التسامح الديني في الإسلام
نَعني بالتسامح الديني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقًّا وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة أمام قوانين الدولة سواء، ولننظر إلى الإسلام في ضوء هذا التعريف نَرَ أنه من حيث مبادئه وتعاليمه الأصلية هو أرقى الأديان في تحقيق هذه المبادئ، والباحث في التسامح الديني في الإسلام مضطر أن ينظر إليه من ناحيتين: ناحية المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه، وناحية نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى.
فأما الناحية الأولى فالمسلمون في عهد نزول القرآن أي عهد النبي ﷺ لم يكونوا إلا مذهبًا واحدًا، ولذلك لا نتوقع أن يكون في القرآن نفسه نص على التعامل بين المذاهب الإسلامية المختلفة، قد يكون هناك بينهم اختلاف في الاجتهاد أو اختلاف في تطبيق المبادئ الإسلامية ولكن لم يتعدَّ هذا أن يكون في مسائلَ جزئيةٍ لا ينطبق عليها كلمة مذهب، وهناك أقوال مأثورة تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين «اختلاف أمتي رحمة» وكان هذا سببًا في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وشافعي ومالكي إلخ … ومثل ما روي عن الشافعي من قوله: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب»، وهو قول لطيف يدل أيضًا على قدر كبير من التسامح، ومن هذا القبيل أيضًا ما شاع بين المسلمين من قولهم: «لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب غيْر مُسْتَحِلٍّ» أي أنه لا يكفر مسلم بارتكابه ذنبًا ما دام غير مستحل له، وأولى من ذلك أنه مهما اختلف المسلمون في المذاهب والآراء والأقوال فيما هو محل للاجتهاد والنظر، فلا يصح أن يكفَّر أحد منهم.
أما نظر الإسلام إلى الأديان الأخرى فهو نظر سمح؛ فقد سمى اليهود والنصارى أهل كتاب، وسمّاهم أهل الذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف، والآيات التي وردت في القرآن في أهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح خصوصًا في العهد المكي، فيظهر أن اليهود والنصارى قابلوا الإسلام في العهد المكي بشيء من حسن الاستقبال، فكان القرآن في ذلك العهد سمحًا كريمًا، وقد بنى في أساسه على أن القرآن يؤيد الكتب السماوية الأخرى ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها ومكملة لتعاليمها وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ، وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، والإسلام يعترف بنبوة الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ويقرر أن أساس تعاليمهم واحدة وكلها من عند الله، فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحًا مسالمًا حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين، جادلوهم بالحسنى وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، بل نرى في العهد المدني، في أول الأمر مثل قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، وقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني، بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية يهاجمونها ويضعون الخطط لخنقها ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها والنيل منها فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد بالكيد، فَعَلَتْ نغمةُ القرآن في التنديد بأهل الكتاب ووصف أساليبهم القديمة وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم … فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم، ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بألا يكره يهوديًّا على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم وأن يتبعوا دينهم وأن تحفظ لهم كنائسهم وألا يُتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أَهل الكتاب، وأَن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أَتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الإسلام بعض الشيء على الوثنيين دون أهل الكتاب، فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها وعلى هذا سار المسلمون في أكثر تاريخهم على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بِيَعِهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئًا من المال لحمايتهم، ولو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم، لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين، وفقدانه عند النصارى، حتى ليصح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الأولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف العصور.
•••
نعم حدث في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى، من أهم هذه الأسباب: السياسية، فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الأموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبدًا حبشيًّا، ولا يعترفون ببيت أموي ولا ببيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها، وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
وانظر إلى النزاع الحاد، والدماء المسفوكة بين السنية والشيعة طول العهد الأموي والعباسي، وبعد ذلك، وما جرى بسببه من دماء تجري أنهارًا، تجد سببه أن أهل السنة من أمويين وعباسيين وغيرهم يرون الحق في خلافتهم، ويرى الشيعة أن لا حق لهؤلاء في الخلافة، وإنما الحق لأهل البيت، وكلٌّ يعمل على أن يصل إلى حقه بقوة السلاح، فالنزاع إذن نزاع على من يتولى الحكم، وهذه سياسة لا دين.
وأحيانًا يقوم بالدعوة الدينية رجال يدعون إلى مذاهب هدَّامة، ويتسترون باسم الدين، وتخشى الحكومة إن سادت تعاليمهم أن تنهار قوّتها، فتضطر إلى محاربتهم، وشكل الحرب شكل ديني، وحقيقته حقيقة سياسية، وكثير ممن خرجوا على الدولة العباسية كانت حقيقة أمرهم الرغبة في إعادة الحكم للفرس ككثير ممن قتلوا تحت ستار الزندقة في عهد المهدي العباسي، وبتهمة المانوية، وقد يستثنى من ذلك الاضطهاد الذي حدث من المأمون والواثق لمن لم يقولوا بخلق القرآن؛ فقد كانت هذه نظرة دينية خاطئة من المأمون؛ إذ ظن أن من لم يقل بالاعتزال وبخلق القرآن فقد أفسد دينه، فهو يريد إصلاح العقيدة قسرًا وقهرًا كما فعل المسلمون الأولون إزاء الوثنيين، وهذا خطأ في التفكير نتج عنه أضرار جسيمة للمسلمين.
