حديث إلى نفسي
اعتدت كل يوم أن أخلو إلى نفسي لحظات، أفكر فيها فيما مر عليَّ من أحداث اليوم … سواء منها ما ساء، وما سر، ولا أعد يومًا لم أتمكن فيه من هذه الخلوة، سواء كان ذلك في رحلتي أو إقامتي، وقد أذكرني ذلك بقصة صوفية لطيفة، وهي أن صوفيًّا رحالًا دخل بلدة وأحب أن يزور مقبرتها … فرأى عجبًا: رأى بعض شواهد القبور مكتوبًا عليه: هنا يرقد فلان، وقد حج، وألف، ومات وعمره يومان! … وعلى شاهد آخر: هنا يرقد فلان، وقد غزا سبعًا وعشرين غزوة في سبيل الله، ومات وعمره ثلاثة أيام! … وعلى شاهد ثالث: هنا يرقد فلان وقد طوف في البلاد شرقًا وغربًا، وحارب وانتصر، وعمره يوم واحد!
فعجب من ذلك وسأل عمدة البلدة فقال: «إننا معاشر أهل هذه البلدة لا نعد من الأيام إلا الأيام السعيدة التي فشا فيها السرور، ولم يحدث فيها غم»، فقال الرحالة للعمدة: «أرجو إذا مت في بلدكم أن تدفنني في مقبرة من مقابرها وأن تكتب على شاهدها: هنا يرقد فلان، وقد رحل وحج وألف ومات وهو في المهد … لأني لم أجد يومًا ما يسرني!».
أما أنا فلا أعد من الأيام، ما لم أخل فيه لنفسي.
وفي الخلوة أفكر فيما جرى … فأحيانًا أرى أنه يوم عادي لم يجرِ فيه إلا ما كان مألوفًا، وأحيانًا أرى ما يهز مشاعري ويقلق عواطفي، فأرى مثلًا من كنت أعده موطن وفاء ومركز صداقة عتيقة … قد باع صداقته بأرخص الأثمان، وصدر منه ما ليس له تفسير إلا الجحود والنكران، وتبين أنه كان صديقًا وفيًّا يوم كان يؤمل حاجة، أو يطمع في قضاء مصلحة، فلما زال كل ذلك تنمَّر وتنكَّر وقلب ظهر المجن، واتجه اتجاهًا جديدًا إلى من يقضي له حاجته ويؤدي له مصلحته.
•••
وخلوت يومًا إلى نفسي فسألتها: «هل تود أن تعود شابة كما كانت، وأن تستأنف الحياة التي قطعتها من جديد؟»، فأجابت: «إن كانت الحياة تعود والشباب يرجع مع التجارب القديمة، وبعقل جديد قد استفاد مما حصل له … فأهلًا وسهلًا، أما إن كان الشباب يعود بالعقل الماضي، ويرى من جديد التجارب التي حدثت ويسر ويألم ويضحك ويبكي، فلا … وخير ألا أجرب التجارب التي سبق أن جربتها ولا أحيا حياة ثانية كالتي حييتها!».
•••
وسألت نفسي في إحدى الخلوات: «ماذا كنت تستفيد من تجاربك لو حييت حياة ثانية وعدت إلى شبابك؟» فقلت: كنت لا أومن بالناس كما كنت أومن … فكل من رأيت إنما يطلب الخير لنفسه، وإنما يعرفك ويتملقك إذا أحس بالحاجة إليك، ويمقتك ويكرهك إذا أحس الحاجة عند غيرك، وقد استعقلت الشاعر الذي يقول:
واستعقلت المتنبي؛ إذ يقول:
ثم لو استقبلت من أمري ما استدبرته، لكرهت الإفراط في كل شيء حتى في الفضائل … فالإفراط في القراءة والكتابة كالإفراط في التدخين كلاهما ضار، والقانون الطبيعي قد يستغفل مرة أو مرتين، ولكنه لا يسمح أن يستغفل دائمًا … فهو يصبر ويصبر ولكنه إذا تنمر لم يفلت، وقسا بالمؤاخذة.
وهزأت بمن يتعب جدًّا في جمع المال، وقد علمتني الحوادث أن لا شيء من المال يساوي الصحة خصوصًا إذا جمع المال على نفقة الصحة، وإن أقرب أقاربي حتى الأولاد لا يستأهلون أن تضيع الصحة في سبيل إثرائهم.
وأحيانًا تلتفت النفس إلى شخصي، وأحيانًا إلى أسرتي إذا جد مشكل كبير احتاج إلى مجهود كبير في حله: من ضائقة مالية أو ضائقة خلقية أو ضائقة اجتماعية.
