الإسلام والمسلمون
من البديهي أنه يجب التفريق بين الإسلام في مبادئه وتعاليمه، كما يدل عليه القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وبين أعمال المسلمين من وقت أن اعتنقوا الإسلام إلى اليوم، فمن أراد الحكم على الإسلام فليرجع إلى أصوله الأولى، وينظر إلى جوهر تعاليمه ويزنها بميزان الحق والعدل، ومن الخطأ الفاحش أن يحكم على الإسلام بالمسلمين؛ فقد يكون الدين صحيحًا، ومعتنقوه خارجين عليه، منحرفين عنه، فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطأه هو، بل أحيانًا يكون الدين فاسدًا في جوهره وتعاليمه، ويرتقي معتنقوه، فتصدر عنهم أعمال فاضلة، لا تمت إلى دينهم الأصيل بسبب، وإنما هم الذين حوَّروا دينهم، وصاغوه صياغة خيرًا مما كانت عليه — والحق أن الفرق كبير بين الإسلام نفسه، وعمل المسلمين في مختلف العصور، وأكاد أجزم بأن الإسلام لم يحيَ حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا عصرًا قصيرًا جدًّا، وهو عصر الرسالة وما بعدها بقليل، وأما ما عدا هذه الفترة؛ فقد عاش المسلمون عيشة منحرفة عن الدين، وإن اختلف هذا الانحراف قلة وكثرة أو شدة وضعفًا.
لننظر قليلًا في أهم عنصر من عناصر الإسلام، وهو التوحيد الذي تبلور في قولنا: «لا إله إلا الله» فهل سار المسلمون عمليًّا واقتصاديًّا على هذا المبدأ، وإلى أي حد؟ — إن هذا المبدأ يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، وعبادة غير الله، وأما من عداه من الناس فسواسية لا إله ولا مألوه، قد يختلفون في النسب، وقد يختلفون في الثورة، وقد يختلفون في غير ذلك، ولكنهم كلهم إخوة فيما بينهم، وعبيد لله وحده.
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبيقها في الحياة العملية؛ إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم، فلا يركعوا للأقوياء، وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم، فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء، وهذا مطلب ليس باليسير، وإن كان هو جوهر الإسلام.
ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء — لا من أصحاب السيطرة — كبلال وأمثاله؛ لأنهم وجدوا في الإسلام تحررًا من عبوديتهم لغير الله، وكان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة والتأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا أخيرًا، وبعد عناد طويل، كأبي سفيان بن حرب في مكة، أو إسلامًا ظاهرًا بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبد الله بن أبيّ في المدينة، وأكبر سبب في تأخرهم، أنهم رأوا الإسلام يفقدهم تألهم وعظمتهم وربوبيتهم.
ولما فتح المسلمون فارس والروم، كان أغرب ما استرعى أنظارهم، عبادة الرعية لسادتهم؛ لِما وقر في نفوسهم بسبب الإسلام من أنه لا معبود إلا الله، والقرآن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أربابًا، أو خلعوا القدسية والربوبية على رؤسائهم الدينيين، وكانت دعوة الإسلام دائمًا دعوة إلى عبادة الله وحده وعدم الاعتراف بربوبية أحد غيره يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ.
ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتراف بالجاه، والاعتزاز بالمال؛ لأن كل ذلك من ضروب التأله، والإسلام عدو كل تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع من أول عهد معاوية أو قبله أحيانًا، فعاد الاعتزاز بالحسب والنسب، وأصبح مُلك معاوية — كما عبر كثير من المسلمين — ملكًا عضودًا؛ فيه اعتسافٌ، وفيه تأله، وخاصة من أهل بيته، وعادت الفروق بين الطبقات قريبًا مما كانت في الجاهلية، وتتابع الأمر على هذه الحال، وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله، كما كان في العصر العباسي وبعده؛ وبلغ ذلك التأله أوجه في مثل جنكيز خان وتيمورلنك وأشباههما.
إن نظرة الإسلام إلى الألوهية، والدعوة إلى إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعًا تقضي على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله وخلقه، ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلى سيرتهم الجاهلية الأولى، فاتخذوا أصنافًا من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله ويتقربون بهم إلى الله، متأثرين بالديانات القديمة، أما الإسلام نفسه فيدعو إلى أنه لا حجاب بين أي عبد مهما ضعف وبين الله، وقد عاب على النصارى واليهود اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.
