الاجتهاد في نظر الإسلام
كنت أتجادل في الشهر الماضي مع معالي الأستاذ علي عبد الرازق باشا، وكنا نستعرض حال المسلمين وما وصلوا إليه من جمود، فقال: إن دواء ذلك أن نرجع إلى ما نشرتُهُ قديمًا من أن رسالة الإسلام روحانية فقط، ولنا الحق فيما عدا ذلك من مسائل ومشاكل، فقلت: إن رأيي أن رسالة الإسلام أوسع من ذلك وهي روحانية ومادية معًا، بدليل ما ورد في القرآن من نظام البيع والشراء والإجارة والمعاملات المالية، ومسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونحو ذلك.
والذي يحل مشاكلنا، هو فتح باب الاجتهاد بعد أن أغلقه العلماء، ولم يكن إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم، إنما كان مجرد حالة نفسية واجتماعية؛ ذلك أنهم رأوا غزو التتار لبغداد، وعسفهم بالمسلمين، فخافوا على الإسلام منهم، ورأوا أن أقصى ما يصبون إليه، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمة مما وضعوه واستنبطوه وأنهم لا يؤملون أكثر من ذلك؛ نظرًا لحالتهم النفسية المتدهورة، فسموا هذا إقفال باب الاجتهاد، ونحن نريد أن نفتحه.
ونظريتنا في الحقيقة تؤدي إلى نفس النتيجة التي يراها الأستاذ علي عبد الرازق باشا، فالاجتهاد الذي نريده، هو الاجتهاد المطلق لا الاجتهاد في المذهب، فهو يشمل كل شيء حتى في تقييد النص ووقف العمل به متى استوفى المجتهد شروط الاجتهاد المبنية في كتب أصول الفقه، من علم بالكتاب والسنة، وعلم باللغة العربية، وعلم بالعرف والتقاليد، وعلم بمقاصد الشريعة، وغير ذلك.
وإمامُنا في ذلك عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — فإنه مثلًا لم يرد أن يعطي المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ لأنه أدار الحكم على العلة وجودًا وعدمًا، فلما لم يكن الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب؛ لكثرة من دخل في الإسلام، وقف إعطاءهم الزكاة، ولما رأى الناس أكثروا من الحلف بالطلاق الثلاث بلفظ واحد أدَّبهم بإيقاعه ثلاثًا، مع أن القرآن الكريم يقول: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ والطلاق الثلاث هو مرة من المرتين، ولما حد المسلم حد الشرب ورآه بعد ذلك قد تنصر والتحق بالقسطنطينية، آلى على نفسه أن لا يحد مسلمًا بعد ذلك أيام الحرب، وسرق مسلم من مُزَينة في أيام المجاعة، فأمر بحده ثم أمر برده، وألزم قبيلته أن تدفع ثمن الفاقة، وقال: إنكم أجعتموهم فسرقوا. إلى كثير له من أمثال ذلك، فكان كما قلت، يدير الحكم على حسب العلة، فإذا لم تتحقق العلة لم يُحَقَّق المعلول.
ومجلس الشورى كان يفعل مثل ذلك في الأندلس؛ فقد واقع عبد الرحمن الناصر زوجته في رمضان، فأفتاه بعض العلماء بتحرير رقبة كما هو الترتيب في الكفارة، فأبى يحيى بن يحيى الليثي رئيس جماعة الشورى عليه ذلك؛ نظرًا لأنه أمير وغني ومن السهل عليه أن يحرر رقبة، فلا بد من عقوبة رادعة، وهي أن يصوم ستين يومًا بدل اليوم الذي أفطره؛ تحقيقًا لمقصد الشريعة، فالاجتهاد الذي نريده من هذا القبيل، فإذا جَد للمسلمين موقفٌ دُرِسَ موقفُهم بعينين:
والاجتهاد الذي نريده لا يصح أن يُعْطَى لكل شخص، وإلا كانت الفوضى والاضطراب، إنما نريده لأهل الحل والعقد الذين تتوافر فيهم شروطه كبعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ وبعض رجال العلم ونحو ذلك، والإسلام مَرِنٌ بطبعه يتحمل مثل ذلك؛ فقد جعل الاجتهاد مصدرًا من مصادر الشريعة، وأباح النبي ﷺ لمعاذ بن جَبَل أن يجتهد برأيه، وأباح للصحابة أن يجتهدوا بآرائهم مع رأيه في شئون الدنيا؛ فقد أمرهم مرة ألا يؤَبِّروا النخل، فلما فعلوا ذلك لم يُثمر، فقال ﷺ: أنتم أعلم بأمور دنياكم. وقد فعل ﷺ أشياء كثيرة لا تتصل بالدين، وإنما فعلها لمزاجه كحبه للدُّبَّاء، أو نزولًا على عادة قومه كطريقة لبسه ونوعه والالتحاء وصبغ اللحية ونحو ذلك، فهذه كلها أمور ليست من الشريعة في شيء، ولكل زمن عُرْفُه وتقاليده، ولكل شخص مزاجه، فخلطُ هذه الأمور بعضها ببعض خلط غير صحيح، وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه امتنع عن أكل البطيخ؛ لأنه لم يعلم الموضع الذي قطعه منه النبي ﷺ وهذه مسألة عاطفية لا صلة لها بالدين، ولكن حبه للنبي ﷺ وحبه للاقتداء به في كل شيء، سواء أكان من العبادات أم من غيرها دعاه إلى فعل ذلك، فهو أمر دعاه إليه الحب لا الدين.
