التسلح الخلقي قبل التسلح العسكري
شاعت بين الناس كلمة «التسلح» يقصدون بها إنتاج الأسلحة المادية فأراد قوم خيِّرون أن يعارضوها بالتسلح الخلقي، مقابل التسلح المادي، لقد زعم دعاة التسلح المادي أن التسلح للحرب يمنع خطر الحرب، ولكن لم يصح تنبؤهم، فما إن يتم تسلحهم حتى تنفجر الحرب ويرمى في نارها بالسلاح؛ وذلك لأن إعلان الحرب في يد حفنة قليلة من زعماء مغرمين بها، إما لداع وطني فيرون أن الوطنية الصادقة تدعوهم للحرب؛ رغبة في الانتصار، وإما لأن وراءهم رأسماليين يربحون أرباحًا طائلة من أدوات القتال … فجاء قوم خيرون، رأوا أن التسلح الخلقي هو المنجاة من الحرب؛ إذ ليست الأخلاق صدقًا وكرمًا وعدلًا فقط، بل منها أيضًا نشر السلام، ومنع الحرب، فوُجدت جمعية لهذا الغرض، وانتشرت في أقطار العالم، وحضر لفيف من أعضائها منذ سنتين في الإسكندرية، وهم يرون أن الحرب مهما عظمت، ومهما كان الداعي إليها، لا تساوي ما ينتج عنها من تخريب وسفك دماء وقوة عداء، وأن الناس قديمًا كانوا إذا اختصموا يأخذون حقهم بأيديهم فلما ارتقوا احتكموا إلى المحاكم …
وهذا ما ينبغي أن يكون شأن الأمم إذا اختصمت، فهي لا بد أن تحتكم إلى محكمة دولية لفض النزاع، ووجدت من أجل ذلك فكرة عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم، ولكن أفسدهما أنهما محكمتان غير عادلتين؛ فقد اتخذت إنجلترا عصبة الأمم محكمة تقضي لصالحها سواء كانت محقة أم مبطلة، واتخذت أمريكا هيئة الأمم المتحدة كذلك، وها نحن هذه الأيام نسمع أن فرنسا تعلن أنها لا تسمح بأن تنظر هيئة الأمم الخلاف الذي بينها وبين تونس ومراكش؛ لأن هذا يهمها وحدها … شأن الظالم الغاصب، يريد أن يمنع المحكمة من التدخل في الظلم والغصب، فتطأطئ أكثر الحكومات رأسها لهذا، ومن غير شك سيودي هذا بهيئة الأمم المتحدة، كما أودى مثل ذلك بعصبة الأمم من قبل، ولو عدلت هيئة الأمم كما تعدل المحاكم بين الأفراد، لعلا شأنها وصانت كيانها، ولكن يظهر أن الأمم محتاجة لزمن طويل؛ لتدرك معنى العدالة الإنسانية بين الأمم، كما أدركت المحاكم معنى العدالة بين الأفراد، فحفظت كيانها.
إن التسلح الخلقي يجعل للفرد، إذا حمل على ظلم، أن يقول: «لا» بملء فيه … ومن أغراض هذا التسلح الخلقي التسامي وجعل كل فرد مشرفًا على مصالح الأمم، يحميها من الظلم، ويعمل لتحقيق العدل … وإلا فما بال فرنسا تقف هذا الموقف، وما بال إنجلترا في إيران تقف موقفها المخزي فلا ترضى شركتها بنصف الربح؟! والشعب الإيراني فقير يريد أن يعيش ويحصل على الضروري من القوت، والإنجليز يريدون أن يصرفوا المال في الترف وفي الكماليات، ولا يسمعون لدعوة داع إلى الخير، ولا لتوسط أمريكا ولا غيرها، وكم في الدنيا من مظالمَ يرتكبها الرجل الأبيض ضد الرجل الملون، ولا يسكت التسلح الخلقي حتى يزيل هذه المظالم، ويحل محلها العدل، ولم تجعل الإنسانية يومًا ما من الرجل الأبيض مستعمِرًا، ولا من الرجل الملون مستعمَرًا، وليس يهدأ أصحاب التسلح الخلقي حتى يروا الشعوب متساوية، والعدالة شاملة … إنه ليحز في نفوسهم أن يروا مظالمَ لا تنتهي؛ ملوكًا جائرين، وساسة مستبدين، وحكومات تتباهى بالظلم، وذلك عهد مضى، وقد قضي على بعضهم، وسيقضى على البقية الباقية منهم، ففي رأيي أن العالم يسير إلى الأمام دائمًا … قد تتخلف بعض الأمم، وقد يرقى بعض الأمم في ناحية، وينحط في ناحية، ولكن العالم على العموم لا يعبأ بكل هذا، ويسير إلى الأمام.
وقد كان العالم مملوءًا بمصادرات الملوك والأمراء، وهم لا يعترفون بحق أي أحد غيرهم في الحياة، فلهم أن يقتلوا من شاؤوا، وينهبوا ما شاؤوا، ثم اعترف أخيرًا بحق الإنسان في حياته وفي حريته، وفي تعلمه، وفي ملكيته، تحميه القوانين وتمنع من الاستبداد به حتى الملوك والأمراء، وهو يسير إلى الأمام نحو احترام هذه الحقوق للأمم … فلا ظلم ولا استعمار، ولا سفك دماء، وإنما أخ كبير يأخذ بيد أخ صغير، حتى يرشد، ووصي عادل يحمي من ليس من ذوي الأهلية حتى يبلغ سن الرشد.
هذا برنامج التسلح الخلقي، وهدفه الأسمى … ولا بد أن يصل إليه العالم بعد قليل من الزمن أو كثير، وقد عودنا التاريخ أن دعاة الإصلاح قد يفشلون، وقد يقتلون، ولكن يأتي من بعدهم قوم يحملون فكرتهم، ويدعون إليها، وهم أشد ممن قبلهم فينجحون، وهذا ما أرجو أن سيكون.