أحلام الشيوخ
لقد اعتدنا أن نسمع دائمًا كلمة «أحلام الشباب» فأما «أحلام الشيوخ» فلم أسمعها حتى اقترحت عليَّ مجلة الهلال أن أكتب فيها أحلام الشيوخ، ولئن كانت أحلام الشباب هي أحلام المستقبل فيحلم الشاب بمنصب وتكوين ثروة وتكوين عائلة وتكوين شهرة ونحو ذلك، فإن الشيوخ تحلم بالماضي يذكرها ضعف الصحة بما كان لها من قوة الصحة، وعجز العين بما كان لها من قوة النظر، وعلى العموم يذكرها ضعف الشيخوخة بما كان لها من قوة الشباب.
وربما كان كل شاعر قد تقدمت به السن بكى شيبه وبكى على شبابه في أبيات كثيرة، وقد جمع الشريف المرتضى كتابًا جمع فيه مستحسن الشعر في الشيب والشباب وسماه «الشهاب في الشيب والشباب» وأضاف إلى شعرهم ما استجاده من شعره، ومن أحسن ما اختاره قول الشاعر:
وقول الآخر:
وقول المتنبي:
وقد عبر هذا الشاعر عن أحسن أحلام الشيخوخة، والشيوخ دائمًا تحلم بالشباب وتذكر أيامه وأحداثه وكيف كانوا ينعمون بمباهج الحياة، فلما انقضى الشباب ضاعت كل المباهج حتى إذا حدثت أو حدث أكثر منها لم يبتهجوا ابتهاجهم بها أيام الشباب، فكأن الشباب ظرف لا بد منه للاستمتاع بلذة الحياة؛ فقد كان الشباب خليقًا بأن يبتهج بكل شيء حتى بالتافه منه وحتى بالآلام، إذا وقع في مشيته ضحك، وإذا أصابه الحر الشديد أو البرد الشديد ضحك.
فإذا تقدَّم في السن فربما كانت وسائل السعادة أوفر ولكن النعيم بها أقل؛ فقد يكون أكثر مالًا وأكثر عيالًا وأحسن ملبسًا ومسكنًا ولكنه مع ذلك لا يجد السرور الذي كان يجده أيام الفقر مع الشباب وأيام الوحدة قبل الزواج.
إن الشباب هو الظرف الذي تنال فيه السعادة، فهو يسعد حتى في أحرج الأوقات، يسعد بالهجر كما يسعد بالوصال، ويسعد بالعيش الجاف يأكله والملبس الخشن يلبسه، فكأن الشباب يعوض عنه كل نقص؛ ذلك لأن الشباب قوة تستر كل ضعف وحيوية تخفي كل عجز.
•••
والحلم الثاني للشيوخ حلم الصحة، يذكره بها سعال الليل إذا سعل، وأعصابه إذا يبست، وعظامه إذا تصلبت، وأنفاسه إذا تلاحقت، ومعدته إذا لم تهضم، وسكره إذا خلع مفاصله، وقلبه إذا أسرع نبضه، يحلم بالصحة وكل شيء في الكون يذكره بها، وقد كان لنا صديق — رحمه الله — يجلس دائمًا مع الشيوخ الطاعنين في السن، فلما سألته عن ذلك قال: إن هذا المجلس يذكره بالشباب وأيامه اللذيذة، وهو إذا قارن سنه بسنهم اعتقد أنه شاب بالنسبة إليهم.
وحتى إذا كان الشباب فقيرًا جدبًا خشنًا كانت ذكراه أحسن منه، فكأن الذكرى تجرده من آلامه وتسبغ عليه من اللذائذ ما استطاعت، شأننا في ذلك شأننا في تقديس الآباء والأمهات والعظماء إذا رحلوا من هذا العالم وربما حمل على ذلك شدة الوفاء الماضي كالذي يقول المتنبي:
ومن نعم الله على الشيوخ أنهم لم يحرموا أيضًا من أحلام المستقبل فقد ركب فيهم حب الحياة وحب الغنى والأمل في المستقبل، وفي الحديث: «يشيب ابن آدم ويشيب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل»، فهو حتى إذا زادت ثروته طمع في ثروة أكبر منها، وما كان يحمله في الشباب على إنفاقه تحمله الشيخوخة على ادخاره، مع أنه من المؤكد أن حياته أقصر من حياته في شبابه، وكذلك يزداد أمله، فإن كان مريضًا أمَّل في صحته في المستقبل، وإن كان فقيرًا اليوم أمَّل الغنى غدًا، وهكذا بنيت الحياة على الأمل، ولولا الأمل لنفذ الناس نصيحة شوبنهور في أي يجتمعوا ساعة لينتحروا.
•••
ومما يلطف حياة الزعماء أنهم لا يقصرون أملهم على أشخاصهم، بل يأملون أن تنصلح حال أمتهم فيبلورون إصلاحهم ويدعون إليه بكل قوتهم الضعيفة، وكلما رأوا أمتهم تتقدم كان ذلك أعظم سلوة لهم وأعظم معوض لشبابهم، اتخذوا من الأمة كلها أبناءهم وبناتهم يبصرونهم بما هم فيه من ضعف وفساد، ويرسمون لهم طريق النجاح، وكلما ساروا فيه خطوة حرضوهم على الخطوة الأخرى وفرحوا بنجاحهم؛ وكان في ذلك تعويض عن لذتهم في شبابهم، ولذلك كانت حياة العظماء في الشيخوخة أحسن من حياة غيرهم؛ لأنهم ربطوا حياتهم بحياة أمتهم، والأمة فتية أبدًا حية أبدًا فاستعاضوا عن شبابهم بشباب أمتهم، وعن حيويتهم بحيوية بلادهم، بل إن انغماسهم في حركة الإصلاح ووقوفهم على نتائجها ورغبتهم في نجاحها، تزيد من حيويتهم، ولنا صديق — حفظه الله — تجلس إليه فكأنه يلفظ النفس الأخير، حتى إذا عرضت عليه أمر الأمة واستحثثته الكلام في العيوب وطريقة إصلاحها والأدوية وكيف تعالج بها أدواءها نشط للكلام وللكتابة حتى كأنه قد رجع إليه شبابه.
ومما يعزي الشيوخ أنهم قد نفضوا أيديهم من شهوات الشباب وعواقبها وآلامها، واستعاضوا عنها بنضج العقل وقوة التفكير كما قال البارودي — رحمه الله:
ومن نعم الله أيضًا عليهم أن العقل لا يشيب شيبَ الجسم، وقد يكون الشخصُ مهدمًا في الجسم، ولكنه بارع في سمو العقل، وعقله مع ذلك منزه من صلف الشباب وطيشه ورعونته، وهذا العقل يتمتع أيضًا بحسن تجاربه وذكريات ما جرى له من أحداث فكأنه يحيا من جديد فيها وينعم بذكرى لذائذها حتى وآلامها، فهو يجرد الآلام من أشواكها ويذكرها ناعمة ناضرة.
وهو لأجل ذلك لا يحب أن يعود إلى الماضي بلذائذه وآلامه إلا إذا عاد معه عقله الحاضر؛ لأنه ينعم بذكرى الآلام أكثر مما ينعم في أيام اللذائذ والآلام.