ومن العداء السياسي ما كان بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية، فالعداء بينهما عداء سياسي اتخذ شكلًا دينيًّا، يريد العثمانيون الأولون أن يمدوا سلطانهم على الفرس، ويأبى الفرس إلا أن يحتفظوا باستقلالهم، فيؤول ذلك إلى البغض الذي بلغ مداه في عهد السلطان سليم الأول حتى كان من اضطهاده للشيعة في مملكته أن قتل وسجن ما يقرب من أربعين ألفًا، ولكن من الخطأ تحميل الدين جرائر السياسة بدليل أن كثيرًا من هذه الخصومات السياسية حدثت بين أمم إسلامية مختلفة تعتنق عقيدة واحدة سنية أو شيعية، وإنما كان الخلاف بينها على السلطان وسعة الحكم ونحو ذلك.
ولسنا ننكر أن كثيرًا مما حدث في التاريخ من اضطهاد المسلمين للنصارى واليهود، كان ناشئًا عن كراهية دينية وغيرة إسلامية، ولكنها كانت غيرة عمياء من بعض من أصيبوا بضيق النظر، وفهم الدين فهمًا خاطئًا أو كان ردًّا لما يبلغهم عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين، فيضطرون أن يعاملوهم معاملة المثل جزاءً وفاقًا، ولكن من الظلم أن نحمِّلَ الدين الإسلامي هذه الأخطاء أيضًا.
وأحيانًا يكون السبب في اضطهاد المسلمين لليهود والنصارى سببًا اقتصاديًّا، فكثيرًا ما كان يحدث أن تولي الحكومات الإسلامية بعض اليهود والنصارى زمام الأمور المالية في الدولة فيسرفون في تعيين أقاربهم وأصهارهم في الوظائف المالية كما يسرفون في بذل المال لهم، وبعد قليل ينظر المسلمون فيرون أن الغنى والترف، وحياة الفخفخة، والأبهة والعظمة، في جانب اليهود والنصارى، وحياة البؤس والفقر في جانب المسلمين، فيثور ثائرهم، ويحطمون هذا الوضع الاقتصادي الظالم، كما حدث ذلك في العهد الفاطمي، وقد كانت الدولة العثمانية في أول أمرها من أكثر الدول تسامحًا لرعاياها من اليهود والنصارى، ومنحتهم من الامتيازات، ما لم يعهد له نظير في الدول الأخرى، ولكن انقلبت هذه الامتيازات، معاولَ لهدم الدولة العثمانية، واتخذت الدول الأجنبية من روسيا وإنجلترا وفرنسا وغيرها، هذه الامتيازات التي لرعاياها وسيلة لنشر الدسائس وتدبير المؤامرات، وخلق الفتن، فاضطرت الدولة بعدُ إلى استعمال كثير من العنف؛ دفاعًا عن كيانها، ومواجهة لنقض الدسائس التي تحاك حولها؛ وكل هذا سياسة لا دين.
وأحيانًا يكون سبب القتال والخصام، تجارة رؤساء الدين، فيرون أن قوة مركزهم، وبسطة نفوذهم، متوقفة على تعصب عوامهم، فهم يستغلون ضيق نظر أتباعهم، ويبثون فيهم روح التعصب؛ حفظًا لمركزهم، ونفوذهم وسيطرتهم، علمًا منهم بأنه إذا ساد التسامح، وكان الناس إخوانًا، فقدوا عزتهم الوهمية، ومكاسبهم الفانية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
•••
وبعدُ فإن أوروبا مع تقدمها في فهم الحرية، وجدها المتواصل في بناء حياتها على العلم لا على العواطف، ما زالت بعيدة عن تحقيق التسامح الديني بالمعنى الذي شرحناه في صدر المقال؛ فبالأمس قرأنا كيف هتلر بيهود ألمانيا وقرأنا كيف اضطهد الشيوعيون الدين وحاربوا شعائره، ونقرأ في الصفحات الأخيرة كيف حاربت أوربا المسلمين العرب في فلسطين، ونصرت اليهود عليهم، وعرفنا كيف تخلط أوربا المنفعة السياسية بالعواطف الدينية في معاملتها للمسلمين.
وأخيرًا فهل للمسلمين أن يشتد وعيهم القوي، ويفهموا بعد طول هذه التجارب التي ذكرنا بعضها أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي وغير ذلك من المذاهب؛ لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلًّا ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الأمم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لم شعثها وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تُهاجَم من كل جانب، وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم، فأولى أن يتحد أصحاب الحق على حقهم.