مشكلة خارجية العالم

في هذه المشكلة يظهر أقوى تضاد بين الموقفين المثالي والطبيعي، وفيها أيضًا يتمثل قصور المثالية التام في ميدان نظرية المعرفة؛ ذلك لأن المثالية — بعد ما عرضناه في الفصل السابق من حججها — يتحتم عليها أن تواجه هذا السؤال: كيف يمكن تعليل ما يُسَمَّى في الموقف الطبيعي باسم العالم الخارجي؟ أي إن المثاليين قد يستطيعون أن يقولوا: إن وجود الأشياء هي كونها مدركة، أو أن ما ندركه من الأشياء ظواهر أو تمثلات، ومع ذلك فسيظل لزامًا عليهم أن يقدموا تفسيرًا لتلك الفئة من الظواهر التي نسميها في موقفنا الطبيعي باسم العالم الخارحي، وأن يعللوا صفة «الخارجية» التي ننسبها إلى هذه الظواهر عادةً، ونتصرف معها عمليًّا على أساسها، ونستطيع أن نقول: إن محاولة إيجاد هذا التفسير وهذا التعليل هي أعقد مشكلة تواجه كل فيلسوف مثالي.

(١) وجها مشكلة العالم الخارجي

علينا أولًا أن نفرِّق بين وجهين لمشكلة العالم الخارجي حدث بينهما كثير من الخلط في أذهان الفلاسفة:
  • (أ)

    أولهما: هل العالم الخارجي مستقل عن الذات، أي ذو وجود موضوعي؟

  • (ب)

    ما شكل هذا العالم الخارجي؟ وهل هو كما يبدو لنا، أم أن له شكلًا آخر؟

ولنبدأ بالسؤال الثاني، فنشير إلى ملاحظاتنا السابقة الخاصة باستحالة وجود شكل واحد للعالم في مختلف مواقف الإنسان: فالموقف العلمي — بآلاته المادية وأدواته الذهنية — يرسم للعالم صورة أو صورًا لا يمكن مقارنتها بالصورة التي نرسمها له في موقفنا الطبيعي، والتي ترمي إلى خدمة أغراض مختلفة عن تلك التي يخدمها الموقف العلمي، فهناك — كما قلنا — شكل للعالم في نظر عالم الفلك، وشكل آخر في نظر عالم البيولوجيا، وشكل ثالث في نظر عالم الطبيعة، وهذه الأشكال كلها تختلف عن شكل العالم كما ندركه في حياتنا اليومية، ولكن لا يمكن أن يُقال: إن واحدًا منها هو الصحيح، بل إن كلًّا منها صحيح في مجاله الخاص فحسب، ولكن إذا لاحظنا — كما قلنا من قبل — أن الفيلسوف لا يملك الأدوات المادية أو الذهنية التي تمكنه من اتخاذ الموقف العلمي، فعندئذ يتحول السؤال السابق — بالنسبة إلى الفيلسوف على التخصيص — إلى ما يأتي: هل تستطيع الفلسفة — بفضل تحليلاتها المنطقية وحدها — أن تصل إلى صورة أخرى للعالم غير صورته في الموقف الطبيعي؟ والرد المألوف على السؤال هو: نعم؛ لأن صورة العالم — كما ندركها — متوقفة على الذات، أما العالم «في حقيقته» فله صورة أخرى، أو لا بد أن تكون له صورة أخرى.

وهكذا نجد أن الرد الفلسفي على السؤال الثاني يثير حتمًا السؤال الأول، أي السؤال عن توقف العالم على الذات أو اعتماده عليها، أي إن الوسيلة التي تثبت بها الفلسفات ذات النزعة المثالية إمكان وجود صورة أخرى للعالم غير صورته في الموقف الطبيعي، هي أن تؤكد عدم استقلاله عن الذات، وبالتالي اشتراك الذات في تكوين الصورة الحالية، التي هي مجرد «مظهر» تختفي وراءه صورة أخرى «حقيقية» للعالم الخارجي.

وهنا ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الأول، وهو البحث في استقلال العالم أو وجوده الموضوعي، والنتيجة التي ينتهي إليها المثاليون في هذا الصدد هي أن تدخل الذات في تكوين صورة عن العالم الخارجي معناه أن هذا العالم ليس مستقلًّا عنا، وإنما هو معتمد علينا، وردنا على هذه النتيجة المثالية مزدوج: فعلينا أولًا أن نثبت أن فكرة انتساب الواقع إلى الذات لا تمنع من استقلاله، وعلينا بعد ذلك أن نثبت أن العالم الخارجي يجب أن يكون «بالفعل» مستقلًّا عن الذات، أي أن يحتفظ بخارجيته.

(٢) نسبية العالم الخارجي واستقلاله

سأقدم تبريرًا لرأيي — في هذا الصدد — المثالي التالي، وهو مثال له أهميته العظمى في تفنيد الحجة المثالية القائلة بعدم استقلال العالم نظرًا إلى كونه منسوبًا إلينا:

لنفرض أن هناك عالمًا آخر — غير عالمنا هذا — به كائنات مدركة ذات حواس وأذهان، وأشياء ذات وجود مستقل، ولنفرض أن هذه الكائنات لا تدرك الأشياء المستقلة إلا من خلال حواسها وأذهانها، عندئذ سيكون من الطبيعي أن تبدو هذه الأشياء — في نظر بعض هذه الكائنات — متوقفة في وجودها تمامًا على حواسها وأذهانها، على حين أنها، حسب الفرض ذاته، مستقلة.

وبعبارة أخرى، ففي حالة أي كائن يدرك الأشياء من خلال حواسه وذهنه، تُثار حتمًا مشكلة استقلال الأشياء، ولكن وجود هذا «الحاجز» الحسي والذهني الضروري لا يمنع من أن تظل الأشياء مستقلة، والفارق الحاسم في هذه الحالة هو نوع الشروط التي تُدرك بها هذه الأشياء من خلال الحواس والذهن: أي ما إذا كانت الحواس والذهن قادرة على أن تبعث الأشياء كلما شاءت ذلك، أو أنها لا تستطيع أن تبعث هذه الصورة إلا إذا توافرت شروط محددة بدقة.

وقد حلل «ك. أ. لويس» هذه المسألة تحليلًا دقيقًا، انتهى منه إلى أن ضرورة انتساب الواقع إلى ذات عارفة لا تتعارض على الإطلاق مع بقاء الواقع مستقلًّا، «فالواقع — بقدر ما يمكن أن يكون معطى في التجربة أو معروفًا — منسوب إلى العارف، ولا يمكن أن يُفْهَمَ إلا من حيث هو ظاهر أو قابل للظهور أمام مدرك في تجربة فعلية أو ممكنة، ولكن كون الطابع الوحيد الذي يمكن أن يُعْزَى إلى أي شيء حقيقي هو طابع يُوصف بعبارات نسبية — أي بالنسبة إلى تجربة ما — ليس معناه أن نأبى على هذا الشيء الطبيعة المستقلة، ولا يتعارض مع إمكان معرفة هذه الطبيعة.»١ والمسألة هي أن هذه الشروط — التي تتوقف عليها تجربة العارف في إدراك الشيء — محددة دائمًا بدقة، ولا بد أن يكون ما يحددها شيئًا آخر غير العارف ذاته؛ إذ إن هذا لا يعرف في أي وقت يشاء، بل يعرف كلما توافرت هذه الشروط، وإذن فهذه الشروط راجعة حتمًا إلى «الطابع الحقيقي والموضوعي للشيء …»٢ وإنه لمن سوء الفهم لطبيعة فكرة النسبية أن يستنتج المثالي من انتساب الشيء إلى الذهن أن الشيء «معتمد» تمامًا على الذهن.٣
ولعل من حسن حظ الباحثين في عصرنا الحالي أنه قد ظهرت أجهزة تُنْقَل عن طريقها بعض كيفيات الأشياء على نحو لم يكن ليخطر على بال الباحثين التقليديين في المعرفة على الإطلاق، وتسهم في حل المشكلة المتعلقة بانتساب هذه الكيفيات إلى الذات مساهمة قيِّمة، ولنتأمل مثلًا جهاز تسجيل الأصوات، فهذا الجهاز يبعث كيفية من كيفيات الأشياء — وهي الصوت — دون أن يكون هناك أي شبه بين المصدر الذي ينقل الصوت عن طريقه — وهو الشريط — وبين الصوت ذاته، فعن طريق الموجات الكهربائية المغناطيسية يبعث الجهاز كيفية مختلفة تمامًا عن هذه الموجات، ولا شك في أن الجهاز ذاته قد اشترك — بمعنى ما — في خلق الصوت، ولكن هل يعني ذلك أنه قد «تدخل» في جعل هذا الصوت على ما هو عليه؟ أو أن له دورًا فيما تكون عليه الصورة النهائية للصوت؟ الواقع أن الجهاز لا يبعث شيئًا من عنده على الإطلاق، وإنما «يترجم» الموجات إلى أصوات، ومما لا شك فيه أن طبيعة الشريط — أي نوع الموجات المسجلة عليه — هو العامل الوحيد المتحكم في نوع الصوت الصادر: أي في كونه صوتًا بشريًّا أو موسيقيًّا أو طبيعيًّا … إلخ، أي إن نوع الصوت يتوقف في هذه الحالة على عامل «موضوعي» لا شأن لجهاز التسجيل ذاته به، وهنا نجد مثالًا واضحًا لجهاز System يعتمد عليه التعبير عن الكيفية الحسية في صورتها المألوفة؛ (لأن الشريط دون الجهاز لا ينتج أي صوت)، ومع ذلك لا يمكن أن يُقال: إنه يخلق هذه الكيفية، التي تظل موضوعية مستقلة عن الجهاز ذاته، ولا تعتمد عليه إلا في «ترجمتها» أو نقلها إلى الصورة الصوتية، أما نوع هذه الصورة ذاتها، فذلك ما لا يتحكم فيه الجهاز على الإطلاق.

وأعتقد أن هذا المثل يفيد إلى حد بعيد في الرد على الاعتقاد القائل إن اعتماد الإدراك على الإنسان يجعله ذاتيًّا: ففيه تتمثل حالة واضحة لكيفية تعتمد على جهاز ما وتظل مع ذلك موضوعية مستقلة عنه.

وإذن، فمن الممكن — نظريًّا على الأقل — أن تكون الذات مشتركة في تكوين الصورة النهائية للشيء، مع بقاء هذا الشيء مستقلًّا عن الذات، والمعيار الأساسي لهذا الاستقلال هو وجود شروط «موضوعية» لا تخلقها الذات، وبدونها لا يُدْرَك الشيء.

