مراحل المثالية
(١) الشك في الحواس
سبق أن حددنا المعنى الذي سوف نستخدم فيه كلمة المثالية في هذا البحث: فهي تعني هنا كل مذهب يقف موقفًا مضادًّا للموقف الطبيعي، وهذا — كما ذكرنا — معنى أوسع بكثير من المعنى المألوف للكلمة، ولكنه — دون شك — ينطوي على هذا المعنى المألوف بوصفه جزءًا منه.
وأول مرحلة في مراحل خروج المثالية عن الموقف الطبيعي: هي الشك في الحواس، ومن الواجب منذ بداية الأمر أن يُحَدَّد بدقة معنى عبارة «الشك في الحواس» هذه كما تُسْتَخْدَم لدى المثاليين، فالمقصود من العبارة ليس الشك في أداء الحواس لعملها، وإنما الشك في قدرتها على نقل موضوعات خارجية لنا، فالمثالي لا يشك في قدرة العين على إدراك شكل كري أحمر اللون، ولكنه يشك في كون هذا الشكل الذي تنقله إلينا «تفاحة» يُفترض أن لها وجودًا خارج وجودنا، وسوف نرجئ إلى موضع تالٍ مناقشة دلالة هذا المعنى بالنسبة إلى مشكلة الإحساس؛ لأن هدفنا الحالي هو إيضاح المعنى نفسه فحسب.
وهناك ظاهرة واضحة كل الوضوح في هذا الشك المثالي، هي أنه يعتمد — في كل الأحوال تقريبًا — على «حالات الشذوذ»، أعني أن أول ما يفعله المثالي لتبرير شكه في الحواس هو أن يأتي بأمثلة لحالات «شاذة» في الإحساس، وفي ذهنه أن الشك في البعض يبرر الشك في الكل.
وسوف نضرب أمثلة قليلة لالتجاء المثاليين إلى حالات الشذوذ، وهي أمثلة سنختارها بوصفها تمثل اتجاهًا عامًّا في المثالية فحسب:
لا يستطيع أحد أن يقول: إن هذا النوع من الأمثلة هو النوع الوحيد الذي يضربه المثاليون للتشكيك في الحواس، ولكن لا جدال في أنه يمثل عنصرًا قويًّا من عناصر النقد المثالي للحواس، بل إنه يكاد يكون نقطة البداية المتكررة دائمًا في هذا النقد.
ولكن عندما نقول في موقفنا الطبيعي: إن الحواس تنقل إلينا معرفة بالعالم الخارجي، فما الذي نقصده ﺑ «الحواس» هنا؟ إننا نقصد — بلا شك — حواس الإنسان السوي السليم، أعني الإنسان الذي اكتملت حواسه الخمسة، ويدرك وهو في حالة طبيعية لا يشوبها مرض أو شذوذ، أليس من المضحك إذن أن يرهق الفلاسفة المثاليون أنفسهم في سبيل البحث عن حالات «شاذة» لكي يحملوا على الإدراك عامةً حتى لو كان سويًّا، فيظلون يتحدثون — مثل ديكارت — عن حالات الهلوسة، أو مثل باركلي عن المولود أعمى، أو مثل شوبنهور عن ازدواج الرؤية، أو مثل هيوم عن الجنون، حتى ليكاد ميدان نظرية المعرفة يتحول إلى «مصحة» كل نزلائها من الشواذ والمنحرفين والمجانين، ويظل أطباؤهم من الفلاسفة يرعونهم بكل حَدَبٍ، لا لكي يشفوهم، بل لكي يخيفوا بهم الأصحاء!
إن المبدأ الذي يعتمد عليه المثاليون في هذه الحالة، وهو مبدأ «ما يصح على الجزء يصح — أو قد يصح — على الكل.» هذا المبدأ لا يكون صحيحًا إلا إذا كان الجزء والكل مشتركَيْن في الكيف، أعني إذا كان الكلام ينصبُّ دائمًا على حالة واحدة للحواس، ولكن الذي يحدث بالفعل هو أن المثالي يضرب أمثلة من حالات الإحساس «الشاذة» للتشكيك في الإحساس السوي، وهو خطأ حتى من ناحية الاستدلال ذاته.
والأمر الذي لا شك فيه أن منهج الالتجاء إلى حالات الشذوذ يؤدي إلى التشكيك، لا في الحواس وحدها، بل في أية قوة أو مَلَكَة أخرى لدى الإنسان، ففي وسع المرء — باتباع هذا المنهج نفسه — أن يشكك في العقل ذاته؛ لأن هناك أناسًا يفكرون — لأسباب مختلفة — بطريقة فاسدة، وفي المنطق لأن الأطفال والمجانين لا يتبعون قواعده، أو لأنه يعجز عن إرشادهم إلى طريقة التفكير السليم، والأمر الوحيد الذي يحُول دون هذا النوع من الشك هو اتباع المبدأ العام، القائل: إن خطأ الحالات الشاذة لا يعني خطأ الحالات السوية؛ لاختلاف الحالتين الأساسي في الكيف.
ويؤدي بنا تحليل الأمثلة السابقة ذاتها إلى كشف وجه آخر من أوجه أخطاء الشك المثالي في الحواس: فكما يعتمد هذا الشك كثيرًا عن حالات الشذوذ، فإنه يعتمد أيضًا في كل نقد مثالي للحواس، مثال: العصا التي تبدو منكسرة في الماء، أو مثال السراب، أو البرج الذي يبدو عن بُعْد مستديرًا بينما هو في حقيقته مربع … إلخ، هذه الأمثلة كلها تفترض نوعًا من الانفصال بين الحواس، وتعتمد على حاسة واحدة، هي حاسة الإبصار في معظم الأحيان، فالمعنى الحقيقي لما يقوله المثاليون في هذه الحالات هو: إذا نظرنا إلى الأشياء من خلال حاسة الإبصار وحدها لبدت العصا منكسرة … إلخ، والرد البسيط على ذلك هو أننا لو استخدمنا بقية حواسنا — ولا سيما اللمس — في كل الحالات التي يتحدث عنها المثاليون لتمكنت الحواس «وحدها» من تصحيح أخطاء بعضها البعض.
والحق أن هذا الخطأ المثالي، خطأ فصل الحواس، وهو في واقع الأمر مظهر آخر من مظاهر الابتعاد عن الحالة «السوية» في الإدراك، ففي إدراكنا المعتاد نستخدم حواسنا كلها معًا، ولا نجزم بالحكم على شيء لمجرد إدراك حاسة واحدة له، ما لم يكن هذا الشيء بعيدًا إلى الحد الذي لا يسمح بالوصول إليه، وهكذا يبدو أن النقد المثالي يفترض هنا أيضًا حالة لا تتحقق بالفعل، هي حالة الفصل بين الحواس.
