أمي!
كانت أمي منوفية، وامتاز المنوفيات ببدانة الجسم وقوته وفراعته، وكذلك كانت، ولم يكن بها من عيب إلا قصر نظرها، وهو ما ورثته منها، وكانت أمية، ولم تكن القراءة قد فشت في البنات؛ لأن الناس كانوا يسيئون الظن بهن، ويعتقدون أنهن إذا عُلِّمْنَ كاتبن عشاقهن برسالات الغرام، فبقاؤهن على الأمية أحصن لهن، ومن قديم ينصحون لهن أن يلزمن بيوتهن، وإذا تعلمن فإنما يتعلمن الطبخ والنسج، ومن تشجع من الناس علمهن القراءة ليعرفن قراءة القرآن ويروين الحديث، وهكذا نصح أَبو العلاء المعري النساء فقال:
ونصح القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» بعدم تعليم المرأة، فكم من الفرق بين زمان أمي وزماننا اليوم، فإذا رأت أمي المرأة اليوم تخرج من غير حجاب إلى الجامعة، وترطن بالإنجليزية والفرنسية، وحتى باللاتينية، وتزاحم الأبناء في الهندسة والطب والحقوق والآداب لعجبت كلَّ العجب.
ولذلك كانت حارتنا على كثرة ما فيها من بيوت، ومن طبقات مختلفة، غنية وفقيرة ومتوسطة، ليس بها امرأة تقرأ أو تكتب، وهن إذا اختلفن، فإنما يختلفن بالعقل الفطري والخلق الفطري، فإذا جاء خطاب من أحد أقاربها، استدعت من يقرؤه لها، وإذا احتاجت إلى قراءة كتاب للتسلية أو نحو ذلك، انتظرت أخي حتى يحضر من الأزهر، وينتهي من صلاة العشاء … فتتحلق هي وأقاربها ممن في البيت ليقرأ لهن ألف ليلة وليلة.
•••
وكانت أول بنت في الحارة تعلمت القراءة والكتابة هي أختي؛ فقد كان مذهب أبي أن يعلم أبناءه وبناته وأقاربه ذكورًا وإناثًا القراءة، ثم يحفظهم جميعًا القرآن، ولذلك بعد أن علمها بنفسه أرسلها إلى أول مدرسة للبنات بالسيوفية، أما سائر بنات الحارة، فبنات الفقراء منهن لا يتعلمن مطلقًا، وبنات الأغنياء والمتوسطين كن يرسلن إلى «المعلمة»، والمعلمة هذه امرأة تجيد الخياطة وتستأجر بيتًا وسطًا تخصص صالته لبنات الحي، تعلمهن الخياطة وتنقلهن فيها من فن إلى فن، وتستمر البنت كذلك حتى تصل إلى سن البلوغ، أو على الأصح سن الزواج، فتحجب أيضًا عن المعلمة، وتمكث حتى يرزقها الله بالزواج.
هكذا كانت أمي … فهي تجيد الطهي وتجيد الخياطة على أبسط أشكالها، وهي محجبة لا تستطيع أن تخرج إلا بملاءة وبرقع، ولا تخرج كذلك إلا لزيارة أهلها أو أقربائها، وإذا كانت في البيت لا يصح لها أن تنظر من شباك، ولا أن تجالس أحدًا من الغرباء، وإذا جاء السقاء إلى البيت ليملأ الزير، كلمته من وراء حجاب.
وأذكر أن سقاء جاء مرة وهي لم تفطن إليه، فلم تدخل أمي إلى حجرتها وكلمته في عدد القرب، ورأى أبي هذا المنظر، فنازعها وخاصمها وشتمها حتى اضطرت إلى أَن تغضب في بيت أهلها بأولادها، واستمر ذلك نحو سنتين!
•••
وهي تأتي ما تأتي تبعًا للتقاليد والعرف الجاري، لا لشيء آخر، تربينا تبعًا للتقاليد، فإذا مرض أحدنا فكل امرأة تأتي تصف وصفة بلدية، قد تناسب المريض وقد لا تناسبه، حتى تكوَّن من ذلك كله طب يسمى «طب الركة» ليس مؤسَّسًا على علم ولا تجربة صحيحة، إنما هي مصادفات حدثت فكانت طبًّا!
وأذكر أني مرضت بالحمى مرة فلم يدع لي بطبيب، وإنما وقاني الله شرها لامتناعي عن الأكل بحكم الطبيعة، وعدم الخروج عن البيت بحكم العجز، وكان المريض مرضًا معديًا يزار ويسلم عليه باليد، ويجلس النساء حوله يتحدثن، فلا عزل له ولا وقاية ولا نحو ذلك، ولذلك كثرت الوفيات في ذلك العهد كثرة مزعجة، يضاف إلى ذلك إيمان بالقدر لا حد له، فمن مات مات لانتهاء أجله، ومن حيى، حيى لطول عمره.