ومهمتنا الآن هي تناول أمثلة مختلفة للمفكرين المثاليين، نناقش من خلالها الطريقة التي تعرَّض بها المثاليون لفكرة «موضوعية شروط الإدراك» هذه، ونتبين إلى أي حد كانت مشكلة خارجية العالم هي العقبة التي لم يستطع أي مذهب مثالي التغلب عليها بصورة منطقية سليمة.

(٣) خارجية العالم عند ديكارت

في الفقرة الأولى من الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة» يبرهن ديكارت على وجود الأجسام المادية ذات الطبيعة المستقلة عن العقل «على أساس أن فيَّ مشاعر لا أبعثها في نفسي كلما شئت وكما شئت، بل إن هناك شيئًا هو الذي يبعثها فيَّ، وقد يُقال: إن الله هو الذي يبعث فينا إحساسًا بوجود هذا الشيء الممتد طولًا وعرضًا وعمقًا، أو إنه يدفع شيئًا ليست له مثل هذه الطبيعة إلى بعث هذا الإحساس فينا، ولكن هذا معناه أنه يخدعنا، وهذا مخالف لطبيعته، فلا بد إذن أن يكون هناك بالفعل جوهر ممتد موجود في العالم، له كل ما ننسب إلى مثل هذا الجوهر من خصائص.»

ويلاحظ على رأي ديكارت هذا ما يأتي:
  • (١)

    أنه يجعل وجود العالم الخارجي في حاجة إلى «برهان»، أي في حاجة إلى مجموعة من «الاستدلالات» المنطقية التي «تثبت» هذا الوجود إذا أمكن الإتيان بها، والتي لو لم يتمكن الذهن من الوصول إليها لظل ذلك الوجود أمرًا مشكوكًا فيه أو غير مؤكد، وهذا افتراض لن نناقشه الآن، بل يكفينا في الوقت الحالي أن ننبه إليه فحسب.

    ويُلاحظ في هذا الصدد أن ديكارت أخذ يبحث عن برهان عندما عجز عن الاقتناع «بميلنا الطبيعي» إلى نسبة الوجود الخارجي إلى الأشياء، فهو يحرص (في التأمل الثالث) على أن يفرق بين «الميل الطبيعي» إلى الاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية — وهو دائمًا معرض للشك — وبين «النور الطبيعي» الذي يتعلق بحقائق واضحة لا سبيل إلى إنكارها مثل الكوجيتو، ولم يفكر ديكارت في الاحتمال المضاد، أعني احتمال كون «الميل الطبيعي» أقوى حجة من كل حقائق «النور الطبيعي» المزعومة التي لم يكن لها طابع «لا يُقاوم» إلا في ذهن ديكارت وبعض معاصريه، والتي أثبت التطور التالي للفكر البشري افتقارها التام إلى أي نوع من الوضوح أو البداهة.

  • (٢)

    أن ديكارت قد تنبَّه جيدًا إلى طبيعة الإدراكات المتعلقة بالعالم الخارجي، والتي تختلف عن الإدراكات أو المشاعر الباطنة اختلافًا جوهريًّا: ففي إمكاني دائمًا أن «أتخيل» منظر المنضدة حين لا أكون جالسًا بقربها، ولكني لا أستطيع كلما شئت أن «أدرك» منضدة على ذلك النحو الذي نسميه بالإدراك الفعلي، ولو كانت المسألة كلها «تمثلات» أو انبعاثات ذاتية لما كان لمثل هذا الإدراك أي شرط يتوقف عليه، ولكان مثل هذا الإدراك «إراديًّا» على الدوام، وإذن فوجود شروط للإدراك الخارجي «لا تتوقف على إرادتنا» دليل على أن لهذا الإدراك طبيعة مختلفة اختلافًا أساسيًّا.

  • (٣)

    وأخيرًا يُلاحَظ أن ديكارت كان في حاجة إلى دعامة من الإيمان لكي يتخلص من إمكان الخداع، فهو لا يستطيع الاهتداء إلى يقين بشأن وجود العالم الخارجي إلا بعد مساره الطويل من الشك إلى الكوجيتو ثم إلى وجود الله، ومنه إلى وجود العالم، أي إن وجود العالم الخارجي يظل معلقًا أو موضوعًا بين قوسين إلى أن يعود إليه عن طريق وسائط أخرى توصل إليه بطريق غير مباشر.

ولكن إذا تأمل المرء قليلًا دور فكرة الله في «ضمان» وجود العالم الخارجي لوجد أن المقصود من هذه الفكرة هو — في أغلب الأحيان — حل مشاكل خلقتها نفس فكرة الله ذاتها أو أفكار أخرى مشابهة، ففكرة لا إرادية المشاعر الخارجية مقنعة، والشيء الوحيد الذي يشكك فيها هو احتمال الخداع عن طريق قوة مسيطرة خارجة عني أو قوة فيَّ قادرة على تكوين هذه الأفكار دون معونة أي شيء خارجي، كما يحدث في الأحلام،٤ ومهمة فكرة الله في هذه الحالة هي أن ترد إليَّ ثقتي بإدراكي الخارجي؛ إذ لو وُجِدَت مثل هذه الملكة الخداعة لكان معنى ذلك أن الله يخدعني، وهو ما يتنافى مع الطبيعة الإلهية، وهكذا نلاحظ أن نفس الافتراض الذي ظهرت فكرة الله لدحضه — أي افتراض وجود ملكة خادعة ذاتية أو قوة من نوع «الشيطان الماكر» أو غيره — هو افتراض من نوع «فوق الطبيعي»، فمثل هذه الملكة إذا كانت ذاتية خالصة، فسيكون عملها غير مفهوم على الإطلاق؛ إذ إن إحساساتي بوجود العالم الخارجي — كما قلنا — لا إرادية، ولا يكفيني فيها مطلقًا أن أمارس إحدى ملكاتي، ناهيك بتلك الملكة التي لا تنتمي إلى أي شيء أعرفه، وعلى أية حال فإن هذه الملكة الباطنة غير المألوفة وغير الداخلة في نطاق المعرفة البشرية، لا بد أن تكون صادرة عن قوة خارج البشر تبعثها فيهم، مثل هذه القوة لا بد أن تكون مفروضة عليَّ من الخارج، أي لا بد من افتراض وجود نوع من الروح الخادعة أو الشيطان الماكر التي تتقمصني، وتدفعني إلى مثل هذا «الخداع».

ولست أدري: هل يُعد مما يتلاءم مع روح الشك السليمة التي بدأ بها ديكارت تفكيره أن يفترض مثل هذه الافتراضات؟ إن ديكارت قد بدأ بالشك في كل ما تلقاه من تعاليم فلاسفة العصور الوسطى والقديمة، وهذه نقطة بداية سليمة إلى أقصى حد، وهو يظن أن المضي في الشك إلى حد إثارة احتمال وجود «شيطان ماكر» ما هو إلا استمرار في طريق الشك السليم الذي وضعه لنفسه، ولكن الواقع أن إثارة مثل هذا الاحتمال تنطوي على نكسة فكرية شديدة تتعارض تمامًا مع روح «الشك المنهجي» بمعناها الصحيح، فكما أن الإهابة بالشياطين هي طريقة خرافية إذا اتخذت سبيلًا إلى حل مشكلة مجهولة، فإنها كذلك طريقة خرافية إذا اتُّبِعَتْ لإثارة الشك في معارفنا القائمة.

وهكذا يمكن القول: إن كثيرًا من الحجج التي أثارها ديكارت للتشكيك في خارجية العالم — وهي الخارجية التي تؤدي إلى الاعتقاد بها إدراكاتنا «اللاإرادية» لموضوعات هذا العالم — لم تكن حججًا سليمة، بل لم تكن متمشية مع روح الشك المنهجي التي دفعته إلى التفلسف، ولنلاحظ — على أية حال — أن الدور الذي تقوم به فكرة الله في هذا الصدد لا يعدو أن يكون إعادة الثقة «النفسية» إلى الإنسان بصحة إدراكه للعالم، ولو حلَّلنا جيدًا مغزى فكرة «استحالة كون الله خادعًا» لما وجدناها تخرج عن مجال إعادة الثقة النفسية هذا؛ إذ إن طريقة التفكير الشكي الأولى كان يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وكل ما في الأمر أن فكرة الله تتدخل هنا لتوقف عملية الشك هذه عن السير، وعلى أساس عملية «الإيقاف» هذه يتسنى للإنسان أن يستعيد الثقة بمعرفته، ويكف عن وضع الفروض الخيالية المؤدية إلى الشك.

والخلاصة: أن ديكارت رأى أن وجود العالم الخارجي في حاجة إلى «برهان» عقلي، وأن هذا البرهان يحتاج إلى دعامة من الإيمان لكي تضع حدًّا لقدرة الذهن على إثارة نقاط للشك لا نهاية لها، وأن من الممكن الاستغناء عن دعامة الإيمان هذه إذا كف الذهن عن إثارة الأسباب «الخرافية» للشك، وبهذا يظل من الصحيح أن العالم الخارجي لا بد موجود لسبب بسيط، هو أن الإدراكات التي تدلنا عليه لا تُبعث بإرادتنا، فلا بد إذن أن شيئًا خارجًا عنا هو الذي يبعثها، وهو السبب الذي نتجه إليه في «ميلنا الطبيعي» (أي موقفنا الطبيعي)، والذي لم يكن ديكارت على استعداد للاكتفاء به نقطة بداية لتفلسفه.

(٤) الذات الوحيدة الإلهية عند باركلي

لا جدال في أن باركلي كان بدوره متنبهًا كل التنبه إلى تلك الصعوبة التي تنبَّه إليها ديكارت، والتي يواجهها أي مذهب ذاتي يؤكد أن إدراكاتنا ترجع كلها إلى الذات، فمثل هذا المذهب يصطدم حتمًا بواقعة لا سبيل إلى إنكارها، وهي أن إدراكاتنا للعالم الخارجي لا تتوقف مطلقًا على مشيئتنا، «فأيًّا ما كانت القوة التي أتملكها على أفكاري الخاصة، فإني أجد الأفكار التي تُدرَك فعلًا بالحس غير معتمدة على إرادتي على هذا النحو؛ إذ ليس في مقدوري — عندما أفتح عيني في رائعة النهار — أن أختار بين الرؤية وعدم الرؤية، أو أن أحدد الأشياء التي يقع عليها بصري … فالصورة المنطبعة في هذه الحالة ليست من صنع إرادتي، ولا بد إذن أن تكون هناك إرادة أو روح أخرى هي التي تحدثها.»٥ هذه الروح الأخرى هي — كما نعرف — الروح الإلهية.

ويضيف باركلي إلى ذلك: ما تتصف به صور الحس من حيوية وتميز وإحكام وانتظام لا يتوافر في صور الخيال، وهذا الترابط المحكم لصور الحس فينا هو ما يُسَمَّى «بقوانين الطبيعة»، التي تغدو في هذه الحالة تعبيرًا مباشرًا عن الإرادة الإلهية.