وليس من المستغرب على الإطلاق — إن كان هذا هو منهج المؤلف — أن ينتهي إلى الاعتراف بأخطاء الحواس، ولا يشفع له في ذلك ما قاله من أنه يأخذ حاسة الإبصار على أنها «مثال» لبقية الحواس، فهذا خطأ منهجي أساسي في هذا الميدان، فمن الواجب — طالما أننا بصدد مناقشة مشكلة الإدراك — إعطاء كلٍّ من الحواس فرصة إثبات صحة إدراكها، وإعطاء كل الحواس معًا فرصة تصحيح بعضها البعض، أي بالاختصار: النظر إلى الحواس وهي متكاملة — كما تعمل في الواقع — لا الاكتفاء بتجريد حاسة واحدة منها.
بل إن من الواجب — طالما أننا بصدد الحكم على «الحواس» بوجه عام — أن نشير إلى التكامل «الأفقي» للحواس، أعني اشتراك حواس عدة أشخاص في تصحيح بعضها البعض، فخطأ حاسة شخص أو حواس شخص لا يعني أبدًا أن «الحواس» — بوجه عام — تخطئ، ولنضرب لذلك مثلًا: فإذا توقفت إحدى الساعات عن العمل، أو أسرفت في التأخير أو التقديم، فهل يعني ذلك أن الساعات كلها فاسدة، وأن من الخطأ الاعتماد على «الساعة» — بوجه عام — في معرفة الوقت؟ وهلا نقترب جدًّا من معرفة الوقت الصحيح إذا قارنَّا بين ما تدل عليه عدة ساعات مختلفة؟ حقًّا إن هذه المقارنة لن تأتي بنتيجة لها دقة مطلقة، ولكنها تأتي قطعًا بنتيجة نستطيع الاعتماد عليها، ولا سيما إذا كان الأمر متعلقًا بأغراض عملية.
- الأولى: أنه ينبغي ألا يُتَّخذ وسيلة لنقد دور الإحساس في المعرفة إلا في حالة واحدة: إذا كان المدافعون عن الإحساس يقولون: إنه هو المصدر «الوحيد» للمعرفة، وهو رأي لا أظن أن أحدهم قال به، فمن الممكن التسليم بدور الذهن الأساسي المكمل للإحساس مع الاعتراف في الوقت ذاته بالدور الهام الذي تقوم به الحواس من حيث هي نقطة بداية تصدر بناء عليها الأحكام الذهنية.
- وثانيًا: أنه إذا كانت العلاقة بين الحواس والذهن متداخلة إلى هذا الحد، فإن انتقاد الحواس يوازيه انتقاد مماثل ينبغي توجيهه إلى الذهن نفسه، فمن الممكن الإتيان بأمثلة عديدة لحالات يكون الخطأ فيها راجعًا إلى تسرُّع الذهن أو عدم دقته في الحكم على ما تنقله إليه الحواس، فلنفرض شخصًا يسير في الظلام في حالة خوف من الأشباح، مثل هذا الشخص سيحكم على أي خيال يظهر له فجأة بأنه شبح، وليس الخطأ هنا خطأ الحواس؛ إذ إنه في واقع الأمر لا يعطيها الفرصة الكافية لإدراك كنه هذا الخيال، بل قد يفر على التو؛ نتيجة للحكم المتسرع الذي أصدره ذهنه.
- (أ)
أنه ينظر إلى الحواس — في كثير من الأحيان — في حالة الشذوذ لا في حالتها السوية.
- (ب)
أنه ينظر إليها منفصلة بعضها عن البعض، ويغفل الدور الأساسي الذي يؤديه التكامل بين الحواس على المستوى الفردي والمشترك بين الأفراد.
- (جـ)
أنه يغفل الدلالة الحقيقية لفكرة التداخل بين دور الحواس والذهن، وهي اشتراكهما معًا في المسئولية عن الإدراك المصيب والمخطئ في آن واحد، على حين تتصور المثالية أن الخطأ يقتصر على الطرف الحسي وحده.
(٢) صفات الأشياء موضوعية أم ذاتية؟
بعد أن يشكك التفكير المثالي في الحواس، تكون الخطوة الطبيعية التالية هي التشكيك فيما تنقله إلينا الحواس، أعني أنه إذا كانت الحواس ذاتها موضوعًا للشك، فمن الطبيعي أن يُثار السؤال عن كون الموضوعات المحسوسة موضوعية أم ذاتية، وإذا حاولنا أن نحدد بدقة المعنى الحقيقي للجدل الذي أثارته نظرية المعرفة التقليدية حول هذه المسألة لما وجدنا سوى المعنى التالي: هل هناك اتفاق بين اعتقادنا «العملي» بوجود أشياء خارجية، وبين الطريقة «الحقيقية» التي تؤدي بها الحواس وظيفتها؟ وتجيب المثالية على هذا السؤال بالنفي البات: فالطريقة الحقيقية التي تؤدي بها الحواس وظيفتها لا تتفق على الإطلاق مع اعتقادنا العملي هذا، وإنما يدلنا التحليل الدقيق لعمل الحواس على أن كل ما نظنه موضوعيًّا هو في واقع الأمر «ذاتي» بمعنًى ما.
ولقد اتضحت معالم الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه المثالي منذ اللحظة التي أوضح فيها ديكارت فكرته عن التفرقة بين نوعين من الكيفيات في الأشياء: أحدهما صادر عن الذات والآخر مستقل عنها، فهنا ظهرت أول محاولة جدية — تنتمي إلى ميدان نظرية المعرفة على التخصيص — لرد «بعض» الصفات التي نظنها منتمية إلى الأشياء نفسها إلى الذات، ومن الطبيعي أن يكون التطور المنطقي للمذهب بعد ذلك هو زيادة عدد تلك الصفات التي تُرد إلى الذات بالتدريج، حتى تصبح كلها ذاتية في آخر الأمر.
- أولًا: أن تفرقة لوك بين نوعَي الكيفيات يمكن أن تُفَسَّر على أنها تفرقة لغوية أو تفرقة في «التعريف»، فهو يقول عن الكيفيات الأولى إنها لا تنفصل عن الجسم بحال، بل يحتفظ بها مهما كانت التغيرات، ويجدها الحس في أية موضوعات مهما صغرت طالما أنها تدرك.١٠ هذا الرأي يمكن أن يُفَسَّر على أساس أن من المستحيل تصور الجسم دون أن تكون له تلك الكيفيات الأولى؛ فمن المستحيل تصور جسم بلا شكل أو كتلة أو حجم أو امتداد، ومهما كبر ذلك الجسم أو صغر، ومهما كانت التغيرات التي يمر بها فسيظل دائمًا ذا شكل وكتلة وامتداد إلخ … وإذن فالكيفيات الأولى في هذه الحالة جزء من «مفهوم» الجسم ذاته، أما الكيفيات الثانية فليست كذلك؛ إذ إن من الممكن تصور جسم دون لون (كالهواء)، أو جسم دون صوت (كالصورة)، أو جسم دون طعم (كالماء) … إلخ.
