ساسة العالم منافقون …
كان ابن سعدان وزير آل بويه يسأل أبا حيان التوحيدي: هل يصلح الفلاسفة أن يكون بيدهم زمام السياسة؟ وهل ينجحون؟ … ودعاه إلى الشك في هذا خوفه من أن فلسفة الفلاسفة تحرمهم قوة العزم والحزم والبت في الأمور، والسياسة عمادها سرعة البت، وخشي أن الفلاسفة يكثرون من تقليب الأمور على وجوهها؛ لسعة تفكيرهم ورؤية الأشياء من جميع جوانبها، ولذلك قالوا: أقوى الناس إرادة أضعفهم تفكيرًا؛ لأنه لا يرى الأمور إلا من وجه واحد، أما واسع التفكير فضعيف الإرادة؛ لأنه يرى الأمور من جميع وجوهها، وربما كان ابن سعدان خير مثل للوزير؛ لأنه تفلسف في وزارته فكان مصيره القتل.
والحق أن العالم محتاج إلى قادة جدد؛ لأنه قد سار على نمط واحد حتى مل … وسار الزعماء على طريقة واحدة حتى ملوا، فهموا السياسة أنها نفاق ورياء وتملق لأصحاب رؤوس الأموال، وتحقيق مصالح الأمة مهما اكتسحوا في طريقهم من الأمم، وقد تطور العالم وسار شوطًا بعيدًا نحو الإنسانية، وصار يكره نغمة النفاق والرياء ويكره النظر الضيق إلى مصالح الأمة وحدها، وهو يريد سياسة واسعة النظر لا تنظر إلى الأمة نفسها ولكن تنظر إلى الإنسانية كلها … ولا تنافق ولا ترائي ولا تستخدم أساليب مقنعة وتسمي الأشياء بغير أسمائها، فتسمي الاحتلال استعمارًا، ثم تسميه انتدابًا، وتسمي كبت الأحرار محافظة على النظام العام، وتسمي تحمس المستعمرين لدينهم تعصبًا بغيضًا ونحو ذلك.
•••
هذا النظر الجديد من العالم يحتاج إلى قادة جدد لم يتعفنوا تعفنَ من قبلهم ولم يجمدوا على القديم جمودَ من قبلهم … بل يكونون مرنين يواجهون المشاكل كما هي ويحلونها على حسب ما تقتضيه الإنسانية كلها، ولا يستغلون المستعمر، ولكن يأخذون بيده حتى ينهض، والقادة القدماء لا يصلحون لذلك، فهم أبناء مدرسة قديمة يأخذ آخرهم عن أولهم، وقد طبعوا على عقليات واحدة، وأشربوا نظامًا واحدًا، فلا بد أن يُنَحَّوْا عن القيادة، ليستطيع العالم النهوض على أساس الإنسانية، ولتفتح لهم مدارس تقوم مقام المدارس القديمة يكون أساسها منهجًا جديدًا يساير العالم في تقدمه.
ولقد كانت مبادئ الرئيس ويلسون والرئيس روزفلت وهيئة الأمم مبادئ قويمة، ولكن خنقتها الزعامة القديمة، فما أعلن ويلسون مبادئه حتى ضحك منه كليمنصو ولويد جورج وأمثالها ممن ربوا على النظام القديم، ولم يألفوا النظام الجديد، فضاعت كل هذه المجهودات هباءً، وكان ينقصها حفنة من الرجال تؤيدها وتحمي حماها، لا كما فعل كليمنصو ولويد جورج من تسليط المعاول عليها والضحك على ويلسون بألفاظ جديدة تحمل المعاني القديمة حتى ماتت، إنما نريد رجالًا من صنف آخر تسيرهم المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية، ويكونون صدى للشعوب وقادة يتقدمون إلى الأمام، لا سواقًا يكونون في الخلف.
إن الشعوب الآن بعد أن اكتوت بنار الحرب وفهمت المخاطر من القنابل الذرية والصواريخ الهدامة لا تريد الحرب بأي ثمن، وإنما تريد تفاهم القادة وتجنيبهم لويلات حرب جديدة، أما هؤلاء القادة الممسكون بزمام الأمور اليوم فيتبعون النظام القديم ويريدون حربًا لا يكتوون هم بنارها ولكن تكتوي شعوبهم بها، وهذا خطل في الرأي.
نريد قادة يرون شعور العالم شعورًا إنسانيًّا عامًّا فيتقدمون ويسبقون الشعوب في الدعوة إليه، نريد قادة لا يشجعون القنبلة الذرية والاختراعات الحربية، ولكن يشجعون استخدام قوانين الذرة في الصناعات السلمية، وهؤلاء القادة لا يمكن أن يكونوا إلا إذا ربوا تربية أخرى على منهج آخر، عماده المصلحة العامة وإحلال الإنسانية محل الوطنية … فإن فشلوا في ذلك فعيب الناس لا عيبهم، والعادة أن الفكرة الجديدة تحتاج إلى زمن طويل حتى تثبت في الأذهان وتنبث في المشاعر، ولهذا يختنق الزعماء المصلحون أمثال ويلسون وروزفلت ومن قبلهما إبراهام لنكولن، وربما كان سبب فشلهم أنهم كانوا أسبق لزمنهم، أما اليوم فزمنهم هو هذا لأن الشعوب آمنت بما كانوا يدعون إليه.