ولنحاول الآن ترتيب الأفكار المتسلسلة التي يفسر بها باركلي خارجية العالم في ضوء مذهبه المثالي.

فهناك صور للحس وصور للخيال، الثانية أبعثها بإرادتي، والأولى تأتي من مصدر خارج عني لا أملك التحكم فيه، ويؤكد باركلي — وهو تأكيد له أهميته الكبرى — أن «التمييز بين الحقائق الواقعة والخيالات يظل في مذهبه أقوى ما يكون.»٦ فصور الحس لها مصدر غير إرادة ذهننا التلقائية، وهذا المصدر الآخر في نظره هو الله الذي يبعث فينا هذه الصور، وينظمها في شكل قوانين الطبيعة، ولنلاحظ — في هذا الصدد — أن النوع الآخر من الصور — وهو الصور الخيالية — يفترض أن له مصدرًا إنسانيًّا خالصًا، وربما كان في هذا — من وجهة نظر المفكرين اللاهوتيين من أمثال باركلي — نوعًا من الحد من القدرة الإلهية؛ إذ إن هذه القدرة تُمارَس على فئة معينة من الصور، هي الصور الحسية، أما الفئة الأخرى فللإنسان وحده حق التحكم فيه، وإنه لمن الصعب — إذا بدأت الإرادة الإلهية تتدخل في هذا المجال — أن نوقف هذا التدخل عند حد، لا سيما إذا كان القول بهذا التدخل مبنيًّا على أساس الاعتقاد بلا نهائية قدرة هذه الإرادة، وعلى أية حال، فهذه مجرد ملاحظة فرعية على محاولة باركلي الاحتفاظ بالتمييز بين صور الحس وصور الخيال في إطار مذهبه.

والذي يهمنا من هذا كله، هو أن باركلي اعترف بوجود اختلاف أساسي في الطبيعة بين صور الحس وصور المخيلة التي ترجع إلى إرادة الإنسان، وأكد أن النوع الأول من الصور ينبغي أن يكون راجعًا إلى مصدر خارج عن الإنسان، وإلى هذا الحد ينبغي أن نسجل تسلسل التفكير هذا على باركلي؛ إذ إننا نرى من الضروري الاحتفاظ بهذا النصف الأول من استدلاله، أما النصف الثاني فيسهل الاعتراض عليه، وبعبارة أخرى، فقد حاول باركلي أن يثبت أن هذا المصدر الآخر هو الله، على أساس أن كيفيات الأشياء لا تدركها إلا روح، والروح البشرية وحدها عاجزة عن ضمان استقلال الأشياء، فلا بد أن روحًا إلهية هي التي تدركها وتضمن استقلالها، فإذا أمكن تفنيد هذا النصف الثاني من الحُجة، فسيظل النصف الأول قائمًا، أي سيظل من الضروري الاعتراف بمصدر للمدركات الحسية خارج عن الإنسان، ولكنه ليس الروح الإلهية في الوقت ذاته.

فلو كان ذهن الإنسان أو حسه هو المصدر الوحيد للاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية لكان معنى ذلك أن الأشياء تُخْلَق دائمًا من جديد، فإذا أغمضت عيني انتهى الشيء المرئي، وإذا فتحتها عاد ثانية إلى الوجود؛ ولذا يحرص باركلي على تفسير عبارة: «إن وجود الأشياء هو كونها مدركة» بأنها لا تعني أن الأشياء توجد بفضل إدراكنا «نحن»؛ إذ قد تدركها روح أخرى حين لا ندركها نحن، فما يقصده «بالإدراك» ليس هنا ذهنًا خاصًّا بعينه، وإنما «جميع الأذهان على الإطلاق».٧ والذهن الإلهي — بوجه خاص — الذي يدركها في كل الحالات التي لا ندركها نحن فيها، وبهذا يظل استمرار وجودها مضمونًا، وبهذا المعنى — أي بمعنى وجود روح متميزة عن تلك التي تدرك الأشياء، وهي التي تبعث فينا صور تلك الأشياء — يمكن أن تُعَدَّ الأشياء «خارجية»، كذلك يمكن أن تسمَّى الموضوعات الحسية «مستقلة عن الذهن، بمعنى أنها موجودة في ذهن آخر».٨

ولنتساءل هنا: ما معنى قول باركلي: إن الأشياء توجد في الذهن الإلهي عندما لا تكون مدركة في أذهاننا البشرية، وبأية صورة توجد هذه المدركات في الذهن الإلهي، وما علاقتها به؟ هناك احتمالان لا ثالث لهما في هذا الصدد: فإما أن تكون هذه المدركات مستقلة عن الذهن الإلهي بدوره، وهذا احتمال لا يُعْقَل من وجهة نظر تفكير باركلي؛ إذ إن الاستقلال عن الذهن الإلهي يبرر — بالأحرى — الاستقلال عن الذهن البشري، وتغدو فكرة الذهن الإلهي في هذه الحالة إضافة زائدة لا داعي لها، والاحتمال الثاني هو ألا تكون مستقلة عن هذا الذهن، بل إنه يبعثها بإرادته، ويُلاحَظ على هذا التفسير الأخير أنه يتعارض — إلى حد ما — مع فكرة الإدراك الإلهي المستمر، الذي يضمن استمرار وجود الأشياء، فإذا كانت هذه الأفكار تنبعث تلقائيًّا من الذهن الإلهي، فالأرجح أن يكون إدراكه لها في هذه الحالة متقطعًا غير مستمر، وذلك حسب تلقائية الذهن الإلهي ذاته، وهذا يتنافى مع ضرورة الإدراك المستمر، بل مع الانتظام والاطراد المفروض أن تتصف به قوانين الطبيعة.

ومن جهة أخرى فإن باركلي لم يتحدث مطلقًا عن الطريقة التي ينقل بها الذهن الإلهي هذه المدركات إلى الأذهان الفردية، ولم يوضح طبيعة العلاقات التي يجب قيامها بين نوعي الذهن حتى يتم الاتصال بينهما، وتَرَكَ آلاف الأسئلة معلَّقة في هذا الشأن.

ولنلاحظ أن نفس السؤال الذي أدى بديكارت إلى الشك يمكن أن يُثار هنا بنفس القوة، فإذا كانت إدراكاتنا صادرة عن الله أو راجعة إليه، فلماذا بعث فينا — أو في معظم الناس ما عدا باركلي ذاته على الأرجح — اعتقادًا بأن هذه الإدراكات صادرة عن أشياء خارجية؟ ولماذا «شوَّه» إدراكنا بحيث جعلنا نجهل أصله الحقيقي؟ ألا يتنافى هذا مع الصدق «والخيرية» والإلهية؟

فما هي إذن الصورة التي يدعونا باركلي إلى الأخذ بها في صدد مشكلة خارجية العالم؟ إنها صورة ذهن إلهي شامل، يبعث من ذاته صورًا أو إدراكات، وينقل هذه الصور أو الإدراكات بطريقة لا يذكر عنها باركلي أي شيء إلى الأذهان الفردية، التي لا نعلم إن كانت في رأي باركلي مشاركة في الذهن الإلهي أو منفصلة عنه، ويتم هذا النقل حسب قواعد ثابتة هي التي نسميها قوانين الطبيعة، هذه هي الصورة التي يعتقد باركلي أنها أفضل من اعتقادنا الطبيعي بوجود عالم خارجي.

وهكذا نجد باركلي مضطرًّا إلى افتراض قوة روحية خارجية لتعليل استقلال الظواهر عن إرادتنا، ومضطرًّا إلى رسم تلك الصورة الغريبة للمعرفة البشرية التي تتم عن طريق نقل الذهن الإلهي إلى الذهن البشري لشريط من الصور المتعاقبة بانتظام، هي التي تكوِّن معرفة الإنسان، والمطلوب منا أن نعد هذا التصوير لمعرفتنا أدق وأحكم «وأرفع» من التصوير الطبيعي «الساذج»! ولكن هل هناك أكثر سذاجةً وبعدًا عن الروح العلمية من ذلك التفسير «البدائي» الذي يقول به باركلي؟ أجل، إنه تفسير بدائي من غير شك، وإن يكن مغلفًا في إطار معقد من الحجج والبراهين، فما هو في الواقع إلا مظهر من مظاهر الرجوع إلى عهد تفسير الظواهر بالقوى الخفية التي تحتشد في الكون فتنمي الزرع، وتُسْقِط المطر، وتحرِّك الجبال، وتعرض أمام ذهن الإنسان شريط المعرفة!

والآن ما الذي يستطيع الذهن السليم أن يقبله؟ وما الذي يتحتَّم عليه أن يرفضه في هذا كله؟ إن الذهن السليم يقبل حتمًا قول باركلي بأن الإدراكات الخارجية مستقلة عن الذات؛ لأنها لا تنبعث كلما أرادت الذات ذلك، بل تحتاج إلى شروط محددة إذا توافرت، فسوف ندرك إدراكات خارجية سواء أرادت الذات ذلك أم لم ترد، فلا بد إذن من البحث عن مصدر خارج عن الذات لهذه الإدراكات، ولكن المصدر الذي يقول به باركلي ينبغي أن يُرْفَضَ بلا تردد، فهو لم يبرهن على أن الذهن الإلهي يُدرك الصور الخارجية، وإنما اكتفى بأن «قرر» ذلك معتمدًا على أن أية قضية تَرِد فيها كلمة «الذهن الإلهي» لن تُناقَش أو لن تُمَسَّ! وحتى لو سلَّمنا بهذا الإدراك الإلهي، فسيظل للمرء أن يتساءل: ما هي قيمة إدراك الذهن الإلهي لهذه الصور بالنسبة إليَّ؟ وكيف يؤدي إلى ثبات إدراكي للأشياء كلما توافرت شروط هذا الإدراك؟ أو ما هي العلاقة الحقيقية بين ذهني وبين الذهن الإلهي؟ وعلى أي نحو يستطيع ذلك الذهن الإلهي — بإدراكه المستمر — سد الثغرات في إدراكي المتقطع؟ وأخيرًا — وهذا سؤال يستنكره باركلي دون شك كل الاستنكار ولكن روح البحث الفلسفي تحتِّمه — إذا كانت هذه الأفكار تَرِدُ إليَّ من روح إلهية، فمن أين جلبت الروح الإلهية ذاتها هذه الأفكار؟ وما الذي أعطاها إياها؟ أو كيف تكوَّنت لديها إذا كانت مجرد انبثاقات تلقائية؟ فهلا يكون هذا الحل أشبه «بالذات الوحيدة الإلهية Divine Solipsism» وهلا يكون فيه مجرد إرجاء لخطر فكرة «الذات الوحيدة» التي تهدد المثالية على الدوام عن طريق نقلها إلى المستوى الإلهي، والاعتماد على الروح الإيمانية التي لا تجرؤ على مساس هذا المستوى، والاكتفاء بمثل هذا الحل، أو بالأحرى: هذا الهروب من المشكلة؟

هنا — وللمرة الثانية — تظهر فكرة خارجية العالم على أنها هي العقبة التي لا تستطيع المثالية التخلص منها إلا إذا وضعت فروضًا ساذجة أو غير منتمية إلى مجال التفلسف المنطقي، أو بعبارة أخرى: فإن المثالية تعجز — في حدود التفكير المنطقي وحده — عن تعليل خارجية العالم.

