أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين في القرون الوسطى
يرجع انحطاط المسلمين في القرون الوسطى إلى عدة أسباب:
السبب الأول انهيار المعتزلة، وغلبة المحدثين عليهم؛ فقد كان المعتزلة يحملون راية العقل، فهم يفسرون آيات القرآن بما يتفق والعقل، بل يفسرون آية وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا بأن معنى الرسول هو العقل، ولا يقبلون من الحديث إلا ما اتفق والعقل، فليس يكفي في صحة الحديث صدق الرواة، بل يجب أن نتحقق من أن المتن أيضًا مقبول عند العقل، فإذا سمعوا حديث البخاري «من أكل سبع بلحات عجوة، لم يمسسه سم»، ورأوا أن من أكل سبعين بلحة لا يصيبه السم، استنتجوا من ذلك أن الحديث كاذب؛ لأنه ضد العقل، وضد الواقع، وإذا سمعوا حديثًا يقول: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» عرضوه على الواقع، فإذا رأوا أن حكم فكتوريا في إنجلترا هو العهد الذهبي لها، لم يقبلوا هذا الحديث؛ لأنه يخالف الواقع، ولكنهم مع الأسف مزجوا العلم بالسياسة، وأدخلوا المذهب في الدولة، وأسرفوا في حمل الخلفاء على معاقبة مخالفيهم، فكرههم الرأي العام وأسقطهم، فلما رأى المعتصم ذلك تقرب إلى الرأي العام بطردهم وتقريب المحدثين، فكان هذا نقمة على الثقافة الإسلامية؛ لأن منهج المحدثين تحكيم الرواية والاعتماد عليها لا تحكيم العقل.
وطبيعة منهج المحدثين تنافي الابتكار، وأحسن الناس في نظرهم أكثرهم رواية، وأكثرهم تحريًا للسند، لا أكثرهم استقلالًا، لذلك نرى من ينيغ بعد ذلك هم الذين ينتسبون إلى المعتزلة أيضًا، كالزمخشري، وابن جني، وأبي علي الفارسي، وقليل من غيرهم كابن خلدون.
ومن أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين أيضًا: سقوط بغداد عند غزو التتار لها، فكانت هذه حادثة روعت المسلمين، وأفزعتهم، وخلعت قلوبهم؛ لكثرة ما سفك من دماء، وكذلك أثرت على ثقافتهم لقتلهم كثيرًا من العلماء، وإتلافهم كثيرًا من الكتب القيمة، يضاف إلى ذلك أنه ترتب عليها إقفال باب الاجتهاد في الفقه وغيره، ذلك أن العلماء لما رأوا انحطاط العلم يئسوا من أنهم يبتكرون مثل ما ابتكر من قبلهم من الفقهاء، وتمنوا أن يصلوا فقط إلى درجتهم من الاجتهاد المقيد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وقصروا كل جهدهم على التقليد، فإن توسعوا قليلًا، فالاجتهاد اجتهاد مذهب، لا اجتهاد مطلق، وهكذا كان الشأن في اللغة والتاريخ وغيرهما من العلوم.
فلما تجمعت هذه الأسباب وغيرها، وكان للمسلمين بحكم الطبيعة نشاط عقلي، لا بد أن يتجهَ اتجاهًا ما، لم يتجهوا إلى الابتكار، ولكن اتجهوا إلى تأليف الموسوعات، كصبح الأعشى، ونهاية الأرب، والمسالك والممالك، لا تكاد تجد فيها جديدًا، ولكنها جمع لما تفرق في الكتب في الموضوع الواحد، وهو على كل حال نشاط، ولكنه ليس من الصنف الأول.
فإن نحن تساءلنا: كيف ننهض بعد هذا الخمول؟ قلنا: إننا إذا عرفنا الداء، سهلت معرفة الدواء، بإزالة الداء، فلا بد من غلبة طائفة من المسلمين يقولون بسلطان العقل كما يقول المعتزلة، وتكون لهم الكلمة العليا والسيطرة، وتكون بجانبهم طائفة مجتهدة اجتهادًا مطلقًا يقدرون على أن ينظروا في حال المسلمين اليوم، ويعرفوا ما يناسبهم وما لا يناسبهم، لقد وُجِدَ مجتهدون فعلًا بين المسلمين، ولكن مع الأسف، بدل أن يقلدوا أسلافهم قلدوا الغربيين، ووضعوا في نفوسهم سؤالًا دائم التردد على أفكارهم، وهو: ماذا فعل الغربيون في هذه المسألة؟ وللاجتهاد الحكيم أن يتساءل: ماذا يجب أن يحكم به العقل ويشرع في هذه المسألة؟ إن لكل زمن رجالًا، لهم علم واسع، بالشرق والغرب، وما يناسب الشرقيين وما لا يناسبهم، فيستطيعون أن يحكموا: أين الصالح العام للمسلمين وللأمة التي يتبعونها، وإلا كانوا كالغراب الذي نسي مشيته وقلد مشية غيره، فلا هو أحسن هذا، ولا هو أحسن ذاك.