ولم أعرف أن لهن لهوًا خاصًّا، فلا سينما ولا تمثيل، وإنما لهوهن الوحيد عرس يقام في الحارة، فتأتي نساء مغنيات يغنين للنساء ويرقصن على الطبلة، أو زار يقام في الحارة، فيرقصن فيه رقصًا من نوع آخر، وهذا كل لهوهن، وهذا كان السبب في إطالة أيام العرس، وتنويع اللهو فيه، حتى يفرج عنهن.
وكان بجوار بيتنا حمام يخصص فيه بعض الأيام للرجال، وبعض الأيام للنساء، فكانت أمي تذهب إليه أحيانًا في أيام النساء، ويسمح لهن فيه بأخذ الأطفال الصغار معهن، ورتبت أمي فقيهًا أعمى ساكنًا في حارتنا يأتي كل يوم صباحًا، ليقرأ ما تيسر من القرآن، وهو الذي حل الراديو محله اليوم.
وكنا في حالة لا تسمح لنا بطباخ ولا خدم، فكانت أمي تقوم بكل ما يلزمنا من طهي وغسل وكنس وغير ذلك، يعاونها في ذلك أختنا الكبيرة، ويقضي لها حوائجها من الخارج أخونا الكبير، فكانت بذلك عمادًا لتدبير المنزل، ولم يكن ذلك مرهقًا لأنه أكل بسيط يحضر تحضيرًا بسيطًا، فليس بضروري أن يكون لحمًا كل يوم ولا أصنافًا متعددة، وليس عندنا فرش كثير يستدعي في تنظيفه تعبًا كثيرًا.
•••
وأما أخلاقها فكان أظهر شيء فيها الوداعة بمقدار كبير، حتى كانت لوداعتها محبوبة من أهل الحارة، يتخذ نساؤها بيتنا محطًّا لهن، يكثرون فيه من الزيارة، وإلى هذه الوداعة السذاجة، فهي تصدق أي بائع إذا حلف، وتصدق الحديث إذا حكي لها، ولو لم يقبله العقل الناقد.
وهي حسنة الحديث من قصص وحكايات، تملأ بذلك وقت زوارها وسمر أطفالها، وقد ورثت ذلك عن أمها، فكانت بذلك جعبة أخبار وقصص وأمثال، واعتدنا أن لا ننام إلا على خبر من أخبارها أَو قصة من قصصها، وتعادل مزاجها مع مزاج أبي، فهي لينة رحيمة، وأبي قاس شديد، ولذلك كنا نهرع إليها عند شدة أبينا، وقد تحلت بمقدار من الصبر كبير، فتحملت أبي على شدته وكثرة خصامه، مما لا تستطيعه المرأة العصرية اليوم.
وكانت أمي تعيش في بيت أبوي السلطة، فكان الأب فيه كل شيء، هو الذي يمسك ميزانية البيت، وهو الذي يشرف على أخلاقه، وهو الذي يستشار فيما نأكل وفيما لا نأكل، وهو الذي يشتري لنا ما نأكل وما نلبس، وهو الذي يسمح لأمي بالخروج وعدم الخروج، وهو الذي يحب نوعًا من الحديث دون نوع، وعلى الجملة كان هو كل شيء في البيت، لا رأي بجانب رأيه، ولا أمر بجانب أمره، وهو الذي يقتصد أو ينفق، يجمع في يديه قوة الكسب وقوة الإنفاق، وقد حملها على الرضا أَن أغلب البيوت في عصرها كان على هذا النمط، فهي تنظر حولها فلا تجد إلا مثيلاتها، خلا بيتًا واحدًا كان به رجلًا عجوزًا ماتت زوجته العجوز فتزوج فتاة صبية كانت هي سيدة البيت، وهي التي تأمر وتنهى، وهو لكبر سنه يسمع ويطيع، والسلطة الأبوية في تاريخ الأسرة معروفة مشهورة، مرت عليها كل البيوت تقريبًا، وهذا يطبع الأبناء عادة بطابع الدكتاتورية، فهم يرثون من آبائهم السلطة المطلقة إذا كونوا لأنفسهم أسرًا جديدة.
ولذلك كانت هناك حرب عوان بين النساء لاسترداد سلطتهن، وبين الرجال لرغبتهم في السلطان، كانت هذه الحرب أشبه ما تكون بثورة، انتصرت فيها المرأة انتصارًا عظيمًا على الرجل، وانقلبت الحال في كثير من الأسر من رجل يحكم البيت إلى امرأة تحكمه.
وكان من مزايا أمي عدم جشعها في المال، فليست تحرص على أن تكون لها ثروة كبيرة، ولذلك لما أنست إليَّ ووثقت أني أقوم بكل نفقاتها لم تطمع في إرثها من أبي، وتنازلت عنه لأولادها عن رضا واختيار، وعمّرت حتى بلغت الثمانين.