منهج الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة
ظلت الفلسفة منذ عصر اليونان، إلى عصر الرومان، إلى العصر الإسلامي، متأثرة كل التأثر بتعاليم أفلاطون وأرسطو، وخاصة أرسطو، واعتقد الناس أن ما جاء به أرسطو هو الحق، وما بحث فيه، فهو مجال البحث، وما تركه، فهو مجال الترك، وبذلك أجلسوه على عرش يشبه عرش الألوهية، حتى إنه لو قام البرهان المحسوس على فساد زعمه، شكوا في عقولهم، دون عقل أرسطو؛ فقد حكوا أن أرسطو قال: إن الشيء الثقيل والخفيف إذا ألقيا من مكان عال نزلا في زمن واحد، والتجربة تدل على أن الشيء الثقيل ينزل قبل الشيء الخفيف، ومع ذلك صدق الناس ما قال أرسطو وكذبوا عقولهم! فإن قلنا: إن أرسطو شل عقول الناس قرونًا طويلة، لم نكن بعيدين عن الصواب! وقد بحث أرسطو في كل الأشياء: من نبات، وحيوان، وأرض، وسماء، وإلاهيات، ونفوس كلية، ونفوس بشرية، وأخلاق، واجتماع، وغير ذلك، ولكن المكانة الأولى كانت لما بعد الطبيعة؛ لأنها متصلة بالأديان، والأديان لها تأثير كبير في النفوس، فكان الفلاسفة يمرون مرَّ الكرام على النبات والحيوان والطبيعة، ثم يضعون أكبر اهتمامهم فيما بعد الطبيعة، فعل ذلك الكندي والفارابي، وابن سينا وابن رشد، والقديس توما النصراني وغيرهم، وبحث أرسطو فيما بعد الطبيعة هذه في أشياء كثيرة؛ من أهمها: هل المادة قديمة أو حادثة؟ وذهب إلى أنها قديمة، كما بحث في: كيف صدر العالم عن الله، وكيف تطور؟ كما بحث في النفس الإنسانية، وهل تخلد بعد الموت؟ وإن كانت تخلد فهل الذي يخلد هو النفس الكلية، أو النفوس الفردية؟ وذهب إلى أن الذي يخلد هو النفس الكلية، وإذا كان كذلك، فما معنى الثواب والعقاب؟ وأن كل إنسان يجازى بعمله، إلى أمثال ذلك من المباحث التي تعرض لها الدين أيضًا، فمن أهم أسس الدين خلق الله للعالم، وأنه هو وحده الأزلي الأبدي، وأن النفس الفردية تبعث بعد الموت، وتجازى على عملها، وقد ذهب في هذا فلاسفة المسلمين إلى ثلاثة أقسام: قسم كابن سينا وابن رشد وإخوان الصفاء حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، كما فعل ابن رشد في تأليفه كتاب «فصل المقال، فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال» فقالوا: إن الدين صحيح، والفلسفة صحيحة، فيجب أن نوفق بينهما! وقسم كالغزالي ندد بالفلسفة وأنكرها، وقال: إن تعاليم الدين هي الصحيحة، وتعاليم الفلسفة خطأ في خطأ. وألف في ذلك كتابه «تهافت الفلاسفة»، وقسم قالوا: إن التوفيق بين الدين والفلسفة خطأ، وإن الدين صحيح، والفلسفة صحيحة، ولكن لكل منهما منطقة نفوذ، لا يصح أن يعتدي أحدهما على الآخر! فالعاقل يتبع الدين في مجال الدين، والفلسفة في مجال الفلسفة! فما أتى به الدين في البعث والنشر واليوم الآخر، وخلق العالم يؤخذ قضية مسلمة متى اعتنق الإنسان الدين، وما أتت به الفلسفة من طبيعيات وكيماويات ومنطق، ونحو ذلك يفهم ويبحث وينسق، ومن أمثلة هذا القسم أبو سليمان المنطقي؛ فقد عاب على إخوان الصفاء منهجهم، وقال: إنهم حاولوا التوفيق عبثًا. وأيًّا ما كان؛ فقد ظلت تعاليم أرسطو مقدسة، عند فلاسفة المسلمين، وانتقلت منهم في القرون الوسطى إلى علماء اللاهوت في أوربا، وعلى الأخص ابن رشد، ووفقوا بين الدين والفلسفة كما قال ابن رشد، ومن أثر هذه الفلسفة أنها تجعل صاحبها أميل إلى تصديقها أكثر من الدين، والاعتقاد بأن الدين للجماهير والخاصة، والفلسفة للخاصة، وأخيرًا وبعد قرون طويلة حدثت النهضة في أوربا، وجاءت فلاسفة لم يخضعوا لأرسطو، وإنما خضعوا للحقيقة، وكان على رأسهم الفيلسوف بيكون، قال: إن عقل الإنسان تتحكم فيه أوهام، ومن ضمن الأوهام تقديس أرسطو وأمثاله، وأرسطو حقًّا عقل كبير، ولكنه يخطئ أيضًا ويصيب.