ونحن في زمن تتوالى فيه المخترعات والصناعات، وتغمرنا فيه المدنية الحديثة بألوان كثيرة من المسائل، وكلها تحتاج إلى اجتهاد، فإذا ظهر الراديو مثلًا تساءلنا: هل يصح أن نسمع منه القرآن أو لا يصح؟ والعالم نفسه يواجه هذه المشاكل، فلما اخترعت الطائرات احتاج السياسيون أن يضعوا موادَّ خاصة في القانون الدولي لمرور الطائرات في جو الممالك الأخرى، وكذلك شأنهم في النظم البريدية الحديثة والسفن والقطارات وغير ذلك، فإذا نحن جمدنا لعدم وجود النص، ولم نقابل هذه الأمور وأمثالها بالاجتهاد، وتخلف المسلمون، كانوا أمام أحد أمرين: إما اتباعهم للمبادئ الأوروبية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة كما فعل مصطفى كمال في تركيا، وإما الوقوف من غير إعطاء حكم، وفي كليهما ضرر بليغ.
إن كل نظام تشريعي يلزم لبقائه شيئان: قواعد ثابتة؛ كقول الشريعة: «لا ضَرَر ولا ضِرَار» تركِّزُه وتثبته، وقواعد متموجة مرنة، يستطيع بها أن يواجه الأحداث الجديدة، وفي الإسلام هذان النوعان، ففيه القواعد الثابتة التي نسميها مقاصد الشريعة؛ كحفظ النوع والجنس والمال، وفيه القواعد المرنة؛ كرعاية المصالح المرسلة عن طريق النظر والاجتهاد، وبدونهما أو أحدهما لا تستطيع شريعة أن تبقى.
وقد قرأنا أن أبا حنيفة — رحمه الله — كان يقول: إذا غصب رجل ثوبًا وصبغه بالسواد فقد أدخل نَقْصًا على قيمة المغصوب، فلما جاء تلميذه أبو يوسف، وكانت الحالة قد تغيرت واتخذ العباسيون السواد شعارًا رسميًّا، أفتى بأن الصبغ بالسواد يزيد قيمة المغصوب؛ وليس الأمر تغير الحكم ولكن الأمر تغير الظروف، وكان الفقهاء الأقدمون يفتون بأن من رأَى حجرة في بيت دون سائر حجراته سقط عنه خيار الرؤية؛ لأن الحجرات في البيوت كانت تبنى بشكل واحد، فلما جاءت المدنية الحديثة واختلفت هندسة الحجَر كان من مقتضى ذلك أن من رأى حجرة في بيت لا يسقط عنه خيار الرؤية وهكذا.
وبالأمس كنت أقرأ في كتاب الهوامل والشوامل، فرأيت فيه أن أبا حيان التوحيدي سأل مسكويه عن السبب في أَن المسألة الواحدة يفتي فيها مُفْتٍ بتحليلها، وآخر بتحريمها، فأجاب مسكويه: بأن العبرة باختلاف الزمان أَو المكان، وأَن الاجتهاد يواجه ذلك، قال: على أَن الاجتهاد في نفسه تمرين للعقل بدليل أن ملكًا من الملوك لو أراد أن يلعب بالكرة والصولجان ما أهمنا نجح في اللعب أو لم ينجح ما دام قد مرَّن أعضاءه، والحكيم إذا خبأ الشيء وطلب من الناس أن يبحثوا عنه، فسواء وجدوه أو لم يجدوه فقد حقق الغرض، والمشتغلون بالنظريات الهندسية والرياضية يكفيهم ما بذلوا من جهد في حلها سواء أصابوا أم أخطأوا.
وعلى الجملة لا ينقذ المسلمين إلا فتح باب الاجتهاد الذي أغلقوه، فضيقوا على أنفسهم واسعًا.