي وحدها الكفيلة بحفظ حقوق كلٍّ منهما كاملة: إذ تؤدي إلى الدفاع عن موقف الإنسان الطبيعي ضد الاعتقاد بإمكان تغلغل الصورة العلمية للعالم في جميع المجالات، وإلى الدفاع عن العلم في الآن نفسه من تهمة العجز عن تقديم صورة «عينية» كاملة للعالم.