- ثانيًا: فإذا صح هذا التفسير للتفرقة بين الكيفيات الأولى والثانية على أنها تفرقة بين الصفات التي تدخل في «مفهوم» الجسم وتلك التي لا تدخل، فإن هذه التفرقة لا تؤثر على الإطلاق في القول بذاتية الكيفيات أو عدم ذاتيتها، ولو فرضنا أن الجسم — بكل صفاته — راجع إلى أفكار ذاتية، فإن هذا لا يمنع من استمرار التفرقة بين نوعين من الصفات: أحدهما لا يمكن تصور الجسم بدونه، والآخر قد يوجد في الجسم أو لا يوجد، إنك تستطيع أن تسلم — مثلًا — بأن كل ما يتعلق بالجسم صادر عن الذات، وتؤكد في الوقت ذاته أن هناك صفات لا تستطيع الذات أن تبعث فكرة الجسم دون بعثها هي الأخرى، وصفات أخرى يمكن بعث فكرة الجسم بدونها، فالكيفيات الأولى في هذا التفسير جزء من «تصور» الجسم ذاته، سواء كان مصدر هذا الجسم ذاتيًّا أو موضوعيًّا.
- ثالثًا: وربما كان مما يؤيد هذا التفسير، تردُّد لوك في كتاباته بين التفسيرين: المثالي والمادي، فهو في بعض المواضع يؤكد أن «معظم أفكار الإحساس توجد في الذهن دون أن تشابه شيئًا يوجد خارجنا، مثلما أن الأسماء التي تدل على هذه الأفكار لا تشابهها، وإن كانت تثير فينا هذه الأفكار عندما نسمعها.»١١ ولكنه من جهة أخرى يتحدث حديثًا شبه مادي عن حركة من أعصابنا أو أرواحنا الحيوانية إلى المخ، وعن حركة أجسام من الأشياء الخارجية إلى العين تبعث فينا صورها، أما الكيفيات الثانية، فينتقل تأثيرها إلى حواسنا عن طريق «دقائق لا تُدْرَك».١٢
ويؤكد لوك في نفس الموضع اعتماد هذه الكيفيات الثانية على الأولى، أعني اختلاف الألوان والطعوم … إلخ حسب اختلافات الحركة والشكل والعدد في الأجسام، وهكذا تظهر التفرقة بين نوعي الكيفيات عنده أقل شدة مما تُصَوَّر به عادةً، وعلى أية حال فإن تأرجح لوك وعدم جزمه بشيء في مسألة أصل الكيفيات، يدل على أن مشكلة الأصل هذه ليست هي التي تعينه، وهذا مما يرجح التفسير الذي نقترحه هنا، وهو أن تفرقته بين الكيفيات الأولى والثانية قد لا تكون إلا تفرقة لغوية تتعلق بعلاقة صفات الجسم المختلفة بتعريفه، وهي تفرقة تظل صحيحة مهما كان الأصل الذي يُنْسَب إلى هذه الكيفيات.
ويصل هذا الاتجاه إلى قمته في فلسفة باركلي، ففي هذه الفلسفة تُسْتَخْلَص كل النتائج المثالية لفكرة ذاتية الكيفيات، وفي وسعنا أن نتخذ من هذه الفلسفة أنموذجًا للفلسفة المضادة للموقف الطبيعي، فتفكير باركلي يمثل أبعد المراحل التي بلغتها الفلسفة في سيرها بعيدًا عن الموقف الطبيعي، وهو في هذا يمثل بصورة صادقة موقف الفيلسوف «المحترف»، الذي يدور تفكيره في عالم لا تربطه بعالم الذهن المعتاد إلا صلة عدم الاعتراف المتبادل.
- (١)
والآن، فلنتساءل عن المعنى الحقيقي لفكرة ذاتية الكيفيات، ولنضرب مثلًا بأقرب هذه الكيفيات إلى الطبيعة الذاتية — حسب الفرض المثالي — وهي اللون، إن المثالي يعرض فكرته بقوله: إن هذا الحائط الذي يبدو لي أبيض، ليس «في حقيقته» أبيض، فما هو معنى هذه العبارة الأخيرة؟ ترتد الحجج المثالية التي تبرر هذه الفكرة في نهاية الأمر إلى أن التحليل العلمي للون الأبيض — سواء من ناحية طبيعة الموجات الضوئية أو كيفية التقاط حدقة العين لها — يطلعنا على حقيقة مختلفة عما تطلعنا عليه الحواس في موقفنا المعتاد، وهذا أمر لا يستطيع أحد أن ينكره، ولكن لا يصح أن نستنتج منه أن «الحائط ليس في حقيقته أبيض»؛ إذ إننا عندما نقول: إن الحائط أبيض نقصد أنه في مستوى الإدراك المعتاد أبيض، وهو بالفعل لا يمكن إلا أن يكون كذلك في هذه الحدود.
