عينية ابن سينا
اشتهرت هذه العينية بأنها لابن سينا، والناقد الأدبي يقطع بأنها ليست له؛ لأنه إذا تذوَّق ما لابن سينا من شعر وأراجيز، وتذوَّق هذه العينية يرى أنها أرقى بكثير من شعر ابن سينا، فابن سينا غامض اللفظ في شعره وفلسفته، سمج التعبير، يعتمد في لغته على المعاجم، وهي وإن دلت على المعنى الصحيح للكلمات فإن وراءها ذوقًا يميز بين جيدها ورديئها وما يحسن استعماله وما لا يحسن، وابن سينا أبعد عن ذلك سواء في فلسفته أو شعره أو قصصه.
فهذه القصيدة في نظرنا أشبه ما تكون بشعر ابن الشبل البغدادي صاحب قصيدة:
وهي إلى تعبيره أقرب، ولذلك نسبها بعضهم له، وقد كان جميل الشعر حسن السبك للألفاظ دقيق الاختيار.
والعينية هذه تدور حول حالة النفس قبل اتصالها بالبدن وبعد اتصالها به وبعد مفارقتها له، فهو يرى كفلسفة القرون الوسطى أن النفس كانت قبل البدن بعهد طويل، تتمتع بكل ما تتمتع به العناصر الروحية المجردة، ثم تحل بالأجسام حين يخلق الجسم في الرحم، فتحلّ به وهي كارهة، ولكنها إذا طالت مدتها ألفته، ثم هي إذا فارقته بالموت فارقته وهي كارهة، والجسد يجري من النفس مجرى الثوب من البدن فإن الجسد يحرك الثوب بواسطة أعضائه الظاهرة، والنفس تحرك البدن بواسطة قوى خفية مناسبة، فهي التي تحرّك العين واليد والرجل وغيرها، فإذا فارقته عدم الحركة، وكلمة الإنسان تطلق عليهما معًا، وتطلق على النفس حقيقة وعلى الجسم وحده مجازًا، كما يسمى ضوء الشمس شمسًا، وهذه النفس لا تتجزأ بذاتها، وإنما تتجزأ بأعراضها، وليست النفس في البدن كالماء في الإناء إذا أفرغ الماء بقي الإناء كما هو حين حلوله به، والجسم لا يكون كما هو عند مفارقة النفس؛ ولا النفس كالحلاوة في العسل؛ لأن الحلاوة عرضية ولأن النفس رئيسة البدن والبدن مرءوس، وليست الحلاوة رئيسة للعسل، وإنما هي بمنزلة شعاع الشمس كما قلنا وهي حيَّة بذاتها.
والكون كله مظاهر للنفس، فلكل شيء في الكون نفس وهو مظهرها، وهي مفطورة على صورة الفاطر — جل وعلا — ولذلك جاء في الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته).
وهذه خلاصة تلك الفلسفة، وتتمتها أن النفس قبل اتصالها بالبدن كانت عالمة بكل شيء، فلما اتصلت بالجسم نسيت ما كانت تعلمه، والتعليم إنما هو تذكير بما كانت تعلم لا خَلْق للعلم، وبذلك كان يقول سقراط، وكان يقول: إنه استطاع أن يُعلم عبدًا له أدق نظريات الهندسة بمساعدات بسيطة، ولو كان التعليم خلقًا ما استطاع ذلك، وربما أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ.
فذلك قوله:
والتعبير بالهبوط تعبير جميل، مما يدل على ذوق جميل، فهي خيرٌ من نزل أو سقط أو غيرهما من الكلمات التي تفيد معناهما؛ لأنها تدل على أن مهبطها دار عناء وبلاء، والورقاء الحمامة الرمادية، هذا في الأصل، ثم أطلقوها على كل حمامة وهو يكني بالحمامة عن النفس، أي النفس الكلية، فهو يقول: إن النفس هبطت من المحل الأرفع إلى الحضيض الأخس الأوضع، والمراد بالمحل الأرفع عالم العقول المجردة، التي تفيض منه النفوس على الأبدان، عند استعداد البدن للفيضان.
ثم قال:
يقول: إن النفس قد حجبت عن أن يراها راء، أو بعبارة أخرى، قد حجبت عن الحواس، لا تدركها، وهي مع ذلك تدرك بالعقول، وتدل عليها الأفعال.
فالعقل يدرك إذا تجرد من الجسم، كالذي قال أبو يزيد البسطامى: «انسلختُ من جسدي فرأيت من أنا»!
ويقول الحلاج:
ثم يقول:
فتعلق النفس بالبدن شديد، وهي تكره فراقه إلا إذا حصلت كمالها، والسر في كره المفارقة أنها باللذات الحسية من مأكل ومشرب وترؤسها على الحواس، فهي قد هبطت كارهة، وخرجت كارهة.
ثم يقول:
أي أن النفس استنكفت واستكبرت على أن تتصل بالجسم، واستعلت عليه بحجة أنها من الموجودات الشريفة العالية، فكيف تتآلف مع الأجسام التي هي من الظلمات، ولكن لما حلت في الجسم ألفت به من طول الملازمة له، ويريد بالخرب البلقع البدن؛ لكونه قابلًا للفساد والبطلان.