(٥) العالم الخارجي بوصفه مجموعة من الانطباعات عند هيوم

في فلسفة هيوم تحليل واضح قوي للتضاد بين «النظرة الطبيعية» والنظرة الفلسفية، من حيث إن الأولى تؤمن بوجود الأشياء خارج الذات ومستقلة عنها، أما الثانية فتبرهن على أن هذه الأشياء ترتد إلى مجموعة من الانطباعات فحسب، ومما يلفت النظر أن هيوم جعل مصير «النظرة الفلسفية» مرتبطًا بهذه النظرية المثالية في المعرفة، ولم يتصور إمكان قيام فلسفة لا تتخذ هذا الطابع المضاد للموقف الطبيعي، «والحق أنه مهما تصور الفلاسفة أن في وسعهم الإتيان بحجج يبرهنون بها على الاعتقاد بوجود أشياء مستقلة عن الذهن، فمن الواضح أن هذه الحجج لن تعرفها إلا القلة القليلة، وليست هذه الحجج هي ما يرتكز عليه الأطفال والفلاحون والجزء الأكبر من البشر حين ينسبون إلى بعض الانطباعات أشياء تنتجها، وينكرون على بعضها الآخر وجود هذه الأشياء، وهكذا نجد أن جميع الاستنتاجات التي يكوِّنها العامة في هذا الصدد مضادة تمامًا لتلك التي تؤكدها الفلسفة؛ إذ إن الفلسفة تنبئنا بأن كل ما يبدو للذهن ليس إلا إدراكًا، وهو إدراك غير مستمر، وغير مستقل عن الذهن، بينما العامة يخلطون بين الإدراكات والأشياء، وينسبون وجودًا متميزًا مستمرًّا إلى نفس الأشياء التي يحسون بها أو يرونها، ولما كان هذا الرأي بعيدًا تمامًا عن العقل، فلا بد أنه ناتج عن ملكة أخرى غير الفهم.»٩

في هذا النص يفترض هيوم أن آراء الفلاسفة وحججهم هي الأصل في إيضاح مسألة وجود العالم الخارجي، وأن الاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية مستقلة عن الذهن هو اعتقاد عامي يقول به الأطفال والفلاحون! فالأصل هنا هو حجج الفلاسفة العقلية، أما التجربة المباشرة والحكم التلقائي والسلوك العلمي فليست له أية قيمة طالما أنه لا يستند إلى حجج فلسفية، وهنا يُعد موقف هيوم بالفعل تلخيصًا للموقف المثالي بأسره؛ إذ يشكك في تجربة الناس الفعلية في ميدان ربما كان الحكم الوحيد فيه هو هذه التجربة المباشرة الأصلية، ويطلب برهانًا على شيء ربما لم يكن فيه مجال للبرهان؛ لأنه يسبق كل موقف فكري أو عملي لنا.

وعلى أية حال فالمشكلة الرئيسية التي يعالجها هيوم — وهو في صدد بحث موضوع وجود العالم الخارجي — هي مشكلة أصل الاعتقاد بخارجية هذا العالم واستمراره واستقلاله، وهو يفترض أن الاعتقاد باطل؛ لأنه لا يستند إلى العقل، ولا يناقش ذلك الاحتمال القوي في ألا يكون هذا الاعتقاد محتاجًا إلى العقل لتأييده، وفي أن يكون سابقًا على كل حجج منطقية أو براهين استدلالية، أي إنه يوم يفترض مقدمًا أن التفكير العقلي إذا لم يؤيد فكرة وجود العالم الخارجي فلن يعود لهذه الفكرة وجود، وهذا افتراض فيه شيء غير قليل من التعسف، ولا ينبغي أن يسمح المرء لنفسه بقبوله دون مناقشة.

ومنذ اللحظة التي يقسم فيها هيوم الإدراكات إلى أفكار وانطباعات، لا يوجد بينهما إلا فارق في الدرجة أو الشدة، منذ هذه اللحظة يتخذ هيوم موقفًا مثاليًّا؛ إذ يتيح له هذا الرأي أن ينسب إليهما طبيعة متشابهة، وبذلك ينكر وجود مصدر خارجي للانطباعات.

ويتجلى هذا الموقف المثالي — بالمعنى الذي أوضحناه من قبل لهذه الكلمة — بكل وضوح حين يتحدث هيوم عن انطباعات الإحساس فيصفها بأنها «تظهر في النفس أصليًّا، من أسباب غير معروفة.»١٠ أو في قوله: «أما عن تلك الانطباعات التي تنشأ عن الحواس، ففي رأيي أن علتها لا يمكن أن تُفسَّر مطلقًا عن طريق العقل البشري، وسيظل دائمًا من المحال أن نقرر — على نحو مؤكد — إن كانت تنشأ عن الموضوع مباشرةً، أو تنتجها القوة الخلاقة للذهن، أو تُسْتَمَد من خالق وجودنا، على أن هذا الموضوع ليست له أهمية على الإطلاق في هذا المقام، ففي إمكاننا أن نستخلص استدلالات من ترابط إدراكاتنا الحسية لنتبين إن كانت صحيحة أو باطلة، وإن كانت تمثل الطبيعة تمثيلًا صحيحًا، أو أنها مجرد خداع للحواس.»١١ وهكذا يعلن هيوم — في مستهلِّ كتابه — عجزه عن تفسير كيفية ظهور انطباعات الإحساس وأصلها، ويقول ما معناه: «سأقدم إليكم في هذا الكتاب صورة للعالم مخالفة لصورته التي يكوِّنها الإنسان في موقفه الطبيعي، ولكني أعلن لكم منذ البداية أنني لا أستطيع — في ضوء هذه الصورة — تعليل أصل انطباعات الإحساس وكيفية ظهورها.» أليس للمرء كل الحق في أن يشك مقدمًا في قيمة أي بحث في المعرفة يُبْنَى على أساس أن الإحساس يظهر في النفس من أسباب غير معروفة، في الوقت الذي يعترف فيه التجريبيون أنفسهم بأن المصدر الرئيسي لمعرفتنا هو التجربة الحسية؟
ولقد استفاد هيوم من التطورات الفلسفية السابقة عليه، والتي توطدت فيها الفكرة القائلة: إن الموضوع الذي يمثل للذهن هو «الإدراكات Perceptions»، ولم يكن عليه إلا أن يستخلص ما اعتقد أنه نتيجة ضرورية لهذه الفكرة، فليس في وسعنا أن نتصور أي شيء يتجاوز الأفكار والانطباعات؛ لأن الذهن لا يحضر أمامه شيء سوى إدراكاته وانطباعاته وأفكاره، «ومهما كانت درجة تركيزنا لانتباهنا خارج أنفسنا، ومهما تعقبنا خيالنا إلى السماوات أو إلى أقصى أطراف الكون، فلن نتقدم بالفعل خطوة واحدة خارج أنفسنا، ولن نستطيع أن ندرك أي نوع من الوجود سوى الإدراكات التي بدت في هذا النطاق الضيق.»١٢
وهكذا فبينما يعتقد الإنسان في موقفه الطبيعي أنه يدرك أشياء خارجية مستقلة، يؤكد له هيوم أنه لا يدرك إلا انطباعات وأفكار ماثلة للذهن، وأن هذه هي الموضوع الوحيد لمعرفتنا، وهنا نرى لزامًا علينا أن نثير عددًا من الأسئلة قبل أن نستمر في عرض حجج هيوم في هذه المسألة:
  • (١)
    لماذا استخدم هيوم تعبير «القصر Restriction» الذي كان يقول فيه: «إننا لا ندرك إلا …»؟ إن هذا التعبير معناه أن هيوم يجعل لإدراكنا موضوعات أضيق نطاقًا مما يظن الإنسان في موقفه الطبيعي، والدليل على ذلك قوله في النص السابق: إننا لا ندرك سوى ما يبدو «في هذا النطاق الضيق»، ولكن المسألة في حقيقتها ليست مسألة اختلاف في نطاق الإدراك، وإنما في تفسير طبيعته، فالإدراك يظل كما هو على الدوام، ولا يطرأ عليه أي نقص أو تحديد لآراء هيوم، وكل ما تؤدي إليه هذه الآراء هو تفسير مخالف لطبيعة هذا الإدراك، لا تحديد لنطاقه.
  • (٢)

    يؤكد هيوم أننا لن نتقدم — مهما فعلنا — خطوة واحدة خارج «أنفسنا»، فهل فكر لحظة واحدة في معنى كلمة «خارج أنفسنا» هذه؟ أولًا: ما هو المقصود بكلمة «أنفسنا» في هذه الحالة؟ هل يقصد الحيز المكاني الذي يشغله الشخص بوصفه كائنًا ماديًّا له مكان؟ ألن يكون في هذا المعنى تناقض واضح؟ أم يقصد «أنفسنا» من حيث إننا أذهان ذات وجه غير مادي؟ وفي هذه الحالة هل يكون للفظَيْ «خارج» أو «داخل» أي معنى؟ وأخيرًا، فإن هيوم يؤكد أن كل إدراكاتنا توجد «داخل» أنفسنا لا خارجها، فهل يمكن أن يُعْقَلَ وجود «داخل» دون «خارج»، وهل يمكن أن يُفْهَم معنى أحد هذين المتضايفين دون الآخر، وإذا كان كل شيء داخل الذات، فهل يعود لكلمة «داخل» معنى إذا كانت تنطبق على كل شيء؟

  • (٣)

    هناك نوع من الإدراكات تبعثه الذات تلقائيًّا من داخلها كلما أرادت ذلك كالتخيلات بأنواعها، فما الذي يفرق بين هذا النوع وبين تلك الإدراكات التي ننسبها عادةً إلى موجود خارجي، أي الانطباعات الحسية؟ إن هيوم — كما قلنا — يعترف بعجزه عن تفسير أصل الانطباعات الحسية، ولكنه يرى في الوقت ذاته أن مسألة الأصل هذه ليست بذات أهمية كبرى؛ لأن ترابط الإدراكات الحسية يكفي وحده لكي يجعلنا نستخلص النتائج اللازمة في أبحاثنا، بغض النظر عن صحة هذه الإدراكات أو بطلانها، ومعنى ذلك أن مسألة صحة المدركات أو بطلانها ستكون معلقة، ولا بد أن تظل كذلك طالما كان هذا هو المنهج المتبع، وإن المرء ليستشف من وراء القول بعدم أهمية التمييز بين الصحة والبطلان بالنسبة إلى أغراض البحث، اعترافًا ضمنيًّا باستحالة تقديم معيار لهذا التمييز في حدود المنهج المتبع.