فالحجة المثالية إذن تنطوي على خلط بين الموقف المعتاد والموقف العلمي التفسيري، وتنقد الأول عن طريق حقائق لا تصح إلا في الثاني، ونستطيع أن ندعم هذا الرأي إذا لاحظنا أن فكرة ذاتية الكيفيات لم يُعَبَّر عنها بصورة واضحة إلا بعد وصول العلم إلى مرحلة معينة من التقدم، هي تلك التي أمكن فيها تحليل الألوان والأصوات إلى موجات لها ذبذبات أو أطوال معينة … إلخ، ومما يزيد هذا الفرض قوة: ما لاحظه آرون R. Aaron في كتابه عن «لوك» من أن روبرت بويل كان أول مَنْ وضع تفرقة حاسمة بين الكيفيات الأولى والثانية، وأكد أن الثانية ترتد إلى الذات،١٦ فليس من قبيل المصادفة أن تظهر فكرة الذاتية هذه على يد عالم معروف؛ إذ إنها — كما قلنا — ترجع إلى بلوغ العلم مرحلة معينة، وإلى تحمُّس أصحاب الاتجاهات المثالية بين الفلاسفة لهذه الكشوف إلى الحد الذي أدى إلى خلطهم بين مجالَي الموقف العلمي والموقف المعتاد، ولنذكر دائمًا أنه مهما كانت كشوف العلم في هذا الميدان، فستظل النظرة المعتادة صحيحة في ميدانها، ولو قال شخص: «إن هذه الورقة ليست في حقيقتها ملساء؛ لأنها تبدو تحت المجهر أشبه بالجبال والسهول.» لكُنَّا أسرع إلى إدراك المغالطة في رأيه هذا، وإلى تبين ما ينطوي عليه من خلط بين موقفين مختلفين، غير أن هذا القول لا يختلف في شيء عن الرأي المثالي القائل إن الحائط في حقيقته ليس أبيض، سوى أن الخلط أقل وضوحًا في الحالة الثانية. - (٢) فإذا حلَّلنا فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركًا» من الوجهة المنطقية للاحظنا على الفور أن أحد طرفيها — وهو «وجود الشيء» — هو الذي يتركز عليه الاهتمام، فالفكرة في الواقع محاولة لتعريف كلمة «وجود الشيء»، ولكن باركلي — وكذلك من سار في طريقه من الفلاسفة — لم يهتم كثيرًا بتحليل الطرف الثاني، وهو كلمة «كون الشيء مدركًا»، وعلينا دائمًا أن نلحَّ في طلب تعريف ﻟ «كون الشيء مدركًا»، وأن نتساءل: متى يكون الشيء مدركًا؟ إن الشيء لا يكون مدركًا «كلما أردنا ذلك»، وفي هذا المعنى المرفوض وحده تكون الذاتية التامة صحيحة، وإنما يكون الشيء مدركًا تحت شروط معينة لا بد من توافرها وإلا لما تسنَّى لنا إدراكه، فباركلي يؤكد أن المنضدة الموجودة في حجرة مغلقة لا وجود لها بالنسبة إليَّ إلا إذا أدركتها، ولكن ينبغي تكملة هذا التدليل بالقول: إنني لا أدركها إلا إذا انتقلت إلى الحجرة ذاتها، أي إن هناك شروطًا معينة يخضع لها إمكان إدراك الشيء، وهي شروط لا أستطيع التحكم فيها ذاتيًّا، بل ينبغي أن أقبلها كلها كما هي؛ لأنها غير متوقفة على إرادتي، وهكذا يبدو أنه إذا كانت فكرة الوجود esse تحيلنا إلى فكرة الإدراك percipi، فإن فكرة الإدراك — بما تفترضه من شروط غير متوقفة على الذات — تحيلنا ثانية إلى فكرة الوجود.
- (٣) أما من الناحية العملية — وهي أساسية في موقفنا الطبيعي — فإن فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركًا» تؤدي إلى العجز التام عن التصرف في هذا الميدان، فجميع مواقفنا العلمية مبنية على عكسها، ومجرد استخدامنا لملكات التذكر والتوقع والتخيل يعني أننا نخالف هذه الفكرة ولا نقول بوجود هوية بين وجود الشيء وكونه مدركًا، فإذا لم يكن في إمكاننا القول بوجود الأشياء «دون» كونها مدركة لاستحال حديثنا عما يجري في بلد آخر، أو في الشارع المجاور، أو ما سيقع إذا حدث كذا … ولما أمكننا أن نتقدم عمليًّا خطوة واحدة.١٧
ونستطيع أن نقول: إن التقدم الأكبر الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان يتمثل في تجاوز فكرة «وجود الشيء هو كونه مدركًا»، فالحيوان — على الأرجح — هو الكائن الذي يؤمن بهذه الفكرة ويطبقها بحذافيرها؛ لأنه لا يعرف كيف يتذكر أو يتوقع بوضوح، وكيف يربط الماضي بالحاضر، ولأن كل ما يمر به جديد منفصل مفكك، ولم يستطع الإنسان أن يعلو على مرحلة الحيوانية هذه إلا لأنه عرف كيف يتخلص من هذه الفكرة، ويؤمن بوجود الأشياء من غير أن تكون مدركة، أي أن يتجاوز هذا «الموجود لأنه مدرك».
(٣) الأشياء بوصفها «ظواهر»
نستطيع من وجهة نظر الموقف الطبيعي أن نفرِّق بين المثالية «المادية» عند باركلي وبين المثالية «الظاهرية» عند «كانْت» على أساس أن الأولى تعد الخروج عن الموقف الطبيعي «نتيجة» نهائية، أما الثانية فتعده المقدمة الأولى لها، والمظهر الأول لأصالة منهجها، فمن الواضح أن باركلي لم ينتقل إلى القول بأن وجود الشيء هو كونه مدركًا إلا بعد تفكير متدرج مرت به فلسفته هو ذاته ومرت به الفلسفات الحديثة السابقة عليه، حين أخذت ترد المزيد من صفات الأشياء تدريجيًّا إلى الذات، فكانت النتيجة الطبيعية في النهاية هي التخلي عن الموقف الطبيعي على نحو ما فعل باركلي، أما بالنسبة إلى «كانت» فالمسألة ليست استدلالًا أو تطورًا تدريجيَّا، بل هي منهج جديد وضعه بإرادته، وحاول فيه أن يجعل الأشياء تدور حول محور الذات، أي أن يتخذ عمدًا — ومنذ البدء — الموقف المضاد للموقف الطبيعي، وتلك — بلا شك — طريقة أكثر فعالية في محاربة الموقف الطبيعي، ومن هنا كان قول شوبنهور في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «العالم إرادة وتَمَثُّلًا»: «إن تعاليم «كانْت» لَتُحْدِث تغييرًا أساسيًّا في كل ذهن استوعبها … فهي وحدها القادرة فعلًا على إزاحة الواقعية الفطرية التي تنشأ عن الميل الأصلي للعقل، وهذا أمر لا يقدر عليه باركلي ولا ما لبرانش … ونتيجة لذلك تنكشف عن العقل غمامته تمامًا، وينظر إلى كل الأشياء بعد ذلك في ضوء جديد … أما مَنْ لم يستوعب فلسفة «كانت» … فهو في حالة البراءة، أي إنه يظل واقعًا تحت سيطرة تلك الواقعية الطبيعية الطفلية التي نُولد كلنا فيها، والتي تؤهل المرء لكل شيء ممكن ما عدا الفلسفة.»