قالوا: ونحن لا نريد أن نؤمن إلا بما تدل عليه المشاهدة والتجربة، ووضعوا مكان أرسطو المعامل التجريبية، يجربون فيها نظريات الطبيعة والكيمياء وحتى نظريات علم النفس، فما لم تدل على صحته هذه التجارب لا نصدق به؛ فقد كان أرسطو يسرف في استعمال القياس في المنطق، فمثلًا يرى أن الماء إذا غلى مرارًا يتبخر، وأن اللبن كالماء إذا غلى مرارًا يتبخر، فوضع نظرية تبخر الماء واللبن، ولكن بيكون قال: إن هذا لا يكفي في التجربة، بل لا بد من تجارب إيجابية، وتجارب سلبية، حتى تثبت النظرية، فمثلًا إذا سخن الماء مرارًا تبخر، فهذه تجربة إيجابية، ويجب أن يضاف إليها تجربة أخرى عكسية، وهي تبريد الماء فيتجمد، ثم رأوا أن البحث في الأشياء الإلهية التي بحث فيها أرسطو وأتباعه، كخلق العالم، والبعث والنشور، ونحو ذلك، أمور لا يمكن العلم إثباتها ولا نفيها، وإنما هي أمور يمكن تصديقها عن طريق الدين، فمتى اعتقد الإنسان بإله ونبي وأتى النبي بهذه التعاليم، أمكن التصديق بها تصديقًا مسلمًا به، ومن أجل ذلك سميت الكائنات الطبيعة عالم الشهادة، والموجودات الأخرى الغيبية عالم الغيب، والعلم في عالم الغيب يدور حول نفسه ولا يتقدم؛ لأن المشاهدة والتجربة لا تعملان فيه شيئًا، ولذلك قسم اسبنسر الموجودات إلى ثلاثة أقسام: معلوم كالطبيعيات، وغير معلوم كذات الله تعالى وصفاته، وما لا يمكن معرفته بوسائلنا الخاصة، كالموت والحياة واليوم الآخر وأمثال ذلك، ولما أيقنوا أن البحث فيما بعد الطبيعة غير ذي فائدة اتجهوا أكثر ما اتجهوا إلى الطبيعيات، وبنوا عليها نظرياتهم واكتشافاتهم، فتقدموا تقدمًا كبيرًا في بحث المادة وخصائصها، وبنوا عليها المخترعات الحديثة مما بهر الأنظار، وأصبحت الفلسفة تبنى على المشاهدة والتجربة، وأكملوا منطق أرسطو الصوري بمنطق المادة، كالبحث في الفروض والنظريات، والحقائق، ولم يكتفوا بأشكال القياس مثلًا، بقطع النظر عن المقدمات: هل هي صحيحة أو ليست صحيحة؟ وقالوا: إن عقل الإنسان عقل قاصر، لا يستطيع البحث إلا في العيش ووسائل العيش، أما ما عدا ذلك من البحث في أصل الحياة، والحياة بعد الموت، واليوم الآخر، فهذه أمور لم يمنح العقل البشري القدرة على إثباتها والبرهنة عليها، فهي تؤخذ عن طريق الدين، ويصدق بها على أنها قضايا مُسَلَّمَةٌ، وبعضهم تغالى، وأنكر ما ليس مادة تخضع للمشاهدة والتجربة، ولذلك قالوا: إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم، ومعنى ذلك أن العلم لا يستطيع السير إلا في المادة بسيطها ومركبها، فإذا هو تجاوزها، فلا يستطيع السير، ويمكن الإنسان أن يكون عالمًا ومتدينًا في وقت معًا، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ويخرج منه ليشتغل في المعمل، يرى ويجرب، وهذا شيء، وهذا شيء، وهذه منطقة نفوذ، وهذه منطقة نفوذ، وليس يسلم العلم دائمًا إلى الإلحاد، بل كثير من العلماء رأوا في المادة ما يعجزهم عن فهمها فهمًا حقيقيًّا، إلا إذا فهموا أن وراءها إلهًا مدبرًا، وقد كان ابن رشد يقول: إن اشتغاله بتشريح أعضاء الجسم الإنساني أكسبه إيمانًا فوق إيمانه، وغيره زاده إيمانًا اشتغاله برصد الكواكب وحركتها، وغيرهما زاده إيمانًا رؤية العالم وما فيه من نظام وتناسق، فحيث لا تكون للطفل أسنان يكون هناك لبن، وحيث توجد له أسنان توجد لحوم وبقول، وعلماء الذرة اليوم يقفون على أشياء في الكون تستوجب العجب، ومن وراء العجب الإيمان.
على كل حال نريد أن نقول: إن البحث في الفلسفة القديمة كان دائرًا حول نفسه، لم يقدم الناس شيئًا، ومنهج البحث في الفلسفة الحديثة من عدم تقديس ما قاله العلماء، وبناؤه على المشاهدة والتجربة، قدم العالم تقدمًا كبيرًا، وأسوق هذا لأنصح المسلمين أن يبنوا بحوثهم ويتجهوا في اتجاهاتهم إلى ما ينبني عليه في الحياة عمل، دون ما يقتصر على سفسطة أو جدل، وفي ذلك يعجبني الإمام مالك؛ فقد كان لا يفرض فروضًا، وإذا عرضت عليه مسألة سأل: أينبني عليها عمل أم لا؟ فإن كان ينبني عليها عمل أفتى، وإلا لا.