سنن الله في الكون
كتبنا في المقال السابق عن بعض سنن الله في الأمم، واليوم نذكر طرفًا آخر من هذه السنن.
من ذلك أنه إذا فسد الرؤساء وسكت أهل الرأي عن النصيحة، استشرى الفساد، وعم الأمة كلها، وأما إن اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها بقيت وصلحت، ومن أجل هذا تجتهد الأمم المستعمرة أن تولي رجلًا يكون طوع أيديهم، فيستعمرون الأمة عن طريقه، وقد أوجب الله على نفسه عقاب الأمم المذنبة، ولا يرتفع العقاب إلا بالتوبة، لذلك لما قدم عمر بن الخطاب العباس للاستسقاء؛ لقرابته من النبي ﷺ قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة».
ومن القوانين العامة في الأمم أن الظلم والبغي والفساد سبب في انحطاط الأمم وضعفها وهلاكها، بل ورد في القرآن أن ذلك سبب لقلة المطر وللقحط ولفساد الزرع وهلاك الحرث والنسل.
ومن هذه القوانين أن الأمم تهلك لسيطرة أصحاب الأموال ورغبتهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون، وقد ضرب الله مثلًا أمة شعيب؛ إذ كانوا يستبيحون تنمية الثروة بكل الطرق الممكنة؛ كالتطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، فكان شعيب — عليه السلام — ينهاهم عن ذلك كله، ويوصيهم باجتناب أكل أموال الناس بالباطل وقناعتهم بالحلال، وهم يقولون: إنهم أحرار في أموالهم يفعلون بها ما يشاءون: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، فعاقبهم الله بضياع أموالهم، ولا تزال المشكلة المالية وحرية التصرف من أعقد المشاكل الاجتماعية اليوم، يرى أرباب الأموال أنهم أحرار في مالهم يفعلون فيه ما يشاءون، ويرى المصلحون والأخلاقيون أن المال لا بد أن يخضع للأخلاق، فلا يُستغل الفقير استغلالًا يضر به، وقد جعل الله من أسباب صلاح الأمم قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله أمرًا لازمًا لصلاح الأمة، فإذا قاموا به نجوا، وإلا هلكوا، وقد ذم الله اليهود بقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
ومن سنته تعالى ابتلاؤه للأمم بالنعم والنقم، فالله يختبر المؤمنين الصالحين الأخيار، والمجرمين الأشرار بكثير من مصائب الدنيا، فالمؤمن البصير يراها تربية وتهذيبًا وتمحيصًا له تزيده إيمانًا وبصيرة يقول الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ فيرى المؤمن في هذه الدنيا مظاهرَ كثيرةً لتنعُّمِ المجرم وكثرة ثروته حتى يستفزه ذلك المنظر، ويرى المؤمنين الصادقين في بلاء ومحنة، فإن صبر لهذه المناظر اجتاز هذه المرحلة بنجاح.
كذلك من سنن الله في الأمم أنه إذا تفرقت الأمم شيعًا وأحزابًا؛ يضرب بعضهم بعضًا، ويحارب بعضهم بعضًا، حق عليها الفناء، وإذا توحدوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتعاونوا وحمل كلٌّ عبئه، وساعد الباقين على تحمل أعبائهم نجحوا وكونوا أمة صالحة، وهذا ظاهر في تاريخ الأمم؛ قديمها وحديثها، غربيها وشرقيها، وعبر الله عن نتيجة الذين يتحدون ويتعاونون بقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وابيضاض الوجوه من ارتياحهم لحسن النتيجة، واسودادها لما يرون من سوء النتيجة، ثم إن الله جعل لحياة الأمم مقومات؛ كتربية النشء تربية صالحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة نظام العائلة، ونحو ذلك، فإذا تمت مقومات الأمة صلحت، وإذا لم توجد أو لم يوجد بعضها لم تتكون أمة صالحة، وكذلك للأمة قوانين لارتقائها، لا ترتقي بدونها، كبنائها الحياة على العدل، وتدعيمها بالقوانين الاقتصادية التي تكفل رفاهيتها وثروتها، فمن عمل بتلك القوانين نجح وارتقى، وإلا ضعف وفني، كذلك نرى أن الأمة إذا أخذت بمبدأ الشورى ومبادلة الرأي وخصوصًا في جلائل الأعمال ارتقت، وإذا استبد حكامها بالرأي وفرضوا آراءهم من غير مناقشة ضعفت وانهارت؛ لأن المستبد مهما عقل فليس بمأمون الزلل.
تلك بعض قوانين الله في الأمم، أبانها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فمن اتبعها وعمل بها أمن الفناء وضمن الرقي والبقاء، ومن تهاون فيها كان عرضة للضعف والفناء، وهذه القوانين دائمة لا تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، كانت فيما مضى، ولا تزال باقية إلى اليوم، وستظل باقية في المستقبل.
لقد غير علماء الاجتماع صيغتها وأسماءها، ولكن الحقيقة واحدة مهما تغيرت الأسماء، والأمم تحافظ على بقائها بمقدار اتباعها لها، وتنحط بنسبة ضياعها لها، وهي قوانين ثابتة ثبوت القوانين العادية، كالتمدد بالحرارة والانكماش بالبرودة.
لا يهم هذه القوانين إلا السير عليها لتؤدي نتيجتها سواء علم أصحابها أنهم يسيرون عليها أو لا، شأن الشخص يتعاطى سمًّا فتكون له نتيجته المحتومة ولو لم يعلم أنه سم، ويتعاطى الدواء الناجع، فيشفى ولو لم يعلم أنه دواء، وهكذا شأن القوانين الطبيعية.
لقد سار على مقتضاها المسلمون الأولون ففازوا بنتيجتها، اتحدوا ولم يتفرقوا، وعدلوا ولم يظلموا، واتبعوا القواعد الاقتصادية في الشئون المالية فنجحوا نجاحًا باهرًا، وفتحوا ما لم يكن في الحسبان، وهرع الناس إليهم من ظلم الفرس والرومان، وكانوا في كثير من المواقف يعينونهم على عدوهم ويعرفونهم بمواضع الضعف عند حكامهم، كما فعل الإسبانيون في إسبانيا والأقباط بمصر، وليس يصلح المسلمون إلا بما صلح به أولهم، انظر إلى الأمم المختلفة ترها كلها واقفة على سلم ذي درجات، بعضها أرفع من بعض، وسبب هذه الرفعة تمسكها بهذه القوانين الطبيعية التي أوجبت رقيها، وسبب وقوف بعضها على درجات أدنى من السلم تهاونها في بعض هذه القوانين، وسواء في ذلك الأمم الشرقية أو الغربية، فاتباع هذه القوانين يؤول إلى الرقي بقطع النظر عن مسلم وكافر، شأن ذلك شأن القوانين المادية تمامًا، فالأسرة تسعد بالصدق والعدل كائنة ما كانت وعلى أي دين كانت، وهي تنحط بالكذب والظلم كائنة ما كانت وعلى أي دين كانت، فالقوانين الطبيعية لا تفرق بين دين ودين، ولا جنس وجنس، إنما يهمها اتباع القانون أو عصيانه وكفى.