التقليد والابتكار
أما التقليد فالجري على سنن السابقين من غير تحوير ولا تبديل، وخير تعبير عنه قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، وأما الابتكار فهو إبداع الشيء لا على مثال سبق، هذا هو المعنى المفهوم من التقليد والابتكار، والذي نلاحظه أن المسلمين في أول أمرهم كانوا مبتكرين، ولولا هذا الابتكار ما استطاعوا أن يفتحوا هذه الفتوح الكبيرة وينظموها، ويديروا شؤونها، مع العلم بأن كثيرًا منهم ومن عظمائهم كانوا نتاج الجزيرة العربية البدوية، فكانوا يقابلون مدينتي الفرس والروم، ويواجهونهما بأحسن ما يكون من المهارة واللباقة والذكاء، هذا عمر بن الخطاب مثلًا يعرض في حكومته لأدق المسائل السياسية والاقتصادية والإدارية التي تواجهه عند فتح مصر والشام وفارس والعراق، فيصرفها كلها تصريفًا صحيحًا دقيقًا، مع أنه نشأ نشأة بدوية صرفة، إنما وسع عقله الإسلام، وجعله صالحًا لأن يسوس الناس، حتى المتمدنين، وهؤلاء الفاتحون أمثال: خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة، وأبي عبيدة، وقتيبة بن مسلم، وموسى بن نصير، كلهم واجهوا مشاكلَ كبيرةً في كيفية القتال، وفي أدوات الحروب، وفي تنظيم البلاد المختلفة بعد فتحها، فلو لم يكن لهم قوة ابتكار تسهل لهم حل المشاكل التي يواجهونها ما نجحوا، وقد واجهوا مشاكل كثيرة بحكم ضيق أنظمة البداوة وبساطتها وسعة أنظمة الحضارة وتعقدها.
وفي العلم كانوا يبتكرون، ومن أجل هذا اخترع الأئمة المشرعون القياس والاستحسان والمصالح المرسلة إلى غير ذلك، فواجهوا كل الجزئيات الحادثة بأحكام إسلامية تليق لها، وكان طابع المعتزلة الابتكار، ففلسفوا الحجج الدينية واعتمدوا على الشك والتجارب، فنرى الجاحظ مثلًا لا يؤمن بكل ما قاله أرسطو في الحيوان والنبات؛ بل يجرب ذلك في بيته الخاص، وحديقته الخاصة، فإذا قيل له: إن الثعابين تهرب من رائحة الشيح، جرب ذلك بنفسه، فوجد أن بعض الأقوال في هذا غير صحيحة، وإذا قيل له عادة من عادات النبات أو الحيوان، لم يعتمد على أقوال أرسطو في ذلك، بل لم يؤمن بها حتى يجربها، وقد يتعارض عنده قولان: قول لأرسطو، وقول لعربي جاهلي بدوي، فيفضل قول ذلك العربي؛ لأن التجربة أثبتت صدقه دون قول أرسطو، وكان النظَّام يمتحن الحديث المروي، ويعرضه على العقل، فما وافق منه العقل قبله، وإلا فلا، وكان المعتزلة على العموم لا يؤمنون كما يؤمن العامة برؤية الجن، وما حيك حولها من خرافات، بل يستندون إلى قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فينكرون رؤيتهم، ويضحكون من العامة؛ لخوفهم منهم، إلى نحو ذلك.
وعلى العموم فطابع العصور الإسلامية الأولى طابع ابتكار ونشاط عقلي، ومما يدل على ذلك اختراعهم للعلوم المختلفة لا على مثال سبق، فاخترعوا النحو والصرف والعروض، وعمل المعاجم، والنقد الأدبي، والبلاغة بأقسامها إلخ، ولكن مما يؤسف له أن طابع العصور الوسطى والمتأخرة طابع تقليد لا ابتكار، ومن مظاهر ذلك أن العلوم كلها وقفت عند نتاج هؤلاء المبتكرين الأولين، ولم تتقدم إلى الأمام خطوة، وكان التأليف عبارة عن جمع متفرق، أو تفريق مجتمع.
وليس أدل على ذلك من كتب الموسوعات، كصبح الأعشى، ونهاية الأرب، والمسالك والممالك، ونحوها، فكلها جمع لما تفرق في الكتب، وحسبنا دليلًا على ذلك أن العلوم التي بين أيدينا ليست إلا صدى لما ابتكره الأولون، فالنحو جار على ما كتبه سيبويه؛ إلا ما اعتراه من التبسيط، والبلاغة جارية على ما كتبه عبد القاهر؛ إلا قليلًا من الزيادة، أو الجمع، والعروض هي عروض الخليل بن أحمد، وعلى هذا القياس.