ويبدو أن «كانْت» كان يقصد باركلي حين تساءل في مستهل مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص»، في صدد حديثه عن أسبقية التجربة في كل معرفة لنا «… كيف تدفع ملكة المعرفة لدينا إلى العمل ما لم تكن الأشياء التي تؤثر في حواسنا تنتج من ذاتها — من جهة — تمثلات، وتثير — من جهة أخرى — نشاط ذهننا ليقارن هذه التمثلات، ويقوم — عن طريق الجمع بين المادة الخام للانطباعات الحسية أو التفريق بينها — بتحويل هذه المادة إلى تلك المعرفة بالأشياء المسماة بالتجربة؟ وهكذا يتضح لنا المعنى الذي قصده «كانت» حين أطلق على فلسفة باركلي اسم «المثالية المادية»؛ فباركلي يجعل من الذهن — الإلهي أو البشري — مصدرًا للحدس ولكل صورة أو ترتيب يظهر به ذلك الحدس. أما بالنسبة إلى «كانت» فالحدس «معطى»، ودور الذهن ينحصر في بعث الوحدة والنظام والترتيب في ذلك الحدس، وهنا قد يبدو أن مثالية «كانْت» أخف حدة من مثالية باركلي، ولكن الواقع أن درجة الخروج عن الموقف الطبيعي لا تقل عند «كانْت» عنها عند باركلي؛ ذلك لأن هذا الحدس الذي أخرجه من سلطة الذهن هو مجرد مادة للإدراك لا تُعْرَف إلا من خلال التشكيل الذهني، ولا تُفْهَم إلا بما فيها من صور وقوالب ذهنية، فلم يكن قول «كانْت» إذن: إن صورة الإدراك — لا مادته — هي التي تأتي من الذهن، لم يكن هذا القول في واقع الأمر محاولة للاقتراب من الموقف الطبيعي على الإطلاق؛ إذ إن مادة الإدراك عنده مجرد مجهول لا قيمة له في أية معرفة، ولا يمكن للمرء الوصول إليه مهما بذل من جهد، بل إنها بالنسبة إلى فلسفة «كانت» تكملة منطقية لبناء المذهب فحسب.»
ففي نفس الوقت الذي أكد فيه «كانْت» أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، حرص على أن يوضح ذلك بأنه لا يعني أنها كلها تنشأ «عن التجربة»؛ «إذ إن من المحتمل أن تكون التجربة ذاتها مؤلَّفة مما نتلقاه من الانطباعات وما تقدمه ملكة المعرفة … بذاتها.» (مقدمة الطبعة الثانية)، وأستطيع أن أقول: إن كلمة «من المحتمل» هنا ليست تعبيرًا عارضًا، بل إنها تكشف عن وجه في المثالية الظاهرية عند «كانت»، هو أن هذه المثالية قُدِّمت في البداية على أنها فرض قيم قد يفيد في إرساء الميتافيزيقا على أسس علمية متينة، فمنذ مقدمة الطبعة الثانية يوضح «كانت» هدفه بأنه محاولة بناء الميتافيزيقا على أسس راسخة كتلك التي تُبْنَى عليها الرياضة والطبيعة، وهو لهذا الغرض يجرِّب طريقًا آخر لتفسير العلاقة بين الأشياء والذهن غير طريق الموقف الطبيعي، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن فلسفة «كانْت» النظرية كانت ثورة كبرنيكية، لا بمعنى أنه أراد منها أن تحدث انقلابًا شاملًا في تحديد العلاقة بين الأشياء والذهن فحسب، بل أيضًا بمعنى أنها — كالنظرية الكبرنيكية الفلكية — كانت «فرضًا» خاضعًا للتحقيق، وينبغي الحكم عليه حسب ما يؤدي إليه من نتائج، ومن هنا كان علينا أن نعامل فلسفة «كانت» النظرية بأسرها على أنها «فرض»، أو محاولة قصد بها النظر إلى الأشياء في ضوء جديد، هو ذلك الذي تكون فيه الأشياء «دائرة في فلك الذات» — إن جاز هذا التعبير، وأن نحاول إصدار حكم على هذه الفلسفة في هذا الضوء، ونعاملها — كأي فرض علمي — حسب قدرتها على تحقيق الهدف الذي وضعته لذاتها منذ البداية، وتفسيرها للظواهر الواقعة في نطاقها تفسيرًا سليمًا.
هنا يتحدث «كانت» عن الموضوع «غير المحدد» للحدس التجريبي، ويطلق عليه اسم «المظهر»، وهذه التسمية وحدها تجر وراءها الموقف المثالي بأسره، مع أنها لا تبدو هنا إلا في صورة تعريف تمهيدي، وأفضل تعليل لهذا الاستخدام غير المسبوق ببرهان لكلمة «المظهر»: ما تتضمنه من ضرورة القول بأشياء في ذاتها، وبأن هذه الأشياء في ذاتها مجهولة، ما دام موضوع الحدس التجريبي هو ما ينقل إلينا المحسوسات، نقول: إن أفضل تعليل لذلك هو أن «كانْت» قد أراد منذ البداية اتخاذ ذلك الموقف المثالي الذي يُسَمَّى «بالمظهر» ما نطلق عليه في موقفنا المعتاد اسم «الشيء»، والذي يعتقد بوجود حقيقة أخرى وراء ما ندركه من الشيء، لا تنقلها إلينا الحواس، وربما كانت غير قابلة للنقل على الإطلاق.
والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الفرض في نظر «كانت» ناجح كل النجاح: فعلى أساسه يستطيع تبرير الرياضة والطبيعة تبريرًا أوليًّا، ويستطيع أيضًا أن يمكِّن الميتافيزيقا من أن تسير في «طريق العلم المأمون»، هذا ما اعتقده «كانت» حين وضع مؤلفاته، ولكن التطور التالي قضى — كما هو معروف — على كل المبررات التي وضعها لمذهبه: فالرياضة والطبيعة سارتا في اتجاه مخالف تمامًا لذلك العلم «الخالص» الذي تصوره، والميتافيزيقيا اشتدت خلافاتها الداخلية وتناقضات مذاهبها حتى أصبحت أبعد مما كانت في أي وقت مضى من «طريق العلم المأمون».
… إن كل حدس لنا ليس إلا تَمَثُّلًا لمظهر، وإن الأشياء التي ندركها بالحدس ليست في ذاتها على نحو ما ندركها بالحدس، وإن تركيب علاقاتها ليس في ذاته على نحو ما يبدو لنا، وإنه إذا ما أزيلت الذات، أو حتى التركيب الذاتي للحواس بوجه عام فحسب، لاختفى كل تركيب للأشياء وكل علاقاتها في المكان والزمان، بل لاختفى الزمان والمكان ذاتهما، فهما — بوصفهما مظاهر — لا يمكن أن يوجدا في ذاتهما، بل فينا نحن فقط، أما ما قد تكونه الأشياء في ذاتها مستقلة عن كل قدرة لحساسيتنا على تلقيها فذلك ما يظل مجهولًا لدينا تمامًا، ونحن لا نعرف إلا طريقتنا في إدراكها، وهي طريقة خاصة بنا، ولا يشارك فيها كل موجود بالضرورة، وإن كان كل كائن بشري يشارك فيها حتمًا.
