خواطر في الانقلاب الحديث
عشنا بين العهدين … وكان أهم فارق نشعر به، إحساسنا بالعبودية أولًا، وبالحرية ثانيًا، قد كانت تكفي إشارة من البلاط لتنفيذ ما أراد مهما خالف القوانين ومهما استغرق من المال.
الفساد في الجامعة
ومرت عليَّ حوادث كثيرة شعرت فيها بهذا المعنى وأنا في الجامعة، فمثلًا أوحي إلينا في مجلس الجامعة أن نمنح بعض الأجانب دكتوراهات فخرية، وفتشنا في هؤلاء الأجانب، أي خدمة خدموا بها مصر، أو أي نبوغ نبغوه في علومهم، فلم نجد، ومع ذلك انطلقت الأفواه البليغة في الإتيان بالحجج والبراهين، على استحقاقهم هذا الفخر، واعترضت قلة قليلة في المجلس، وتأجلت المسألة من جلسة لأخرى، ثم أخذت الأصوات، فكانت الأغلبية العظمى في جانب منحهم الدكتوراه، والأقلية الضئيلة بجانب عدم منحهم، وكانوا يقولون: إنه إذا كان ولا بد، فلتمنح الدرجة لبعض نوابغ المصريين الذين خدموا مصر خدمة حقيقية، فنزل الوحي أيضًا بتشريد هؤلاء الذين يعارضون وعدم إبقائهم في الجامعة، وكان من ذلك ما كان.
وكانت إدارة الجامعة تطلب بعض الإصلاحات في الأبنية أو الطرقات، فلا يُسمع لها كلام، وتكرر الطلب حتى بُحَّ صوتها، ولا فائدة، ثم تأتي إشارة بأن الملك يريد أن يزور الجامعة، فإذا كل الإصلاحات المطلوبة وأكثر منها تعمل في سرعة البرق.
وهكذا وهكذا من مئات المسائل التي تدل على أن أمور الناس حتى في الجامعات والبرلمانات لم تكن في يدهم، وإنما هي في يد غيرهم.
العدالة الاجتماعية
كان نظام الطبقات في مصر بالغًا حده، فمترف غاية الترف، يأكل أنعم الأصناف، ويلبس أفخر اللباس، وإن شاء أن يشعل لفافته بورقة مالية من ذوات المائة جنيه فعل، وتتدفق الأموال الهائلة على الخمور والكباريهات وسائر الشهوات تدفقًا فظيعًا، ثم إلى ذلك رجل يجلس بجانب صندوق القمامة، ينقي قشر البطيخ ليسد به جوعه، ويلبس ثيابًا مهلهلة لا تكاد تستر جسمه، فأعلن الانقلاب تحديد الثروة الزراعية، والأخذ بيد الفقير، والتشريع له، حتى تتحسن حالته، وإلى جانب ذلك أعلن أن الناس كلهم غنيهم وفقيرهم أمام القانون سواء.
ومن التقريب الذي أحدثه الانقلاب بين الطبقات، إلغاء الرتب، وتساوى الناس في الألقاب، فإن لخصت كل ذلك في كلمة، قلت: إن الغاية من الانقلاب هي تحقيق العدالة الاجتماعية.
أعدل النظم
انتقلت القيادة من يد البلاط والبرلمان إلى يد الضباط، وهذا شيء دعت إليه الضرورة، ولكن أملنا كبير في أن الحالة تعود إلى مجراها الطبيعي، وهو: أن تحكم مصر بدستور عادل وبرلمان حر نزيه، فهذا هو الوضع الطبيعي للأشياء، فإن أمام مصر أهدافًا داخلية، وأهدافًا خارجية، على جانب عظيم من الأهمية، ومما لا شك فيه أيضًا أن وضع الأمور في يد السياسيين المختصين والبرلمان الذي انتخب أعضاؤه انتخابًا حرًّا نزيهًا هو أعدل النظم لحكم البلاد.
الشعور بالقدرة
كان من نتائج الانقلاب شعور البلاد بقدرتها؛ فقد كانت حركتها رائعة حقًّا، أحدثت الانقلاب على أكبر قوة في هدوء ونظام من غير إراقة دماء، وقد كان الظن أن القوة المالكة الهائلة كانت قد تحصنت تحصنًا كبيرًا، واتخذت العدد العديدة لكل الاحتمالات، فلما هزمت بلباقة، أحس المصريون بقوتهم، والنجاح يدعو إلى النجاح، فلما نجحت الثورة، فتح ذلك نفوس الثائرين إلى أَن يوالوا الحملات، فحملة على الأغنياء، وحملة على المرتشين، وحملة لتعميم زراعة الأشجار، وإصلاح الأراضي الزراعية، وحملة لزيادة الإنتاج، وحملة لتنظيم التعليم، والصحة وغير ذلك، وكل هذا حسن وجميل، وقد بدأ وأخذ سيره الطبيعي في زمن قصير.
