الابتكار
الابتكار مصدر ابتكر الشيء، إذا اختراعه بعد أن لم يكن، وهو في الماديات كثير، كاختراع الراديو، واختراع التليفون، و«الثلاجة الكهربائية» ونحو ذلك.
وهو يكون أيضًا في العلوم، فعلم الطبيعة والكيمياء والرياضيات اليوم غيره بالأمس، وهو غدًا غيره اليوم، ويكون أيضًا في المعاني، فالشاعر الجيد مَن ابتكر بخياله معاني جيدة لم يسبق إليها، وقد يوفق في ذلك إلى عدد محدود، وقد قالوا: إن أبا تمام ابتكر نحو عشرين معنًى جديدًا، وهو بهذا مكثر، فإن أبا الطيب المتنبي ابتكر نحو خمسة معان، وهكذا وهكذا.
ومما يعاب على الشرقيين أنهم أقل ابتكارًا من الغربيين، وأنهم أكثر تقليدًا منهم، وذلك في أكثر فروع العلم والفن، ففي الأدب مثلًا لا تزال موضوعاتهم هي المديح ونحوه من موضوعات الأدب الجاهلي، والأوزان لا تزال هي الأوزان التي جمعها الخليل بن أحمد، وحصرها في ستة عشر وزنًا، والفقه قد أقفل أصحابه باب الاجتهاد، والفلسفة هي فلسفة اليونان تقريبًا، والآلات والأدوات التي نستعملها في بيوتنا هي المخترعات الأوربية، وقل أن نجد مخترعًا جديدًا.
والمصلحون إذا أتوا بجديد نكل بهم أشد تنكيل، وعذبوا أشد عذاب، وملئت بهم وبأتباعهم السجون، كما فعل بمدحت باشا، والسيد جمال الدين، وخير الدين التونسي، وغيرهم، فما السر في ذلك؟
يظهر أن السر في ذلك يرجع إلى أمور كثيرة؛ منها: أن الجو الحار الذي يعيشون فيه يبعث على الخمود، والخمود يبعث على الكسل، والكسل عدو الابتكار؛ ولذلك لما تغيرت البيئة على المهاجرين إلى أمريكا جددوا في الأدب مثلًا بعض الشيء، كما فعل جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وأمثالهما، واعترضوا على هذا بأن الأندلسيين حكموا قرونًا وكانت بيئتهم أبرد غالبًا، ومع ذلك كانوا عالة على الشرق يقلدونهم ويحتذون حذوهم، فوجب أن يكون هناك سبب غير هذا، وقد يكون السبب أنه غلب على المسلمين منهج المحدِّثين من عهد المتوكل على الله إلى اليوم، ومنهج المحدثين منهج اعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على العقل، فخيَّم هذا المنهج على عقول المسلمين في كل فرع من فروع العلم، حتى كانت حجتهم في صحة نظرية أنها وردت في بعض الكتب، ومنها أنه لم يرزق المسلمون بشخصيات جبارة تحتذى، كما رزق الغرب، أمثال ڤولتير ولوثر، ولو رزقوا مثل هؤلاء لقُلِّدوا، ولكننا نتساءل أيضًا: لماذا لم يرزقوا بأمثال هؤلاء الجبابرة؟
والجواب: أنه قد يكون هذا محض مصادفة، وكان في الإمكان أن لا يكون لوثر ولا يكون ڤولتير، وأيضًا قد يصح أن يكون قد وُجد في تاريخ المسلمين أمثال ڤولتير ولوثر، ولكن خنقتهم بيئتهم وخنقهم الأمراء المستبدون، فلم يتسع لهم المجال، ولو كانوا لتغير وجه التاريخ، خصوصًا وأن العادة جرت في الشرق ألا يشجع المبتكر ولكن يخذَّل ويسخر منه، كما فعل بالأنبياء من قبل، «فريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون»، ونحن نرى أن الشيء إذا أتى به غربي شجِّع وقلِّد وهلِّل له، وإذا أتى به شرقي خذل واستهزئ به ورُفض! فهل آن الأوان للقيام من هذه الكبوة والنهضة بعد العثرة؟ إن كل الدلائل تدل على ذلك.
فالعصبية القومية قد تجعل الشرقيين يتعصبون لشرقيتهم فيشجعون من نبغ منهم، والوعي القومي وقد تنبه يجعلهم أحسن تقديرًا، وأكثر اعتدالًا، وأقل جمودًا، وأكثر تقويمًا للحقائق، ووزنًا لها بالميزان الصحيح، ومتى سلكوا هذه السبيل ولو قليلًا اندفعوا فيها، وبنى الخَلَف على أعمال السلف، فكان لنا من ذلك أدب جديد، وفقه جديد، وعلم جديد؛ يناسب بيئتنا وعقليتنا.
كم كنت حزينًا يوم قابلني رجلان ألمانيان مستشرقان، فسألني أحدهما: من هو الصوفي المصري الذي يمكنني أن ألقاه وأفهم منه تصوفه؟ وسألني الآخر: من هو الفيلسوف المصري الذي ألقاه وأفهم منه فلسفته؟ فكان الجواب مع الأسف بالنفي، فهل أعيش ليمكنني أن أجيب على هذين السؤالين بالإيجاب؟
إننا قد بلغنا في التقليد حدًّا معيبًا، فمن أتى برأي قيل له: من أين أتيت به، والعلماء المصريون والأدباء الشرقيون، منهم من يقلد قدماء الشرق حَذْوَ القشرة بالقشرة، ومنهم من يقلد الغرب كل التقليد، حتى إن كل واحد منهم قبل أن يَسنَّ قانونًا أو قبل أن ينظم قصيدة أو قبل أن ينحت نحتًا، يحوك في نفسه السؤال الآتي: «ماذا فعل مَن قبلي في هذا الموضوع، وماذا قال، وأي جهة اتجه؟» كأن الله لم يخلق له عقلًا …
إن الشرقيين في الحقيقة لا يقلون ذكاءً ولا خبرة ولا دينًا عن الغربيين، فما الذي أصابهم؟ وكان مقتضى الذكاء أن يكون بجانبه الابتكار، ولكن لعل ضغط الكنيسة على الغربيين جعلهم ينفرون فيبتكرون، وتسامح الإسلام مع المسلمين جعلهم ينامون، وكثيرًا ما قالوا: إن الضغط يولد الانفجار، والكرة من المطاط، إذا ضربتها فضغطتها ارتفعت بمقدار انضغاطها.
والله على كل شيء قدير.