وإذا فتشنا في التاريخ فقلما نجد مبتكرًا، مثل ابن خلدون في تأسيسه علم الاجتماع، وأبحاثه الجديدة المبتكرة، ومثل ابن مضاء الأندلسي الذي أراد أن ينشئ نحوًا جديدًا، على غير فكرة سيبويه في بنائه على العامل الظاهر أو المقدر، وقليل جدًّا أمثال هؤلاء، أما الباقون فكلهم مقلدون لا ابتكار عندهم، وحتى النشأة الحديثة من الشرقيين، فهي أيضًا مقلدة، غاية ما في الأمر أنها لم تشأ أن تقلد أسلافنا من المتقدمين، بل قلدت الأوربيين في أفكارهم وبحوثهم، ولكن مع الأسف الكل تقليد، وإن اختلف المقلد، والمنطق الذي يجري بين المثقفين اليوم في الأمم الشرقية مرتكز على السؤال الأتي: إذا عرض موضوع من الموضوعات عليهم تساءلوا: «ماذا فعلت الأمم الأوربية فيه؟».
وأمامنا مجال الابتكار كبير، فعندنا وجوه الإصلاح المختلفة في كل النواحي تحتاج إلى ابتكار، وعقل فعال، وليس يغني فيها التقليد للأوربيين، فموقفنا غير موقفهم، وظروفنا غير ظروفهم، كما لا يغني فيها التقليد للأقدمين؛ لأن الزمن تغير، والبيئة تغيرت.
والباحث يعجب من وقوع الشرقيين في هذه المصيبة الكبرى، والتجائهم إلى التقليد في كل شيء، مع أن كتابهم الكريم ينعي على المقلدين الذين قالوا: «إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم لمقتدون»، ويشجع على إعمال العقل ويمدح العقلاء المفكرين الذين يستعلمون عقولهم في أحكامهم على الأشياء، والقرآن والأحاديث مملوءة بهذا النحو، فما الذي أصابهم؟ الذي يظهر أن تتابع الظلم عليهم، وما أصابهم من غزوات التتار، وما أتعبهم من الحروب الصليبية، ونحو ذلك، كله فَتَّ في عضدهم، وكسر من نفوسهم، فالابتكار يحتاج إلى سرور بالحياة، وتفتح لها، وأما من لم يسر بالحياة، ولا يستمتع بها، وينتظر الموت إن عاجلًا وإن آجلًا، فلا تتفتح نفسه لابتكار ولا تفكير فيه، يضاف إلى ذلك أن غلبة منهج الحديث مع الأسف على منهج الاعتزال يحمل على اتباع الرواية أكثر مما يحمل على الدراية، ومن أجل هذا نشأت عبادة عبارات الكتب؛ لأن الذي لا يخطو خطوة إلا بحديث مروي يسلمه ذلك إلى الاتباع لا الابتداع، وشاع بينهم ذم البدعة والابتداع، والقديم على قدمه، ونحو ذلك من الأقوال التي تكسر النفس وتصدها عن الإبداع والابتكار.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن ينفضوا عنهم غبار الماضي؛ فيخلعوا التقليد، ويقدسوا الابتكار، ويعملوا عقلهم في كل شيء، ماديًّا كان أو معنويًّا، ويأنفوا أن يقلدوا أسلافهم، أو يقلدوا الأمم الحية الأخرى، فكل تقليد معيب، وحتى التقليد للأوربيين لا يخلو من خطأ؛ لأن معيشتهم غير معيشتنا، وقد يكون الشيء عندهم نافعًا، فإذا نقل إلينا كان ضارًّا، والعكس، وحبذا لو نادى الزعماء طويلًا بالحث على الابتكار، والدعوة إليه، والتنبيه على أضرار التقليد، ووضعوا في برامجهم التعليمية تعويد الناشئين أن يتساءلوا دائمًا عندما يروى لهم خبر أو سير على طريقة خاصة: «لِمَ هذا؟ وما برهانه؟ وما الفائدة منه؟ ولعل هذا هو المعقول أو عكسه»، إنهم إن عودوهم ذلك وهم ناشئون شبوا وعقلهم ناضج؛ فأحبوا الابتكار، وسعوا إليه، وعملوا به، كما يجب على الزعماء أن ينقوا الأقوال القديمة والشعر القديم والأدب القديم من كل ما يحث على الاتباع والتقليد، وينفر من الابتكار والتجديد، فيحذفوها من تراثهم، ولا يستبقوا من التراث إلا ما كان صالحًا لبرنامجهم الجديد، والله يوفقهم.