هذا النص يُظهر بوضوح الطابع «اللاأدري» لمثالية «كانت»: فهي مثالية تستطيع أن تؤكد شيئًا واحدًا: هو أن الأشياء كما تبدو لنا «ظواهر»، أما ما وراء هذه الظواهر، فذلك هو المجهول الذي لا تذكر تلك المثالية أي شيء عنه، وينبغي أن نلاحظ هنا وجود تناقض بين قضيتين متلاحقتين عند «كانت»: أولاهما هي القائلة إن مظهر الأشياء كما ندركها «مختلف» لدينا تمامًا، فإذا صحَّت القضية الثانية، فإن هذا لا يعني صحة الأولى على الإطلاق، وينبغي أن يمتنع الفيلسوف — إذا كان «لاأدريًّا» على هذا النحو — عن إصدار أي حكم إيجابي على طبيعة الأشياء في ذاتها، كالقول: إنها «مختلفة» عن الظواهر؛ ذلك لأن هناك عدة احتمالات منطقية عن العلاقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها، ضمنها احتمال كونها «مماثلة» للظواهر، وطالما أننا نفرِّق بين الظواهر والأشياء في ذاتها مثل هذه التفرقة القاطعة، ونؤكد أن الثانية «مجهولة تمامًا»، فمن الواجب أن نعمل حساب ذلك الاحتمال الذي تكون فيه الأشياء في ذاتها مماثلة لظواهرها، وهو احتمال يظل قائمًا طالما أن الأشياء في ذاتها «مجهولة».
مثل هذه التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها هي مظهر من مظاهر خروج المثالية عن الموقف الطبيعي، وهو مظهر أَطْلَقَ عليه «كانت» اسم «المثالية النقدية»، والفارق بين المثالية النقدية وبين مثالية باركلي «المادية» — من وجهة نظر الموقف الطبيعي — يتمثل في فكرة «الشيء في ذاته» هذه، فباركلي و«كانت» متفقان على أن الوجه المدرك للأشياء يرجع إلى مجرد إدراك الذات له عند الأول، أو «طريقتها» في إدراكه عند الثاني، غير أن «كانت» يفترض من وراء هذا الوجه المدرك طبيعة أخرى «مجهولة» هي التي تمثل الأشياء «كما هي في حقيقتها»، وهذا الوجه بطبيعته مخالف تمامًا لما ندركه من الأشياء في الموقف الطبيعي، أي إننا نستطيع في الواقع أن نقول: إن «كانْت» قد خالف الموقف الطبيعي مرتين: مرة حين أكَّد أن الوجه المدرك للأشياء راجع إلى الذات، ولا يمثل صفات موضوعية، ومرة حين أكد أن ما ندركه من الأشياء لا يستوعب كل ما فيها، بل إن لها طبيعة كامنة مخالفة لما ندركه، والقولان — كما هو واضح — مرتبطان في فلسفته ارتباطًا وثيقًا.
وهكذا ينتهي «كانت» إلى هذه النتيجة الغريبة: فخروجه عن الموقف الطبيعي، وتسميته للأشياء «بالظواهر»، يحتم عليه — كما رأينا — افتراض الفكرة المتضايفة مع الظواهر، أعني الأشياء في ذاتها، ولكن على الرغم من أن مذهب «كانت» لا يكتمل بدون فكرة الأشياء في ذاتها هذه، فإن تصوره لها محاط بالغموض من البداية إلى النهاية، ولا يكاد المرء يجد عنده أي وصف محدَّد للفكرة يرتكز عليه، وهكذا يبدو من الغريب حقًّا ألا يجد الفيلسوف سوى صفات غامضة كل الغموض لوصف فكرة لها مثل هذا الموقع الأساسي في مذهبه.
ووجه الاستحالة في مثل هذا النوع من التفكير، الذي يتخذ في ظاهره طابع الموضوعية، ولكنه في حقيقته أبعد ما يكون عنها، إننا لا يحق لنا الكلام عن وجه آخر للأشياء لا سلبًا ولا إيجابًا، أعني لا يحق لنا الكلام عن وجه للأشياء لا تكون فيه موضوعًا لطريقتنا الخاصة في الإدراك، أو تكون موضوعًا لطريقة أخرى في الإدراك؛ إذ إن لنا تجربة واحدة باعتراف الجميع، وهذه التجربة الواحدة لا تسمح لنا حتى بتخيل الطريقة التي قد توجد بها أية تجربة أخرى.
وليحاول كلٌّ منا أن يركز فكره فيما يعنيه «كانت» «بالشيء في ذاته»، الذي هو الشيء لا كما تدركه حواسنا أو ذهننا، بل كما هو «في حقيقته»، أي الشيء غير المقيد بطريقتنا الخاصة في الإدراك، التي ترتبط بالتركيب الخاص لحواسنا وذهننا فحسب، ليحاول أن يركز فكره في معنى هذه الكلمة، وسيجد أنها في واقع الأمر خالية تمامًا من أي معنى، فنحن نستطيع مثلًا أن نتصور طريقة «القط» في الإدراك على أنها مخالفة لطريقتنا في الإدراك، وذلك على أساس تجارب معينة ثبت فيها أن القط أقدر على الرؤية في الظلام وأقوى في حاسة الشم … إلخ، أما الجزم مقدمًا، ودون وجود أي أساس من التجربة، بأن هناك مقياسًا معينًا — هو هذا «الشيء في ذاته» — يتخذ أساسًا للحكم على كل طريقة أخرى للإدراك بأنها إدراك لظواهر، دون أن يكون هناك أي أساس تجريبي لمثل هذا المقياس المزعوم، فخطأ منهجي أساسي.
ولو كان لنا أن نتحدث عن تدرج في قيمة طرق الإدراك المختلفة للأشياء — حسب مكانة الحيوانات المتدرجة في سلم الحياة بما فيها الإنسان — لما كان لنا أن نقول إلا أن طريقة الإنسان أكملها. حقًّا إننا قد نجد حيوانات لها حواس معينة أحدُّ وأقوى بكثير من حواسنا المناظرة، غير أن الصورة العامة التي يصل إليها الإنسان، والتي تتضافر فيها حواسه مع ملكاته الذهنية والنفسية، لا توجد إلا على نحو واهٍ أو لا توجد على الإطلاق لدى بقية الكائنات، وهذه الصورة هي — بلا شك — أدق من كل الصور الأخرى، والدليل الدامغ على هذا هو أنه أنجح الجميع في التعامل مع الطبيعة وإخضاعها، وإذن فأقصى ما يمكننا عمله هو أن نجري مثل هذه المقارنات «الداخلة في نطاق التجربة» بين الإنسان وبين كائنات أخرى، أما أن نحاول تجاوز نطاق تجربة الإنسان ذاتها وتصور الأشياء في صورة مجهولة لا تنتمي إلى أية تجربة على الإطلاق، فتلك — بلا شك — محاولة مستحيلة لا معنى لها، وإذا كانت مثل هذه المحاولة المستحيلة تؤدي إلى الحط من تجربة الإنسان إلى مرتبة الظواهر — بالنسبة إلى هذا «المجهول» المسمى بالشيء في ذاته — فلا شك في أن هذه نتيجة أخرى مستحيلة؛ لأن أقصى وأرفع ما يمكننا عقلًا أن نتصوره من التجارب هو تجربتنا نحن، الذي لا يعلو عليها شيء في سلم التجارب المعروفة لنا، أو التي يمكن أن تكون معروفة لنا.