إصلاح النفوس
ما أسهل تغيير الظواهر، وما أصعب تغيير النفوس! لقد ثرنا وغيرنا كثيرًا من القوانين، ولكنا لا نزال في حاجة شديدة إلى إصلاح النفوس، لقد مضى زمن طويل ونحن نقدس الحاكم، وننظر إليه كما عبر المرحوم سعد باشا نظرةَ الطير للصائد، فما أَحوجنا إلى أن ننظر إليه نظرة الأخ الكبير الذي يرعى أخاه الصغير ويأخذ بيده، حتى يقف على قدميه.
ومع كل ما عمل من إصلاحات، فأكثرها مع الأسف لم تتشربه أرواحنا، ألغينا الألقاب، ولا تزال على ألسنتنا الألقاب، واختفت الألقاب في المجلات والجرائد والمكاتبات الرسمية، وظلت في الأحاديث الخصوصية، ودعونا إلى غرس الأشجار، وتربية الدواجن تربية على أحدث طراز وغير ذلك من أنواع الإصلاح، ولكني أخشى أن يكون ذلك كله أمرًا شكليًّا، وهندمنا الأرستقراطية وأحيينا الديموقراطية، ولكن، لا يزال في باطن الناس اعتبار أرستقراطية الغنى والمنصب والجاه، ولا زلنا في حاجة شديدة إلى أن نفهم معنى الديموقراطية الصحيح، وهذا طبيعي؛ لأن تغيير النفوس بين يوم وليلة محال، فلا بد أن يمضي زمن حتى تكره القديم وتألف الجديد، وأخشى ما أخشاه أن يتدرجوا إلى القديم شيئًا فشيئًا، بدل أن يتخلوا عنه شيئًا فشيئًا.
دق الطبول
لقد لاحظت آسفًا أن دق الطبول كثير، وصوت المعارضة ضعيف، وهذا مما يؤيد قولي السابق: إن النفوس لم تتغير تغير الظواهر. وكان الظن أن كابوس الاستبداد قد زال بتحرير الأفكار، وإطلاق الألسنة المؤدبة بالنقد، ولكن حدث أن رجعنا إلى القديم، وأصبحنا كلنا طبالين زمارين، وهو شيء كما قلنا يؤسف له؛ لأن الحياة الصحيحة تبنى على أساسين متعارضين، لا على أساس واحد، وهما التأييد والمعارضة، وسير الأمة سيرًا صحيحًا من بينهما، وقد تعلمنا من تركيا درسًا قاسيًا وهو أنه قد أخفت صوت المعارضين، ولم يبح القول إلا للمؤيدين، ففشا الفساد واضطربت الأمور، وأدرك العقلاء خطأهم بعد حين، فهل يمكننا أن نتعلم من هذا الدرس؟
نعم: إن هناك عذرًا للقائمين بالأمر، وهو أن الثورة والانقلاب عادة يضران بأناس كثيرين، أغنياء ضعف غناهم، وذوو سلطات غير مشروعة قَلَّتْ سلطاتهم، ووجهاء فقدموا جاههم، وأصحاب مناصب كبيرة فقدوا مناصبهم … كل هؤلاء وأمثالهم قد ينقمون على الانقلاب الذي حرمهم من امتيازاتهم، ويتمنون الفرصة التي تسنح لإعادة حالتهم إلى ما كانت عليه، بل قد يتعدون انتهاز الفرص، إلى الاشتراك في العمل المضاد، فمثل هؤلاء إذا أرخي الحبل لهم، عاثوا في الأرض فسادًا حتى يعيدوا الأمور سيرتها الأولى، وإذا بنا في وضع سيئ كالذي كان.
إزاء ذلك لا بد من أن نقول كما يقول الفقهاء الأقدمون: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وهذا قول صحيح، ولكن نقول مخلصين، كما قال الفقهاء أيضًا: «إن الضرورات تُقَدَّرُ بقدرها» ليحسب حساب الخطر بقدره فقط، ويحسب حساب زمنه فقط، حتى لا تزيد معالجته ولا تنقص، وهذا مطلب عسير.