في ضوء كل هذه المقدمات يخوض هيوم مسألة تعليل الاعتقاد «الطبيعي» بوجود أشياء خارجية لها وجود «مستمر» و«متميز» عن وجود الذهن، وهو اعتقاد يراه باطلًا من أساسه؛ إذ إن ما نظن أنه وجود خارجي لا يمكن أن يختلف في النوع عن إدراكاتنا، فهيوم يبدأ بافتراض أن «الانطباع» هو الحقيقة الأساسية، ولما كان الانطباع متوقفًا على الذات ومقترنًا بممارستها ملكاتها الواعية، فإنه يتساءل بعد ذلك: كيف نشأ لدينا الاعتقاد بوجود حقيقة أخرى من وراء هذا الانطباع ومسببة له، هي حقيقة «الأشياء» الخارجية التي نفترض أنها مستمرة في الوجود ومستقلة عن الذات؟

هذا الاعتقاد لا يمكن أن ينشأ عن الحواس؛ لأن الحواس تنقل إلينا إدراكًا واحدًا هو الانطباع، ولا بد للاستدلال على ما وراء هذا الانطباع من تجاوز الحواس عن طريق العقل أو المخيلة، فالحواس تقتصر على ما هو «مُعْطى»، ولا تستطيع أن تقوم بالمقارنة اللازمة للاستدلال على استمرار وجود هذا المعطى أو استقلاله عن الذات.

كذلك لا يمكن أن يكون أساس هذا الاعتقاد هو العقل؛ لأن عمل العقل ينحصر في الإتيان بحجج منطقية أو فلسفية، وحتى لو استطاع العقل ذلك، فسيظل الاقتناع بهذه الحجج مقتصرًا على فئة قليلة من الناس، فكيف إذن نعلل شيوع هذا الاعتقاد لدى جمهرة الناس دون قيامه لديهم على أي أساس فلسفي؟

لا بد إذن أن يكون هذا الاعتقاد قائمًا على تدخل «المخيلة»، ولا بد أن بعض الانطباعات يتميز بصفات خاصة تمتزج بالمخيلة على النحو الذي يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن لها وجودًا مستمرًّا ومستقلًّا، فما هي هذه الصفات؟ إنها ليست صفة كونها غير إرادية، أو كونها شديدة القوة والحيوية؛ لأن الانفعالات والآلام قد تتوافر فيها هذه الصفات دون أن نعتقد أنها خارجية.١٣
وهكذا يحدد هيوم تلك الصفة التي تتميز بها انطباعاتنا المنسوبة إلى أشياء خارجية بأنها صفة «الدوام Constancy» والانتظام والإحكام، فهذه الانطباعات تعود باستمرار بعد انعدام إدراكي لها وقتًا ما، وإذا تغيرت كان تغيرها هذا منتظمًا وخاضعًا لقواعد مُحْكَمَة.
والذي يحدث أننا نستدل — بفضل تعودنا على تكرار انتظام ظهور هذه الانطباعات — على وجود أشياء ثابتة من ورائها، بحيث إنه إذا انقطع إدراكنا فيظل هناك شيء لا ندركه يجمع بينها، وعلى حين أن هذه الإدراكات في الأصل منفصل — إذ تفصل بينها لحظات عدم إدراكنا لهذه الموضوعات — فإن تشابه الترتيب الذي يظهر به إدراكنا لها في كل حالة يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن ما أدركناه في كل الحالات شيء واحد، فنحن نخفي انقطاع الإدراكات، أو نقضي عليه تمامًا، إذ نفترض أن هناك وجودًا واحدًا حقيقيًّا يجمع بين الإدراكات المتقطعة، «فذاكرتنا تقدم إلينا عددًا كبيرًا من أمثلة الإدراكات التي يشبه كل منها الآخر، والتي تعود في فترات زمنية مختلفة بعد شيء من الانقطاع، وهذا التشابه يخلق لدينا ميلًا إلى الربط بينها عن طريق وجود مستمر؛ لكي نبرر هذه الهوية، ونتجنب التناقض الذي يبدو أن الظهور المتقطع لهذه الإدراكات يؤدي بنا إليه ضرورة.»١٤

ولست أملك هنا إلا أن أوجِّه اعتراضًا له صبغة «ساذجة» إلى حد ما، ولكن لا مفر منه طالما أنه يوجد بنفس الروح «الساذجة» التي يتصف بها الموقف الطبيعي، فكيف تتم عملية «التوحيد» أو «القضاء على انقطاع الانطباعات» هذه؟ أهي عملية واعية؟ أعني: هل تأتي على الإنسان — من حيث هو فرد أو نوع — مرحلة يعتقد فيها أن إدراكاته متقطعة، ثم يرغب في تجنب النتائج الضارة التي يلحقها به هذا الاعتقاد، «فيقرر» أن يصنع أو يتخيل شيئًا يوحدها؟ إن هيوم لا يستطيع — بطبيعة الحال — أن يجيب بالإيجاب؛ إذ سيكون عليه في هذه الحالة أن يحدِّد لنا زمانَ ومكانَ تلك المرحلة التي لم يسمع أحد عنها شيئًا، وإذن فهل هذه عملية غير واعية؟ وهل هي تتم تلقائيًّا في الإنسان بحيث لا يشعر في أي وقت بأنه كانت هناك إدراكات متقطعة ثم «وحدها»؟ إن كان الأمر كذلك فما قيمة تنبيه هيوم إلى ذلك الأصل «المتقطع» الذي يرفضه الإنسان حتمًا في جميع أحواله؟

ولنتحدث في هذا الموضوع من الناحية العملية: ففي موقفنا الطبيعي نعامل الكرسي الموجود في الحجرة — إذا أدركناه — بانطباعين يفصل بينهما وقت ما، على أنه كرسي لا على أنه انطباعان مختلفان، ومن المحال أن نتصرف في موقفنا الطبيعي على نحو مخالف، ولنتصور النتائج العملية التي تحدث لو نظر الإنسان إلى بيته في كل مرة يدركه فيها على أنه بيت مخالف، أو إلى أهله وأصدقائه على أنهم «إدراكات جديدة» … إلخ، هنا تصبح حياة الإنسان — بطبيعة الحال — مستحيلة، وقد اعترف هيوم ذاته بهذه الاستحالة، ولكنه أراد أن يضع حدًّا فاصلًا بين موقفنا العملي وما ينبغي أن يكون عليه فهمنا للأمور، ولنتساءل هنا: إلى أي مجال ينتمي إدراكنا للكرسي والبيوت والأشجار، وهي الأمثلة التي ظل هيوم يستخدمها في كتاباته على الدوام؟ إلى مجال الموقف الطبيعي بلا شك، فعندما نكون بصدد إدراك شجرة مثلًا، لا تكون مهمتنا هنا هي تحليلها علميًّا، وإنما إدراكها بحواسنا المعتادة لكي نعرف كيف نتصرف عمليًّا إزاءها، ومع ذلك فإن هيوم يعترض — في مجال الموقف الطبيعي — على طريقة إدراك الإنسان في هذا المجال، ويحاول تعليل ما يراه فيها من أخطاء بأنه راجع إلى الرغبة في تجنب التناقض الذي يحدث لو عالجنا كل إدراك في هذا المجال على أنه منفصل، أو بعبارة أخرى: فهو يحاول تعليل ما يعتقد أنه «خطأ فلسفي» في الموقف الطبيعي، ولكن ما قيمة هذا الاعتراض إذا كان تأصل هذا الموقف فينا أقوى وأسبق من أي تفلسف، وإذ كانت مجرد حياتنا مستحيلة إن لم نعامل المدركات الخارجية على أنها «أشياء»؟ إن المسألة هنا — كما ذكرنا من قبل — منفصلة تمامًا عن مسألة مجال مختلف تمامًا عن مجال الصواب والخطأ: مجال التصرف العملي اليومي، الذي يستحيل أن يتصرف فيه المرء إلا على أساس فكرة «الأشياء»، بغض النظر تمامًا عما قد يكون عليه حكم العلم أو المنطق على هذه الفكرة.

ولا شك أن الفكرة الجديدة التي أتى بها هيوم في هذا الموضوع — وهي فكرة تأثر فيها إلى حد بعيد باتجاهات الفلاسفة المحدثين السابقين عليه ولا سيما باركلي — هي فكرة رفض الازدواج بين المدركات والأشياء، فالاعتقاد الشائع بأن هناك أشياء «تسبب» مدركاتنا هو اعتقاد متوارث من أوهام قديمة، وطالما أن الحقيقة التي نستطيع أن نكون على ثقة من حضورها المباشر هي المدركات، فلا معنى إذن للقول بوجود حقيقة أخرى من ورائها تكون «سببًا» لها.

ولكن إذا كان خطأ الفلسفات القديمة في نظر هيوم هو تصور وجود أشياء مجسمة تسبب الانطباعات، فخطأ هيوم — الذي يزيد على ذلك خطورة — هو «تجسيم» الإدراك وجعله حقيقة قائمة بذاتها، ففي كتاباته يشعر المرء على الدوام بأن الانطباع له «وجود» وأن الإدراك له «كيان» خاص، ولكن التحليل السليم للإدراك يدل على أنه «عملية» فحسب، أو تعبير عن العلاقة بين الذات وبين موضوع، وهو ظاهرة تحدث — كلما تقابَلَت هاتان الحقيقتان سويًّا — فيكون حدوثه مجرد مظهر لتقابلهما، أما في ذاته فليس له كيان، وإذن فمن الممكن القضاء على الازدواج بين الشيء وبين إدراكه، ولكن باتباع الطريق الأسلم، وهو إنكار وجود حقيقة مستقلة أو قائمة بذاتها للإدراك، بدلًا من اتباع طريق هيوم الذي يوحي بوجود حقيقة مستقلة اسمها الانطباع، لا نستطيع أن نعرف أصلها، ولكن لا يجوز لنا محاولة تجاوزها إلى أية حقيقة أخرى وراءها، فالانطباع ليس واسطة للإدراك، تحجب موضوعات هذا الإدراك أو تحل محلها، وإنما هو مجرد اسم لدخول الذات في علاقة مع هذه الموضوعات، وليس له دون هذه الموضوعات ذاتها أي كيان قائم بذاته.