ويُعَدُّ إخفاق فكرة «الشيء في ذاته» هذه إخفاقًا للموقف الكانتي بأسره: «فكانت» قد وضع «الفرض الكبرنيكي» — الذي تكون الأشياء بمقتضاه متفقة مع طريقتنا في المعرفة لا العكس — آملًا أن يستطيع بذلك تفسير كل ظواهر المعرفة من الوجهة الفلسفية، ولكن فرضه هذا يتضح إخفاقه التام حين نراه يؤدي ضرورةً إلى فكرة الشيء في ذاته، أي إلى افتراض وجود وجه للأشياء لا يقوم على أساس أية تجربة، فإذا حاول أحد تخليص فلسفة «كانت» من فكرة «الشيء في ذاته»، فلن يكون قد خلَّصها من عنصر زائد لا قيمة له كما ظن خلفاء «كانت»، بل إنه سيقضي في هذه الحالة على التمييز بين الأشياء كما ندركها، وبين الأشياء كما هي «في ذاتها»، وهذا يقتضي ألا نطلق على الأشياء كما ندركها اسم «الظواهر»، وهذا بدوره يؤدي إلى الامتناع عن ربط الأشياء «بطريقتنا الخاصة في المعرفة»، أو بقوالبنا الحسية والذهنية الخاصة، وهذا معناه انهيار مذهب «كانت» من أساسه.
والذي يعنينا من هذا كله هو أن الفرض الذي وضعه «كانت» في البداية — وهو الفرض الذي أعلن فيه مخالفته للموقف الطبيعي — ينتهي حتمًا إلى الإخفاق، ويبدو، في رأينا، أن منهج «كانت» ذاته كان يحتِّم عليه ألا يتسرع باتخاذ هذا الفرض نقطة بداية لتفلسفه؛ ذلك لأن كل هدف هذا المنهج هو التفرقة بين الميتافيزيقا من حيث هي شرط لإمكان التجربة، وبين الميتافيزيقا من حيث هي محاولة لتجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، ثم إثبات استحالة الميتافيزيقا بالمعنى الثاني، وانتهائها إلى قضايا يمكن إثبات عكسها بنفس القوة التي يمكن بها إثباتها هي ذاتها، ولكن لو تأمَّلنا تلك القضية الرئيسية التي يتخذها «كانت» نقطة بداية لفلسفته — وهي «أننا ندرك ظواهر لا أشياء في ذاتها» — لوجدناها تنتمي في الواقع إلى تلك الميتافيزيقا التي تحاول تجاوز التجربة عن طريق العقل الخالص، فتلك القضية ليست تجريبية أو ممكنة للتجربة؛ لأن التجربة لا تطلعنا على شيء وراء ما ندركه، ومن الممكن أن تؤدي إلى «نقيضة» على نفس النحو الذي أدت به قضية «للعالم بداية في الزمان» إلى نقيضة في نظر «كانت»: فمن الممكن أن نقول بنفس القوة: إننا ندرك ظواهر، وإننا ندرك أشياء في ذاتها، وذلك طالما أن القضية تنتمي إلى مجال العقل الخالص الذي يحاول تجاوز التجربة.
ولسنا في حاجة إلى أن ننبه إلى أن هذا الإخفاق لا يقتصر على «كانت»، فمن الواضح أن الكثيرين من أصحاب التفكير المثالي — في الميدان الفلسفي والخالص وفي ميدان النقد العلمي كذلك — يفترضون التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها ضمنيًّا، ولا يفترقون عن «كانت» إلا في أن الأخير نادى بها صراحةً، وجعلها جزءًا مكملًا للبناء الفلسفي الذي حاول تشييده، فالقول بالشيء في ذاته يظهر ضمنيًّا لدى القائلين بأن الشروط التي نتفق فيها على معرفة الأشياء ليست بالضرورة منتمية إلى الماهية «الحقيقية» للأشياء، وهو قول يتخذ آلاف الصور والأشكال، ويعبر عن موقف عظيم الشيوع بين فئة كبيرة من المفكرين.
•••
- (١)
معنى خاص، فردي أو جزئي، يتمثل في الاختلافات بين الأفراد، وهي الاختلافات التي تصل إلى حد التطرف في حالات المرض أو غيرها من الحالات غير المألوفة، مثلما يقول المصاب بعمى الألوان عن العشب الأخضر: إنه أبيض «بالنسبة إليه».
- (٢)
ومعنى عام، يتمثل في حالات الإدراك السوية التي تشترك فيها الغالبية العظمى من الناس، وفي هذا المعنى تكون الأشياء منسوبة إلينا، بمعنى أن حواسنا تتحكم إلى حد ما في طريقة إدراكنا، وأن لها دورًا ما في تكوين الصورة النهائية للشيء.
ومن جهة أخرى لا يمكن أن ينكر أحد كون الأشياء التي نعرفها متصلة بنا، ومنسوبة إلينا «على نحو ما»، ولكن مثل الانتساب عام مشترك بين كل أفراد الناس إلى حد أن التنبيه إليه غير مُجْدٍ، فهو كالحد المشترك بين طرفي كسر، يحسن دائمًا حذفه من الطرفين معًا؛ ولهذا فلا ضير على الإطلاق — رغبةً في التمييز بين المعنيين — من الاحتفاظ بمعنى النسبية للمعنى الأول، أما ما هو نسبي بالمعنى الثاني، فيمكن أن يُسَمَّى شيئًا في ذاته، لا بالمعنى الكنتي وإنما بالمعنى «الإنساني» إن صح هذا التعبير، أي بمعنى أنه هو ما تتفق عليه جميع الأذهان، ولا يدركه الجميع إلا على نحو واحد.