ثم يقول:
ومعنى البيت أنه يتعجب من شدة اتصالها بالبدن وركونها إليه، واشتداد محبتها له، مع أنه من غير جنسها، ولما حلت بالبدن نسيت أيام كانت مجردة متصلة بالعالم العلوي، وعند تعلقها بالبدن لم تقتصر على نسيانها لعالمها، بل زاد على ذلك عشقها للمادة الآيلة للفناء، وشغفها بها، فرضيت بالأدنى، واستغنت به عن الأعلى.
ثم يقول:
يقول: إن النفس لما انفصلت من ميم مركزها أي من أعلى عالمها، وعبَّر بميم المركز لأن الميم حرف من حروفه، أو مبدأ لفظه، كما قال هاء الهبوط والمراد به الجسم، وذات الأجرع استعارة لجسد الإنسان.
ثم يقول:
أي تشبثت بالبدن الذي عبر عنه بثاء الثقيل، وسماه ثاء الثقيل؛ لأن الثاء أول حروفه.
ثم يقول:
الحمى البقعة التي يحوزها الإنسان بقوته، ويمنع غيره من التعدي عليها، وتهمي تسيل، وذلك أن النفس من حين إلى حين تحن إلى ما كانت عليه قبل اتصالها بالبدن يوم كانت في عالم المجردات، فتحزن ويعظم وجدها وبكاؤها.
ثم يقول:
يقال سجعت الحمامة، إذا رددت صوتها على وجه واحد، والدمن ما بقى من آثار الديار ورسومها، ويقصد بها هنا أجزاء البدن، والدروس ذهاب الأثر.
يقول: إن النفس تبكي البدن وتحزن عليه إذا فارقته، كما حزنت عند حلولها فيه.
أي النفس لما قاربت مفارقتها للبدن، وقطعت العلائق الجسمانية بالموت، وغدت مفارقة للبدن وتوابعه، وقطع العلائق والأسباب بينها وبينه، هجعت أي نامت، وكشف عنها الغطاء، فأبصرت ما لم تكن تبصر من قبل، ورأت بعين بصيرتها ما لم تكن تدركه بالعيون في اليقظة.
وفي ذلك يقول رسول الله ﷺ: «الناس نيام، فإذا ماتوا تنبهوا».
والتغريد التطريب بالصوت، أي أن النفس بعد مفارقتها للبدن علمت ما لم تكن تعلم، وسرت بخلاصها من بدنها الذي كان يمنعها عن العلم.
يسأل عن الحكمة الباعثة لتعليق النفس بالبدن ومرور هذه الدورة من هبوط واتصال البدن، ثم انفصال عنه ثم عودتها إلى ما كانت عليه.
أي أنها لو كانت هبطت لحكمة خفيت عنا، فهبوطها كان لازمًا لتعلم ما لم تكن تعلم، وتعود عالمة بالأسرار الخفية في عالم الغيب والشهادة، وقد كانت تعلم عالم الغيب فقط.
يقول: إنما كان مراد النفس من الهبوط تحصيل مأربها من علم عالم الشهادة، وتنفصل عن البدن بصفة لم تكن وقت التعلق؛ وذلك أنها في حين التعلق كانت ساذجة لا تعرف الكمال ولا النعيم، فعرفته حين اتصلت بالجسم.
أي أن النفس في سيرتها هذه كأنها برق خاطف، تألق حينًا قليلًا حتى كأنه لم يلمع.
وهنا تنتهي القصيدة، وصف للنفس واتصالها بالجسم كارهة، ودخولها في البدن كارهة، وخروجها عنه كارهة، فلِمَ كان هذا الدخول وهذا الخروج؟ يقول: إن دخولها في الجسم كان سببًا في علمها ما لم تعلم من العالم الأرض بعد العالم السماوي، وتعديل رأيها في معنى الكمال، فهو قد وصف أدوار النفس ومراحلها من هبوط فاتصال فصعود، فانكشاف لما لم يكن يعلم، فحيرة في رحلتها هذه، فإجابته بأنها قد اكتشفت بهذه الرحلة علمًا فوق علمها وإدراكًا فوق إدراكها، وهذه حكمة الخلق من حياة وموت.
فكرة فلسفية لطيفة في شعر لطيف، وقد كان البحث في النفس والوجود والعدم مثارًا لكلام طويل، وحيرة شديدة، وقد تعرض له ابن الشبل البغدادي أيضًا في قصيدته: «بربك أيها الفلك المدار … إلخ»، وحار هذه الحيرة، وتساءل هذا السؤال، فهي تصور لنا مرحلة من مراحل المسلمين في التفكير.
ومن الأسف أنه إلى الآن لم تنكشف حقيقة هذه النظرية الغامضة، وبقيت غامضة اليوم كما كانت غامضة بالأمس، ولم تتقدم المعرفة الإنسانية لتحكم أصحيح هذا أم خطأ؛ وذلك لأن هذا لا يحل بالعلم؛ إذ ليس هذا من دائرته، وإنما هو من دائرة الدين، والله أعلم.