والسؤال الذي يحسم الخلاف بشأن طبيعة الانطباع هو: هل تستطيع الحواس أن تأتي بشيء من عندها؟ وهل لديها القدرة على أن تدفع ذاتها إلى العمل؟ إن الرد — طبعًا — بالنفي، على الأقل في أغلبية الأحيان (وإن كان هيوم يتجنب البحث في أصل انطباعات الحس منذ البداية)، فإذا لم تكن تأتي بشيء عندها، أو تدفع ذاتها إلى العمل، فلا بد أن دور إدراكاتها هو مجرد التعبير عن حدوث تقابل بين ذات وموضوع، إن هيوم يؤكد أنه «ليس ثمة موجودات حاضرة أمام الذهن إلا الإدراكات»، ولكن ما معنى هذا الحضور أمام الذهن؟ هل الذهن يدركها سلبيًّا؟ أم أنه هو الذي يبعثها؟ إن الرد على هذا السؤال أساسي، وما كان يحق لهيوم أن يراوغ في الإجابة عنه مطلقًا؛ لأن الفارق بين سلبية الذهن وإيجابيته في إدراكه للانطباعات هو الذي يحسم مشكلة طبيعة الموضوع الذي أثارها، بل هو الذي يحدد ما إذا كان هذا الموضوع موجودًا أم غير موجود.

والواقع أن تفكير أرسطو — في هذه المسألة بالتحديد — يبدو أكثر استنارة إلى حد بعيد من تفكير هيوم: فملكة الإحساس في رأي أرسطو توجد «بالقوة»، ولا تنتقل إلى الفعل إلا عند ظهور الموضوع الخارجي، «فمن الجلي أن ما هو حاس هو كذلك بالقوة فحسب لا بالفعل، فقوة الإحساس أشبه بالشيء القابل للاشتعال؛ إذ إن هذا الشيء لا يشتعل بذاته قط، وإنما يحتاج إلى فاعل قادر على البدء بالإشعال، وإلا لأشعل ذاته، ولما احتاج إلى نار فعلية لإيقاده.»١٥ ولو كان هيوم قد تأمل جيدًا فكرة وجود الإحساس — وبالتالي الانطباع بالقوة — لما حاول أن يجعل للانطباع كيانًا يغني عن الموضوع؛ إذ إن فكرة أرسطو ذاتها لا تنطوي على القول بازدواجية بين الانطباع والشيء، بل تجعل الانطباع إمكانية كامنة يحققها ظهور الشيء، ولا تكون هي ذاتها إلا تعبيرًا عن هذا الظهور.

(٦) العالم الخارجي بوصفه ظاهرة عند كانْت

الأشياء الخارجية تتميز — قبل كل شيء — بأنها أشياء توجد في المكان، والمكان عند كانْت صورة للحدس، أي صورة ذاتية تجعل التجربة الحسية ممكنة، وإذن فخارجية الأشياء ترجع إلى نشاط الذات حين تضفي على الأشياء هذه الصورة الخارجية، «فعن طريق الحاسة الخارجية — وهي صفة لذهننا — نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا، وموجودة كلها بلا استثناء في المكان.»١٦

هذه هي نقطة بداية بحث كانْت في مشكلة العالم الخارجي، وهي نقطة بداية تنطوي في ذاتها على كل النتائج المثالية، رغم ما سنراه من تأرجح موقف كانْت بين قبول المثالية في صورتها المتطرفة وبين القول بنوع مخفف من المثالية «اللاأدرية»، ومنذ هذه اللحظة الأولى، يقرر كانت معارضة الموقف الطبيعي؛ إذ يجعل خارجية الأشياء راجعة إلى «صفة لذهننا»، ومنذ هذه اللحظة أيضًا يستخدم كانْت اللغة المثالية بلا تحفُّظ، وبكل ما فيها من افتقار إلى التحديد، فما معنى كوننا «نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا»؟ لنتساءل مرة أخرى — كما قلنا ونحن في صدد شرح نظرية هيوم: هل هذه العملية واعية مقصودة لدى الإنسان؟ أي هل كانت للأشياء طبيعة أخرى ثم «مثلناها لأنفسنا» على نحو مخالف؟ أم أنها عملية تحدث تلقائيًّا ودون وعي منا؟ وإذا كانت كذلك، فعلى أي أساس عرف بها كانت؟ وعلى أي أساس عرف أن طبيعتنا غيرت الأشياء ومثلتها على أنها خارجة عنا؟ ثم ما هو المقصود بكلمة «نحن» في هذه الحالة؟ هل المقصود منها «نحن» بوصفنا أذهانًا فردية أم أذهانًا جماعية أم أجسامًا أم مجرد نوع إنساني؟ وإذا كان يبدو أن المعنى الأخير هو الأقرب إلى قصد كانْت — الذي يتحدث كثيرًا عن «طريقتنا في الإدراك» — فهل لا يوجد لدى الحيوان إحساس مكاني؟ وإن كان مثل هذا الإحساس موجودًا لديه، فبأي معنى إذن ننسب المكان إلى «التركيب الذاتي لذهننا».

وهكذا تظهر جميع صعوبات المثالية في ذلك النص الذي يستهل به كانْت الفصل الخاص ﺑ «الحساسية الترنسندنتالية» من كتاب «نقد العقل الخالص»، وتتحدد معالم الموقف المثالي بوضوح منذ أن يقلب كانت العلاقة المألوفة بين فكرة المكان والتجربة الخارجية: فنحن نعتقد — في موقفنا الطبيعي — أن تجربتنا للأشياء الخارجية هي التي توحي إلينا بفكرة المكان، وأننا نرى الأشياء في الداخل وفي الخارج وفوق وتحت وعلى اليمين واليسار، فنستنتج من كل هذا — وبالتجريد — فكرة «المكان» بوجه عام، أما كانت فيرفض هذا الأصل التجريبي لفكرة المكان؛ إذ إن فكرة الخارجية ذاتها، وكذلك فكرة التجاور واليمين واليسار … إلخ، كل هذه تفترض مقدمًا تصور المكان، وإذن فليست فكرة المكان مُسْتَمَدَّة من التجربة الخارجية، بل إن التجربة الخارجية لا تصبح ممكنة إلا بفضل فكرة المكان.

وقد يكون رأي كانت هذا صحيحًا بالنسبة إلى المرحلة الحالية لتفكير الإنسان المتمدين الناضج، ولكن أية نظرة إلى هذه المشكلة من الزاوية التاريخية — التي أهملها كانت في كتاباته إهمالًا تامًّا — تجعلنا نقتنع، دون تفكير طويل، بأن معنى المكان، في الأدوار «التكوينية» للإنسان، لا بد أن يكون قد استمد بالتجريد من علاقات الأشياء الخارجية، فليس صحيحًا أن الإنسانية قد كونت فكرة المكان أولًا، أو اهتدت إليها في ذاتها بوصفها جزءًا من تركيبها الباطن، ثم استمدت منها معنى الخارجية على أساس أنها ما يكون في مكان مغاير، بل يحدث عكس ذلك: إذ يبدأ الإنسان بالمرور ﺑ «التجارب المكانية» — كالقرب والبعد واليمين واليسار — أولًا، ومنها يستخلص فكرة المكان بالتجريد، وليس من المستبعد أو من المستحيل مطلقًا أن نتصور إنسانًا، أو مجتمعًا كاملًا، يستخدم المعاني المكانية، دون أن تكون لديه فكرة عن هذا التصور المجرد، أي المكان، ولكن هذه — بطبيعة الحال — طريقة في التفكير تقتضي النظر إلى الأمور من الزاوية التاريخية أو الاجتماعية التي لم يُقِمْ لها كانت أي وزن.

وهكذا يؤدي رأي كانْت في طبيعة المكان بوصفه صورة للحساسية وشرطًا ذاتيًّا لإمكان التجربة تؤدي هذه الفكرة ذاتها إلى فكرة «ظاهرية» العالم الخارجي مباشرة: «فلا شيء مما يُدْرَك بالحدس في المكان هو شيء في ذاته، وليس المكان صورة كامنة في الأشياء ذاتها بوصفه صفة متأصلة فيها، ولا سبيل لنا مطلقًا إلى معرفة الأشياء في ذاتها، وليس ما نسميه بالأشياء الخارجية إلا مجرد تمثلات لحساسيتنا، التي يكون المكان صورتها.»١٧
وكما أدى بحث «صورة الحدس» إلى هذه النتيجة، فكذلك يؤدي إليها استنباط التصورات الخالصة للذهن، ولا سيما «الاستنباط» كما ورد في الطبعة الأولى ﻟ «نقد العقل الخالص»، فالاستنباط يؤدي بكانْت إلى القول بأننا «نحن أنفسنا الذين نبعث في المظاهر ذلك الترتيب والنظام الذي نسميه «بالطبيعة»، وما كان في وسعنا أن نجد ذلك الترتيب والنظام في المظاهر، ما لم نكن نحن أنفسنا — أو طبيعة ذهننا — نبعثها أصلًا …»١٨ ومرة أخرى، يستخدم كانت كلمة «نحن» دون تحديد لمعناها بأي قدر من الدقة، ويتحدث عن «المظاهر» التي «نبعث فيها» النظام والترتيب، وكأن هذه عملية ترتيب واعية نقوم بها على مادة لم يكن لها في الأصل مثل هذا الترتيب، وكما كانت الطبيعة في نظر باركلي تعبيرًا عن الإرادة الإلهية، فإنها في نظر كانْت تعبير عن ذلك النوع الخاص من التنظيم الذي يبعثه الذهن الإنساني في الظواهر، وهي في الحالتين غير تلك «الطبيعة» التي نعرفها في موقفنا الطبيعي، والتي لا يكون الإنسان إلا جزءًا منها، ولا يكون للذهن دور إلا في فهم قوانينها لا في خلقها.