•••
لقد كان هؤلاء الزعماء متقدمين يوم كانت شعوبهم متأخرة، أما اليوم فالشعوب متقدمة، وزعماؤها متأخرون، وإذا تقدمت الشعوب وجب أن يغير «طقم» الزعماء حتى يتناسب مع الشعوب، وأظن أن هذا ما سيكون قريبًا؛ لأن الزمن عودنا أن قوة الشعوب لا تغالب، فإما أن يتنحى الزعماء الحاضرون عن مراكزهم ويخلوا أماكنهم لغيرهم، وإما أن يكتسحهم التيار فيذهبوا إلى غير رجعة ويحل غيرهم محلهم، ولا يزال الحديث صحيحًا: كما تكونوا يولَّ عليكم. فالشعوب وهي التي كانت تسمى فيما مضى رعية تجددت واحتاجت إلى راع جديد، حتى إنها لتكره اسم الراعي؛ لأنه رمز إلى الأغنام والناس لم يعودوا غنمًا بل شعروا بإنسانيتهم، فخير أن يسمى القواد زعماء بدلًا من تسميتهم رعاة.
ولقد بدأ هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا بدءًا حسنًا؛ إذ خرجا على النظام القديم حتى في الاقتصاديات وأعمال البنوك؛ لأنهما وجدا مبادئها قد تعفنت … فتحررا من مبادئ عفا عليها الزمن لولا أن الحظ لم يسعفها، إن القادة اليوم متأخرون عن زمنهم، ونريد قادة يتقدمون زمنهم، والقادة اليوم ضعيفو الثقافة لا يفهمون إلا خرافات في شكل حقائق، ونريد قادة يفهمون الحقائق لا الخرافات ويميزون بين حقيقة وتقليد، ولا تعميهم الأساليب القديمة واللغة القديمة والألفاظ القديمة التي تحجرت وأكل الزمان عليها وشرب.
كان الإسلام يقول: يبعث الله في كل مائة سنة من يجدد له أمر دينه؛ وذلك لأن القائد القديم لا يصلح بعد مائة سنة — وقد تقدمت الآراء والأفكار — فيبعث الله قائدًا جديدًا يماشي هذه الأفكار، والقادة اليوم يسلكون طريق قادة اليونان والرومان ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر ويستعملون ألفاظهم وأساليبهم … فنحن أحوج ما نكون إلى مجددين.
لقد تجمعت قوات إنجلترا بأساطيلها ورجالها لمحاربة الهند وسلكت طريقها المألوف، فقتلت الألوف وعذبت الناس وملأت السجون … ولكن جاءها قائد جديد بنمط جديد لا يملك إلا ثوبه، ولا يأكل إلا من لبن عنزة، ويدعو إلى المقاومة السلبية لا المقاومة الإيجابية، ويدعو إلى الإنسانية ويطلب الرحمة لمن قاتله، ويغزو بنظرته حيث يغزو الإنجليز بمدافعهم، ويدعو إلى المساواة بين المنبوذين، وأخيرًا تغلب هذا القائد الجديد على القادة القدماء وانتصرت الهند واستقلت، وكان هذا درسًا للعالم يملي عليهم أن القادة الجدد خير من القادة القدامى.
وسلحت الدول الأوربية المبشرين بكل ما لديها من وسائل، وخير مثل لذلك جنوب السودان، فقاومهم الإسلام ببساطته وسماحته، ولا قوة له ولا سلاح … فانتصر عليهم لأنه يعتنق مبدأً جديدًا ويعتنقون مبدأً قديمًا، وضج المبشرون من قلة من يعتنقون المسيحية من الوثنيين مع كثرة المال وكثرة العدد وحماية الحكومات لرجال التبشير، ونجاح الإسلام ولا تبشير ولا قوة … وهذا أيضًا يرينا أن المبادئ القديمة المتعفنة لا تصلح للعالم اليوم؛ فقد تغير العالم فيجب أن يتغير القادة، وما كان يضحك به على العالم وهو طفل لا يصلح لأن يضحك به عليه وهو شاب، وثوب الصغير في المهد لا يصلح أن يكون ثوبًا للرجل الكبير الكهل.
ويشترط في القائد الجديد أن تكون له المرونة الكافية لا يحتقر القديم لقدمه، ولا يعتز بالجديد لجدته، إنما هو رجل طالب للحق حيث كان، قد يأخذ من القديم ولا يأنف، وقد يأخذ من الجديد ولا يجمد.