وأحيانًا يغلب عليَّ التفكير في الأمة عند فشو فساد فيها أو وضعها تحت سلطة حاكم مستبد، يكتم الحرية ويعيث في الأرض الفساد، أو وضعها تحت نظام حكم فاسد، يستغل الحكام الشعب لمصلحته.
وأحيانًا أفكر فيما هو أوسع من ذلك، كالذي حدث لي أيام هجوم الصهيونيين على الفلسطينيين؛ فقد تعب فكري من هذه الحوادث أيها خير للأمة، أتقبل الهدنة أم لا تقبلها؟ أتسالم أم تحارب؟ إلى غير ذلك … وكنت أقرن دائمًا بين ضياع الأندلس على يد الإسبانيين قديمًا، وضياع فلسطين على يد الصهيونيين حديثًا، واتفاق هؤلاء وهؤلاء على أن يقفوا في الحرب بأنفسهم من غير أن يساعدهم من بجوارهم.
بل أحيانًا أيضًا أفكر فيما هو أوسع من ذلك: في الإنسانية جمعاء … كيف يغيب عن زعماء العالم أن في الحرب ضرر الجميع، سواء منهم المنتصر أو المنهزم، وأن الغاية التي يسعى إليها الزعماء مهما كانت لا تساوي ما يهدر في الحروب من دماء وما يصرف عليها من أموال، وأن الجهود العلمية لو بذلت في خير الإنسانية لتقدمت البشرية ولكان الناس إخوانًا، ولم يكونوا ميادين حرب، ولا انقسموا إلى معسكرات، وأن العقل الضيق وحده هو الذي جعل فروقًا بين الشرق والغرب والمسلمين والمسيحيين والصهيونيين، وأن الناس لو عقلوا لرأوا أن الدين لله وحده … لا يصح بحال أن يفرق بين أتباعه.
وعلى كل حال فقد اختلف منزع التفكير باختلاف ما يعتريني من نزعة قوية؛ أحيانًا فردية، وأحيانًا عائلية، وأحيانًا فوضية، وأحيانًا إنسانية.
هذا من ناحية العواطف.
وأحيانًا تؤرقني المشاكل العلمية، عقب قراءة تثير مشكلة علمية أو محاولة بحث في عقدة علمية.
بل أراني مضطرًّا أحيانًا إلى أن أصحوَ منتصف الليل وأفكر في هذه المشكلة، وأضيء النور، وأذهب إلى المكتبة لعلي أعثر في المسألة على رأي جديد أو حل للإشكال، وأسوأ ما يكون ذلك إذا نمت بعد كتابتي في الموضوع؛ فإذ ذاك يظل الفكر يشتغل فيما كنت أكتب، وأحيانًا يوفق إلى حل، وأحيانًا لا يوفق، ولا أزال كذلك حتى أتنبه من نومي، ولذلك آليت ألا أجيز لنفسي القراءة قبل النوم ولا أجيز لها الكتابة.
وأحيانًا تثور عاطفتي الدينية إذا فكرت في المسلمين وضعفهم وانحلالهم، وقارنت بين جهلهم وعلم الأوربيين، وفقرهم وغنى الأوربيين، وتفرق كلمتهم واجتماع كلمة المستعمرين، وسوء حالتهم الاجتماعية … ثم فكرت طويلًا في الأسباب التي دعتهم إلى هذا التدهور: هل هو حكومتهم المستبدة الظالمة، أم هم رجال الدين الذين منوهم الآخرة بترك الدنيا، أو هو سوء عقيدتهم في القضاء والقدر، الذي حملهم على الكسل والإهمال والتواكل، أو هو جميع ذلك كله أو غير ذلك كله؟ وفكرت أيضًا هل هو مرض مزمن يبقى ما بقيت الحياة ويعيش على ممر القرون، أم هو عارض يزول متى زالت أسبابه، ومن أي نقطة يبدأ الإصلاح.
•••
تمر هذه الأحداث كلها على ذهني كأنه شاشة بيضاء تسجل عليها حوادث السينما، وأحيانًا يكون التفكير محزنًا يستعقب البكاء، وأحيانًا سارًّا يستوجب الابتسام … وكل ذلك نتيجة لحالة المزاج وموضوع التفكير، ولكن مهما كان المزاج ومهما كان موضوع التفكير سارًّا أو محزنًا، فالنفس ترتاح إلى هذه الخلوة وتلتذها لذة التاجر يقلب في دفتر حسابه.