وإذن، فمن الواضح أن كانْت — في قوله بتحكم الذات (بما فيها من صور للحساسية وصور أو مقولات للذهن) في تشكيل الموضوع وجعله «ظاهرة» بالنسبة إلينا — كان مثاليًّا بالمعنى الصحيح، ولكن من الواضح — من جهة أخرى — أن كانْت لم يعترف بهذه المثالية، أو على الأقل حاول تخفيفها بأن أسماها بالمثالية الترنسندنتالية أو المثالية «الاحتمالية»، التي تختلف — في نظره — عن المثالية التوكيدية أو المادية وتقل عنها حدة بكثير، ومهمتنا الآن هي أن نناقش هذه الدعوى التي قال بها كانت، ونجيب على السؤال الآتي: هل تختلف مثالية كانْت عن أي مذهب مثالي آخر في خروجها على الموقف الطبيعي أو رفضها له؟

يعرِّف كانْت المثالية الترنسندنتالية بأنها «المذهب القائل أن المظاهر كلها لا ينبغي أن يُنْظَر إليها إلا على أنها تمثلات، لا أشياء في ذاتها، وأن المكان والزمان ليسا إلا الصور الحسية للحدس، لا تحديدات معطاة بوصفها موجودة بذاتها، ولا شروطًا للموضوعات منظورًا إليها على أنها أشياء في ذاتها.»١٩ ووجه التفرقة بين المذهب المثالي التوكيدي ومثالية كانت الترنسندنتالية هو أن القائل بهذا المذهب الأخير قد يكون أيضًا من القائلين ﺑ «الثنائية»، أي من المعترفين بوجود «مادة» خارجية، ولكنه يظل على الدوام غير موقن بطبيعة هذه المادة من حيث هي «شيء في ذاته»، مؤكدًا أن ما نعرفه منها هو ما تضفيه عليها الذات من صور الحساسية والمقولات، أي إنها تُعْرَف بوصفها «ظاهرة» فحسب، وسبب الاقتصار على فكرة الظاهرة هذه — كما يشرحه كانت — هو أنني لا أعرف مباشرةً إلا إدراكات، وهي مقدمة كان تأثير هيوم وباركلي فيها واضحًا كل الوضوح، وتتعرض لجميع الانتقادات التي سبق أن وجهناها إلى هذين الفيلسوفَين، فإذا حاولت أن أستدل من هذه الإدراكات على «سببها»، فلن أستطيع الوصول أبدًا إلى أي يقين؛ لأن مثل هذا المعلول قد يكون له أكثر من علة، أي قد تكون علته جسمًا خارجيًّا أو ذات داخلية، وهكذا أظل على الدوام غير متأكد إن كان «ما يُسَمَّى بالإدراكات الخارجية مجرد ناتج عن الحس الباطن أم أن علاقتها بالموضوعات الخارجية الفعلية هي علاقة علة بمعلول.»٢٠ ولهذا كان يتحتم عليَّ أن أكتفي بما هو مؤكد، أي بإدراكاتي وقوالبي الذاتية التي تنظمها، وأن أسمي الأشياء الخارجية ظواهر أو تمثلات تنتمي إلى الحس الخارجي، أما أصل هذه التمثلات فلا يمكن معرفته إلا باستدلال يظل دائمًا غير مؤكد، وإن كان من واجبي دائمًا ألا أستبعد كون هذا الأصل «شيئًا في ذاته»، لا أعرف عنه شيئًا.
ويزيد كانْت فكرته هذه إيضاحًا في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا»، فيفرق بين مذهبه وبين المثالية على أساس أن الأخيرة تقول بأنه لا وجود إلا للموجودات المفكرية، وأنه لا شيء في الخارج يطابق ما نعتقد أنه موجودات خارجية: «أما أنا فأقول بعكس ذلك: فهناك أشياء معطاة لنا، هي موضوعات لحواسنا وخارجة عنا، غير أننا لا نعلم شيئًا عما يمكن أن تكونه في ذاتها، ولا نعلم منها إلا الظواهر، أي التمثلات التي تنتجها فينا بتأثيرها في حواسنا، فأنا إذن أعترف بأن خارجنا أجسامًا — أي أشياء — هي بالفعل مجهولة لدينا تمامًا من حيث ما قد تكونه في ذاتها، ولكنا نعرفها بالتمثلات التي تتكون لدينا نتيجة لتأثيرها في حساسيتنا، وهي أشياء نسميها بالأجسام، وهي تسمية لا نعني بها إلا أنها ظاهرة لذلك الموضوع الذي هو مجهول لدينا، ولكنه مع ذلك حقيقي، أو يمكن تسمية هذا المذهب بالمثالية؟ إنه في الحق عكسها.»٢١
على هذا النحو حاول كانت أن يفرِّق بين مذهبه وبين المثالية المعتادة أو التوكيدية، بل حاول أن يدفع عن مذهبه أصلًا تهمة المثالية، كما نرى في هذا النص، ولنتساءل هنا: أي فارق هناك بين إنكار وجود الموضوعات الخارجية، والقول: إنها موجودة ولكنها غير معروفة لنا على حقيقتها؟ أو بعبارة أخرى: أي فارق هناك بين القول: إن ما نسميه بالموضوعات الخارجية راجع إلى الذات المفكرة، وبين القول: إن «ما نعرفه» عن هذه الموضوعات راجع إلى صورنا وقوالبنا الذاتية؟ إن هذين الموقفين — اللذين علق كانت أهمية كبرى على الفارق بينهما — ليس بينهما، في واقع الأمر، أي اختلاف جدِّي، ففي الحالتين تغلب فاعلية الذات على الموضوع الخارجي، أي إن الذهن إما أن «يخلق» هذا الموضوع أو «يشكله»، وليس هذا بالفارق الخطير؛ لأن الموقفين معًا مضادان تمامًا للموقف الطبيعي، فالذهن في نظر الموقف الطبيعي يفهم أو يدرك الموضوعات التي تحتفظ باستقلالها عنه، أما في نظر كانت فهو العنصر الأساسي في إعطاء هذه الأشياء صورتها التي ندركها عليها، فإذا أدركنا أن العنصر الذي نعرفه من الأشياء هو العنصر الذي يهمنا فيها، وإذا أدركنا أن هذا العنصر — في نظر كانت — ذاتي لتبين لنا إلى أي حد يكون الاختلاف بين مثاليته «الاحتمالية» وبين المثالية التقليدية اختلافًا لفظيًّا، إن كانْت يؤكد أن الأشياء موجودة خارجنا، ويضيف إلى ذلك قوله: ولكنا لا نعرف عنها إلا ما وضعناه نحن — بوصفنا ذوات — فيها، أي إن الوجه المعروف للأشياء ذاتي، وقد يكون لها وجه موضوعي ولكنه مجهول تمامًا، وهنا نجد أن أهمية ذلك الوجه الموضوعي تتضاءل إلى حد لا يعود معه إلا تكملة فكرية للبناء المذهبي فحسب، فما قيمة ذلك الشيء الذي نقول عنه: إنه موجود، إن كنا لا نعرف عنه أي شيء؟ إنه «كيان عقلي nouméne» يفترضه الذهن بالاستدلال، ولكن جهلنا التام به يجعله في حكم المنعدم، وعلى أية حال فإن المثالية التوكيدية حين أكدت أن الأشياء — من حيث هي أشياء في ذاتها لا وجود لها خارج الفكر — قد مهَّدت الطريق لخطوة كانْت التالية، والقائلة: إن الأشياء — بوصفها ظواهر — توجد في المكان الذي هو «صورة الحاسة الخارجية»، والعلاقة الحقيقية بين كانت وبين المثالية هي علاقة اختلاف في اللغة المستخدمة فحسب، لا علاقة اختلاف أساسي في المذهب.

أما ذلك الاختلاف اللغوي الذي نتحدث عنه، فينحصر في أن كانْت قد أكد أن الأشياء توجد بالفعل خارجنا، بمعنى أنها توجد في المكان، وإلى هذا الحد يبدو رأيه مضادًّا تمامًا للمثالية التوكيدية، ولكنه أكد في الوقت ذاته أن فكرة المكان نفسها ذاتية، وأن «الحس الخارجي» هو الذي يضفي على الأشياء هذا «الوجود في المكان»، وهنا تعود المثالية إلى الظهور من خلال هذه اللغة الجديدة التي استخدمها كانْت، لغة المكان بوصفه «صورة ذاتية للحس الخارجي»، والموضوعات بوصفها «ظواهر» لا أشياء في ذاتها.

ولو بحثنا عن الأصل الأول لهذه اللغة الجديدة التي استخدمها كانت لوجدنا أنه الرأي القائل باستحالة الاستدلال من الإدراكات على الموضوع المسبب لها استدلالًا مؤكدًا، وباحتمال كون هذه العلة داخلية لا خارجية، فنتيجةً لهذا الرأي وصل كانت إلى فكرة الموضوعات الخارجية بوصفها ظواهر، واستبعد تمامًا كل نظرة إليها على أنها أشياء في ذاتها، ولكن هل يجوز أن يطوف بالذهن مثل هذا الشك، أو يخطر له مثل هذا الاحتمال؟ إنَّ كانْت يصور الأمر كما لو كانت الذات تنسب بعض إدراكاتها إلى الحس الخارجي والبعض الآخر إلى الحس الباطن، ولكن كيف يحدث هذا؟ وما الذي يدفع الذات إلى هذا التقسيم؟ أهو تقسيم اعتباطي؟ أم أن هناك شيئًا في طبيعة فئة من «الإدراكات» هو الذي يدفع الذات إلى أن تعدَّها «خارجية»؟ ومن أين أتت لدينا صورة المكان وفكرة الخارجية التي ننسبها إلى الأشياء؟ إنَّ كانْت ليعجز تمامًا عن الإجابة على هذا السؤال، فهو حين يتساءل: «كيف يكون من الممكن — في ذات مفكرة — وجود حدس خارجي، أي حدس للمكان بما تشغله من أشكال وحركات؟» يجيب بقوله: إن «هذا سؤال لا يتسنَّى لأحد أن يجيب عنه، فتلك الثغرة في معرفتنا لا يمكن ملؤها بأية حال، وكل ما يمكن عمله هو أن نشير إلى هذه الثغرة بأن ننسب المظاهر الخارجية إلى ذلك الموضوع الترنسندنتالي الذي هو سبب هذا النوع من المظاهر، والذي لا نعرف عنه — مع ذلك — أي شيء، ولن يكون لدينا أبدًا أي تصور عنه.»٢٢
وهكذا يعترف كانْت بعجزه عن تفسير تلك التفرقة التي تقوم بها الذات للتمثلات إلى فئتين تنتمي إحداهما إلى الحس الخارجي والأخرى إلى الحس الباطن، ويعترف بعجزه عن تفسير أصل ذلك الحدس الخارجي بما فيه من مكان، وحتى لو قال كانْت بأن فكرة ترابط الإدراكات أو تسلسها حسب قاعدة معينة هي التي تفرِّق بين التمثلات التي ترتبط بموضوع وتلك التي لا ترتبط، فسنظل مع ذلك عاجزين عن الاهتداء إلى أساس للتفرقة بين النوعين، فكانت لا يحل المشكلة على الإطلاق حين يقول: إن الصفة التي تكتسبها التمثلات المرتبطة بموضوع هي «خضوع تلك التمثلات لقاعدة، بحيث يصبح من المحتَّم علينا ربطها في صورة محددة ما، وبالعكس لا تكتسب تمثلاتنا معنى موضوعيًّا إلا بقدر ما يكون من المحتم إخضاعها لقاعدة معينة من حيث علاقتها الزمنية.»٢٣ ولا جدال في أن هذه التفرقة صحيحة من حيث هي معيار لتلك المجموعة من الظواهر التي نسميها بالخارجية، ولكن وجه الاعتراض في هذه الحالة هو: كيف يمكن الانتفاع من هذه التفرقة في ضوء فلسفة كانت؟ ولنتساءل هنا أيضًا: من أين أتت هذه القاعدة التي تخضع لها الظواهر المرتبطة بموضوع في ترتيبها الزمني؟ إذ إن القول بأنها تنتمي إلى تركيب الذات أو إلى طريقتنا الخاصة في الإدراك، لا يحل المشكلة: فلو كان الأمر كذلك، فسنظل نتساءل: لم كانت بعض الإدراكات ذاتية خالصة — كالأحلام — وبعضها الآخر ذاتية خاضعة في ترتيبها الزمني لقاعدة معينة كالإدراكات المرتبطة بالموضوعات؟ إذا كان سبب وجود هذه القاعدة هو طريقة الذات في المعرفة لكان من الواجب أن تسري هذه الطريقة على كل تمثلات الذات، ولكنها في الواقع تسري على فئة معينة من هذه التمثلات، فلا بد أن يُرد انتظام هذه القاعدة إلى طبيعة الموضوع نفسه.٢٤