(٤) «مذهب الظاهريات» والموقف الطبيعي
أما رأي هوسرل في «الموقف الطبيعي» — وهو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره — فيتعلق باتجاه أو نزوع ثابت لا علاقة له بمرحلة معينة من مراحل تطور العلم، إنه موقف الإنسان «المتجه إلى العالم»، والذي يتعامل مع هذا العالم بوصفه حقيقة قائمة بذاتها، ويقبل العالم على ما هو عليه، ويندمج فيه على هذا الأساس، ومن الواضح أن المواقف التي اتخذها هوسرل من هذا الموضوع لا شأن لها بمعركته مع المذهب الطبيعي؛ إذ إن ما يحلله هوسرل تحت باب «الموقف الطبيعي» ليس على الإطلاق ظاهرة مرهونة بعصر معين، ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نتصور نوعًا من الاتصال بين المجالين: فالمذهب الطبيعي في العلم لا بد أن يتضمن تصورًا للعالم قائمًا على أساس الموقف الطبيعي، ولكنا سنظل مع ذلك قادرين على تصور الموقف الطبيعي (في حالة الإنسان العادي أو مفكري العصور القديمة مثلًا)، بغض النظر عن تلك المرحلة العلمية التي أدت إلى سيادة المذهب الطبيعي.
فهل خاض هوسرل — ضد الموقف الطبيعي — معركة مماثلة لتلك التي خاضها ضد المذهب الطبيعي في العلم وفي دراسة الإنسان؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بأن تحدد موقع فلسفة الظاهريات وسط مجموعة المذاهب المثالية التي تنكر الموقف الطبيعي بصورة أو بأخرى:
أول ما ينبغي أن ننبه إليه هو الاتساع الهائل في معنى «الموقف الطبيعي» عند هوسرل؛ ذلك لأنه قد يتبادر إلى ذهن البعض أنه لما كان هوسرل قد نظر إلى الخروج عن الموقف الطبيعي على أنه هو الخطوة الأولى في التفلسف، فمعنى ذلك أن الموقف الطبيعي عنده عقبة ضئيلة الشأن ينبغي أن تُزاح أولًا، لكي يبدأ بعد ذلك أي تفلسف حقيقي، ولكن الواقع أن ما يقصده هوسرل «بالتفلسف» في هذه الحالة هو تفلسفه هو، فنوع التفلسف الخاص بمذهب الظاهريات هو الذي يحتاج للبدء فيه إلى إزاحة عقبة الموقف الطبيعي، ولكن هوسرل لا يجعل من هذه الإزاحة شرطًا لكل تفكير يكشف لنا حقائق عن العالم، فقد كانت هناك — ولا تزال — فلسفات ومذاهب فكرية وعلمية يعترف بها هوسرل، وترتكز كلها على الموقف الطبيعي.
وهنا يصبح في استطاعتنا أن نستجمع خيوط الفكر السابقة؛ لكي نصل إلى تحديد دقيق للرأي الذي تتخذه فلسفة الظاهريات إزاء الموقف الطبيعي، وعلاقة هذه الفلسفة ببقية المذاهب المثالية التي ينصبُّ عليها نقدنا في هذا الكتاب.
فقد تبين لنا أن خروج مذهب الظاهريات عن الموقف الطبيعي يختلف اختلافًا أساسيًّا عن خروج المذاهب المثالية الأخرى عن هذا المذهب: فهو ليس خروجًا حتميًّا، تُمْلِيه ضرورات فكرية لا يمكن التخلص منها، وإنما هو خروج اختياري يقوم به الفيلسوف بمحض إرادته، مستهدفًا منه كشف وجهة نظر جديدة وآفاق جديدة لا تتبدى إلا بعد «تعليق» العالم الطبيعي و«تعطيل» موقفنا الطبيعي الذي نعترف فيه بهذا العالم ونندمج فيه، إن المثاليات التقليدية تضعنا أمام اختيار يتحتم علينا القيام به: فإذا اعترفنا بوجود العالم أنكرنا المثالية، وإذا اعترفنا بالمثالية تحتَّم علينا أن نرفض الموقف الطبيعي الذي يفترض وجود العالم. أما هوسرل فإنه يريد أن يخرج عن الموقف الطبيعي مع بقاء هذا الموقف موجودًا بالنسبة إلى كل مَنْ لم يتخذ وجهة النظر الظاهرياتية، فمن الممكن أن نتصور — في إطار تفكيره — تعايشًا بين الموقف الظاهرياتي والموقف الطبيعي، على حين أن مثل هذا التعايش مستحيل من وجهة نظر المثاليات التقليدية.
ولنذكر — في هذا الصدد — أن دعوة هوسرل إلى قهر الذات الطبيعية — عن وعي وبحرية كاملة — لحساب الذاتية الخالصة، هذه العودة الترنسندنتالية إلى الوعي المتحرر من التوجه نحو العالم الطبيعي، لا يمكن تصورها إلا في إطار ثقافة ظلت — طوال تاريخها — متوجهة نحو هذا العالم، واكتسبت كثيرًا من توجهها هذا، ففي الثقافة الهندية مثلًا — حيث ظهرت منذ فجر التاريخ مذاهب تجعل من العالم الطبيعي وهمًا وخداعًا — يستحيل أن نتصور فلسفة ظاهرياتية تطالبنا، بإلحاح، بأن نعطل الموقف الطبيعي والفكر الطبيعي والعالم الطبيعي والأنا الطبيعي، والواقع أن هوسرل إنما كان يسير — في دعوته هذه — في نفس الاتجاه الذي سارت فيه الرياضيات والمنطق حين اكتشفت مجالات جديدة لا تصدق عليها البديهيات القديمة، وإن لم تكن قد أنكرت استمرار فعالية هذه البديهيات في المجالات التقليدية، وهو ذاته الاتجاه الذي سارت فيه فيزياء القرن العشرين، حين رفضت النظرة الميكانيكية إلى العالم، مع اعترافها باستمرار انطباق هذه النظرة في مجالات خاصة، فظهور الفينومينولوجيا إنما هو حلقة في سلسلة بحث الثقافة الغربية عن أبعاد جديدة وأعماق جديدة، (ومما له دلالته أن التوافق الزمني بين كل حلقات هذه السلسلة كان توافقًا تامًّا)، وهذا البحث عن الأبعاد والأعماق الجديدة لا يُفْهَم إلا في إطار ثقافة تشبعت طوال تاريخها بالأبعاد والأعماق التقليدية، وهكذا فإن الدعوة إلى وضع الموقف الطبيعي بين قوسين هي دعوة لا يكون لها معنًى إلا في إطار مجتمع ظل طوال تاريخه يعترف بهذا الموقف ويبني علومه ومعارفه على أساسه.
وعلى أية حال، فإن المنطق نفسه يؤيد هذا الاستنتاج؛ إذ إنك لا تستطيع أن تضع ما هو غير موجود بين أقواس، فعملية الوضع بين أقواس هي ذاتها أقوى دليل على أن العالم الطبيعي موجود، وعلى أن الموقف الطبيعي يفرض نفسه، وأننا لا نستطيع الخلاص منه إلا مؤقتًا، وبعد عزوف وزهد وجهد.