ولعل السبب في ذلك، أن هذه العقيدة الصحيحة، عقيدة الإيمان بالله وحده، والخضوع له وحده، وعبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة في تصفية النفس من الشوائب، والنفوس القوية عادة تعشق التأله والاستعلاء، والنفوس الضعيفة سرعان ما تستسلم، وهذا مشاهد في كل أمة، وفي كل جماعة، وفي كل عصر، من عهد أن قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى» ومن قبله ومن بعده.
وهؤلاء الأقوياء يتخذون لتألههم أشكالًا وألوانًا من المظاهر، فمنهم من يتأله بجنوده وبنوده، وكثرة ماله ونحو ذلك، ومنهم كبار المستبدين في أممهم مثل نابوليون، ومثل هتلر وستالين، ومنهم كبار أصحاب رؤوس الأموال في كل أمة، ونحو ذلك، كلهم يتألهون، وكل الناس حولهم تؤلههم، وإن لم يسمِّ الأولون أنفسَهم آلهةً، وإن لم يسمِّ الآخرون أعمالَهم عبادةً، ولكن العبرة بالحقيقة لا بالأسماء، والإسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله وألوانه، والمسلمون — مع الأسف — في كل عصورهم ما عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة، وعبادة وخضوع من جانب الضعف.
هذه ناحية من نواحي التأله والعبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، وهناك ناحية أخرى من التأله والعبودية يصح أن نسميها مُحَجَّبَة؛ ذلك أن هناك قومًا لم يكن لهم من قوة السلطان، وكثرة المال والجنود والعصبية، ما يمكنهم من الاستعلاء في الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء من طريق خفي، ولهؤلاء أمثلة كثيرة كالسحرة والمشعوذين والدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب والاستمداد من السماء، وأن بينهم وبين الله نسبًا، أو بينهم وبين الجن صلة، وأنهم يستطيعون بذلك أن يقربوا إلى الله من يشاءون، ويحرموا من الجنة من يشاءون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطروا على قوانين الطبيعة في هذا الكون بسحرهم وتعاويذهم وتعزيمهم وما إلى ذلك، كل هؤلاء وأمثالهم لما فقدوا السلطة الظاهرة والقوة الدنيوية، لجئوا بمكرهم وحيلهم إلى ادعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذج والبله، وكان من سوء الحظ وضعف العقل أن قُبِلَتْ دعوتهم، وتألهوا هم الآخرون، وعبدهم أتباعهم، فكان في الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية، ومملكة السلطنة الغيبية، والناس موزعون في العبادة بين هؤلاء وهؤلاء، وكل هذا حرب على الإسلام في جوهر تعاليمه وهو الذي ينادي دائمًا، ويجعل شعاره دائمًا: أن لا إله إلا الله، وأن كل تأله باطل، وأن كل عبادة لغير الله باطلة، ولكن كم من المسلمين في العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شيء من عبادة وتأله.
ومن الأسف أنه في كثير من عصور تاريخ المسلمين، تعاونت القوتان، الظاهرة والباطنة، والمادية والغيبية، على إفساد حال المسلمين، فتحالف الملوك الظلمة والسلاطين الغاشمة مع الدجالين من رجال الدين، والدجالين من المتصوفين، وأعملوا قوتهم في إفساد عقيدة الوحدانية، وفي تعديد الآلهة وعبادتها، واتخذوا لذلك وسائل لا تحصى، فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت والطغيان، ورجال الدين تضع لهم من الأحاديث مثل «السلطان ظل الله في أرضه» والخطباء والوعاظ يصرفون الناس عن المطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله والغنى من الله، وليس للجد ولا للعمل أي دخل في الغنى والفقر، وأن ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرة المسلمين، ونحو ذلك من تعاليمَ تفسد الروح، وتذل النفس، وتمكن المتألهين من التأله، وتوجه الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الإسلام في قليل، ولا كثير.
ولو نحن نظرنا نظرة شاملة، لرأينا أن أكثر شرور العالم في الشرق والغرب، وفساد حال الأمم يرجع إلى هذا التأله من جانب، والعبادة والضعف من جانب آخر، فالعلاقات بين الأمم، والحروب المتتابعة إنما يبعثها في الغالب حبُّ الاستعلاء، أو بعبارة أخرى التأله ومحاولة الدولة القوية أن تسيطر على العالم لتكون إلهته، وليكون غيرها عبادًا أذلة، وكان كل هذا يزول لو اعتنق الجميع أن لا إله إلا الله.
وبعد، فهذا أصل من أصول الإسلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، وانحط شأنهم، ولعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول الإسلامية الأخرى، ونبين كيف عطلت وأهملت، والله الموفق.