والواقع أننا لو سلَّمنا تمامًا مع كانْت بوجود «طريقة للذات في المعرفة» — من صور للحس ومقولات للذهن — فسيظل من الخطأ أن يؤكد المرء أهمية هذا العنصر الذاتي ويركز جهده فيه كما فعل كانت، فهذا العنصر — لو سلَّمنا بوجوده — سيكون هو «الثابت» الذي لا يتبدل في المعرفة، ولو تدخلت الذات فسيكون ذلك في كل مرة على نحو مطرد، ولن يكون في وسعها أن تتدخل في الظروف الواحدة إلا على صورة واحدة، فإذا تساءلت عن الفارق بين مدركَيْن يتمان في ظروف واحدة كمنضدة وكرسي متجاورين، فلن نستطيع إرجاع هذا الفارق بينهما إلى العنصر الذاتي، وإنما إلى العنصر الموضوعي الذي يؤدي تغيره إلى تغير الإدراك، ولما كان ما يهمنا حقيقةً في المعرفة هو كشف العنصر الذي بفضله تتغير المدركات، ويكون كل مدرك على ما هو عليه، ويتميز به عن غيره، فلا جدوى في هذه الحالة من التنبيه إلى العنصر الذاتي الذي هو مشترك بين كل الإدراكات، بل ينبغي البحث عن سبب التغير في كل حالة، وهو العنصر الموضوعي.

وعلى من يشك في ذلك أن يجيب على هذا السؤال: إذا كانت الذات هي العنصر الإيجابي الفعال دائمًا في المعرفة، فما الذي يدفعها إلى «بعث» هذه المقولة أو هذه الصورة الحسية؟ إن الذات لو تُرِكَت وحدها لكانت استجابتها على الدوام واحدة، ولا بد أن شيئًا خارجها هو الذي أدى بها إلى تغيير الصورة التي تصوغ بها المعرفة، حتى على افتراض وجود مثل هذه الصورة، وإذن فمن المستحيل تعليل تغير موضوعات المعرفة عن طريق الذات، بل إن الموضوع هو العنصر الوحيد الهام، ومن المؤسف أن كانْت لم يركز جهوده إلا على العنصر الذاتي، وهو العنصر غير الهام في المعرفة، بينما كان الموضوع — سبب كل تغيير في المعرفة — مجرد «س» مجهولة لا يُذكر عنها شيء إلا أنها قد تكون موجودة، ولكنا لا نعرف عنها شيئًا، ولا يمكننا أن نفعل من أجلها شيئًا أكثر من أن نقول: إننا لا نستطيع أن ننكر وجودها، ولكنا لا ندري ما هي!

•••

ولعل هذه الأمثلة لآراء الفلاسفة المثاليين في فكرة العالم الخارجي تكفي لإثبات إخفاق المثالية التام في تفسير خارجية العالم، ولا جدال في أن القارئ قد لاحظ أن المعنى الذي استخدمناه لفكرة الخارجية هنا هو معنى «الاستقلال عن الذات»، بينما أُهْمِلَ إلى حد ما معنى الخارجية المكانية؛ السبب في ذلك هو أن الشيء يكون خارجًا عن «شيء آخر» إذا كان في مكان غير مكانه، أما حين تكون المقارنة بين الشيء وبين ذات مدركة، فمن المحال الأخذ بمعنى الخارجية المكانية إلا إذا نظرنا إلى الذات على أنها متجسمة في شكل مادي يشغل حيزًا معينًا فحسب، ولما كان هذا المعنى الأخير لا يستوعب جميع خصائص الذات المدركة — التي هي «قوة للإدراك» إلى جانب كونها ذات حيز مكاني — فليس من الممكن الأخذ بمعنى المكانية في هذا الصدد، ولا بد من البحث عن معنى آخر للخارجية، ومن هنا كان معنى «الاستقلال عن الذات» هو أفضل معنى لخارجية الأشياء، فحين نقول: إن العالم يوجد خارج الذات، نعني أنه مستقل في وجوده عنها، ومصير فكرة خارجية العالم يرتبط في الواقع بفكرة استقلال العالم في وجود من الذات.

ولقد تبين لنا من الأمثلة السابقة مدى إخفاق المحاولات التي تبذلها الفلسفة المثالية للقضاء على فكرة استقلال العالم الخارجي هذه، فجميع هذه المحاولات الهادفة إلى تأكيد دور «الذات» في تمثلنا لهذا العالم الخارجي تخفق أساسًا في تفسير أصل ذلك الاعتقاد المتأصل بوجود العالم الخارجي أو تعليل التفرقة القاطعة التي تضعها التجربة البشرية بين مجموعتي الظواهر الداخلية والخارجية، حقًّا إن المثاليين قد ينجحون أحيانًا في إثارة الشك في النفوس بالإشارة إلى تلك الحالات «الحدودية» التي لا يكاد المرء يوقن فيها إن كانت التجربة خارجية أو داخلية، كحالات الأحلام وخداع الحواس، غير أن من اليسير إيجاد أساس للتفرقة إذا جمعنا بين معيار «استقلال الظواهر عن الإرادة» الذي قال به ديكارت ومعيار «اتساق الظواهر وترابطها حسب قاعدة محددة» الذي قال به كانت، ففي كل حالات الشك هذه، يكفي لإثبات خارجية موضوع التجربة أن تكون التجربة — من جهة — مستقلة عن إرادة الفرد غير نابعة من تخيله المتعمد، وأن تكون — من جهة أخرى — متسقة مع بقية عناصر التجربة ومرتبطة بها ارتباطًا محكمًا، وكما أثبتنا من قبل فإن أصل هذا الاستقلال عن الإرادة الذاتية والإحكام بين عناصر التجربة البشرية لا يمكن أن يكون هو الذات وحدها، التي يتبدى نشاطها جليًّا في نوع آخر من التجارب المعتمدة تمامًا على إرادة الفرد كتخيلات الإنسان التي يبعثها متى شاء ودون أي ارتباط محكم ببقية تجاربه، والأمر الذي أخفقت فيه المثالية إخفاقًا أساسيًّا، هو تعليل تلك الصفات القاطعة التي تتميز بها تلك المجموعة من الظواهر المسماة بالخارجية، فجميع التعليلات «الذاتية» تنتمي — كما رأينا — إما إلى الاعتراف بالعجز عن تفسير عنصر أساسي في التجربة البشرية، وهو عنصر الإحساس أو «المعطى» كما في حالة هيوم وكانت، أو تغطية هذا العجز بافتراض إيماني لا يقدم له أي برهان، ويؤدي إلى تكوين صورة للعالم الخارجي وعلاقته بالذات المدركة أغرب وأبعد عن الفهم ألف مرة من الصورة المألوفة في الموقف الطبيعي، كما في حالة باركلي.

ومن الغريب أن المثاليين — في الوقت الذي يبذلون فيه جهودًا جمة من أجل «رد» العالم الخارجي إلى الذات على نحو ما، ويتفننون في تقسيم قوى الذات على النحو الذي يكفل لها «بعث» كل التمثلات المتعلقة بالعالم الخارجي — يصمتون تمامًا فيما يتعلق بأصل هذه «الذات» نفسها، فهم يبدون روحًا نقدية شكاكة بالنسبة إلى طرف واحد، هو الطرف الموضوعي، أما الطرف الثاني فيأخذونه على علاته، وينسبون إليه ما شاءوا من القدرات دون أية محاولة لتعليل أصل هذه القدرات، وإذا كانت الفلسفة قد أسرفت في الكلام عن العالم الخارجي من حيث هو نتيجة لفاعلية الذات، ألا يحق لها أن تبحث قليلًا في الذات وفي أصلها، فربما اهتدت عندئذ إلى نوع من التأثير للعالم الخارجي نفسه في تركيب الذات؟ وعلى أية حال، فالتفكير المنطقي ينبغي أن يكون منطقيًّا في كل شيء، والذهن المنقب لا ينبغي أن يسكت على بعض الظواهر ويفتش عن أصل بعضها الآخر، وسكوت المثالية التام على فكرة الذات وقدراتها وصورها ومقولاتها — التي تُفترض افتراضًا دون أية محاولة للتعليل — هو، بلا شك، قصور لا يتمشى، على الإطلاق، مع روح الشك التي تبديها إزاء فكرة العالم الخارجي كما تتبدى في الموقف الطبيعي.

١  C. I. Lewis: Mind & the World Order. Dover. (N.Y.) 1956. p. 167.
٢  Ibid, 185.
٣  Ibid, 183.
٤  انظر مقال «حجة الأحلام في نظرية المعرفة» في آخر هذا الكتاب.
٥  The Principles of Human Knowledge. 1st. part §. 29.
٦  Ibid, §. 34.
٧  Ibid, §. 48.
٨  Ibid, §. 90.
٩  A Treatise Of Human Nature. Edited by Selby-Bigge (Oxford U. P.) P. 193.
١٠  Ibid, p. 7.
١١  Ibid, p. 8, 4.
١٢  Ibid, p. 67, 68.
١٣  يُلاحَظ على رأي هيوم هذا أن معنى «اللاإرادية» في حالة الانفعالات أو اللذة والألم مختلف عنه في حالة الإدراكات الخارجية، وأن هذه المشاعر لا يمكن أن تُسمى داخلية خالصة، بل لا بد أن يثيرها «موضوع» ما حاضر أو متذكر.
١٤  Ibid, p. 208, 209.
١٥  De anime, 417a.
١٦  Critique of Pure Reason. B. 37.
١٧  Ibid, 45b.
١٨  Ibid, 125a.
١٩  A. 369.
٢٠  Ibid, A. 368.
٢١  Prole gomena §. 13 note 2.
٢٢  Critique. A. 393.
٢٣  Critique B. 243.
٢٤  Critique B. 243.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