ستة أيام في حياتي
تمر الأيام مرورًا عاديًا في حياة الإنسان والأمم، ولكن تحدث فجأة حوادث في بعض الأيام يكون لها الأثر الكبير في حياة الأمم والأفراد … وقد تكون الحادثة صغيرة لا يؤبه لها ولكنها تصبح ذات أثر فعال، ولو سئلت ما هي الستة الأيام التي كان لها أكبر الأثر في نفسك، لأجبت:
اليوم الأول
ذلك يوم أن فارقت الكتاتيب الابتدائية؛ فقد أحسست أنني فارقت الفوضى إلى النظام، والحياة اللافنية إلى حياة فنية، والتعليم الهمجي إلى التعليم المنظم، وشعرت أنه رد إليَّ اعتباري، فبعد أن كنت ألبس الجلابية والطاقية والمركوب أصبحت كأولاد الذوات ألبس البدلة والجزمة والطربوش، وصرت أدخل حارتي رافع الرأس تياهًا على أولاد الحارة.
وبعد قليل صرت أرطن بالفرنسية كأولاد الذوات، ولكن أبي — رحمه الله — أراد ألا أنسى حياتي الشرقية بتاتًا، فكان يحفظني القرآن ويذكرني دائمًا بالحياة القديمة، وقد تعلمت في هذه المدرسة كثيرًا وخصوصًا مما خالطت من تلاميذ وما سمعت من أساتذة، ومن وقت لآخر يُبذر في أعماق نفسي بذورًا، ظلت هي العامل الأكبر طول حياتي.
اليوم الثاني
أما اليوم الثاني فيوم دخلت مدرسة القضاء؛ إذ كنت قبلها أسير في الحياة على غير هدى، وليس لي هدف في الحياة … فلما دخلت هذه المدرسة تحدد هدفي أن أكون قاضيًا شرعيًّا، واستفدت كذلك فوائد لا تحصى من علم وخلق؛ فقد كانت مدرسة القضاء أحب المدارس إلى سعد زغلول، فاختار لها خيرة المدرسين وكانت تدرس العلوم الدينية التقليدية والعلوم الحديثة، فكنت أدرس الفقه والتفسير وبجانبهما الطبيعة والكيمياء ومقدمة القوانين، وكان من أكبر ما أثر فيَّ، اتصالي بعاطف باشا بركات ناظر المدرسة؛ فقد كان رجلًا عادلًا حازمًا شجاعًا صريحًا لا يخشى في الحق لومة لائم، وساعدني على الاقتباس منه أنه اختارني لأكون معيدًا له في دروس الأخلاق، وكان يدرسها من الكتب الإنجليزية … فحبب إلي أن أتعلم اللغة الإنجليزية لأطلع على ما كتبه الإنجليز في الأخلاق، وكان اتصالي به في الأخلاق يتيح لي فرصة الاختلاط به في الدروس وفي البيت وفي العزبة، وكان خارج الدرس يكلمني في كل شيء، في الدين وفي أخلاق الناس في مصر وفي تجاربه في الحياة، مما ألقى لي ضوءًا لم أكن أعهده من قبل، وظل يلقي عليَّ حمل دروس الأخلاق شيئًا فشيئًا حتى استقللت بها، ولذلك لما مات حزنت عليه حزني على أبي؛ إذ كان هو أبي الروحي.
اليوم الثالث
وأما يومي الثالث فهو يوم الزواج … ولقد كان حادثًا كبيرًا غيَّر مجرى حياتي، وكان الزواج في أيامنا مبنيًّا على المصادفة أكثر مما هو اليوم، فالزوج لا يرى الزوجة قبل الزواج؛ وفقًا للتقاليد المرعية، ولا يعرف عنها إلا ما قالته الأقارب من النساء من ذكر أوصاف لا تقدم ولا تؤخر، وبعد أن كنت أحمل مسئولية نفسي فقط، أصبحت أحمل مسئولية البيت ومسئولية الزوجة والأولاد، وكل ذلك قد أكسبني تجارب كثيرة في الحياة.
اليوم الرابع
واليوم الرابع يوم أن عرفت امرأة انجليزية عجوزًا وأخرى شابة … كانتا تعلماني الإنجليزية، وظللت مع الأولى أربع سنوات بذلت فيها الجهد لتعليمي الإنجليزية، فكانت تدعو الإنجليز من رجال ونساء لتعويدي سماع اللغة واضطراري إلى إطلاق لساني في القول، وكانت تقص عليَّ ما لقيت في إنجلترا وباريس وبرلين وواشنطن، وكان آخر ما قرأت معها كتاب جمهورية أفلاطون، فكانت تقارن بين نظرياته وما دخل عليها من تعديل في المدنية الحديثة.
أما الثانية فكانت شابة متزوجة غنية قوية في العواطف قوة الأولى في العقل، ولما تعلمت الإنجليزية تفتحت أمامي آفاق واسعة لم يكن لي عهد بها من قبل، وصرت أعتمد عليها بجانب ما أعتمد على الكتب العربية، مما كان له أثر بعيد في مقالاتي وكتبي وتحضير دروسي، ولا أدري ماذا كنت أكون لو لم أتعلمها …
اليوم الخامس
وكان اليوم الخامس يوم أتيحت لي الظروف لأول مرة أن أسافر إلى أوربا في مؤتمر المستشرقين؛ فقد اطلعت على عالم جديد في نظمه الاجتماعية وفي معاهده العلمية، واستطعت أن أوازن بين الشرق والغرب، وأن أضع يدي على مزايا كل وعيوبه … وكأنني رزقت عينًا ثانية بعد أن كان لي عين واحدة، عين تقع على الشرق وعين تقع على الغرب، وعقل يوازن بينهما في سرعة البرق، وأعترف أنه ما عرضت عليَّ مسألة عويصة إلا نظرت فيها بهاتين العينين.
اليوم السادس
واليوم السادس يوم انتخبت عميدًا في كلية الآداب، ولم أكن أتوقع ذلك مطلقًا … فأنا رجل تربيت في الأزهر وما يشبه الأزهر من مدرسة القضاء، ولم أكن أعرف النظم الجامعية إلا يوم التحقت بجامعة القاهرة، ولم أتعلم كزملائي في جامعات أوربا وأعرف نظمها، وفي مجلس كلية الآداب فطاحل من رجال الجامعات الأوربية من إنجليز وفرنسيين وألمان، هذا عدا ما كان من فطاحل الأساتذة المصريين … فكان غريبًا أن يترك كل هؤلاء وأنتخب أنا عميدًا ولذلك استعظمت هذا الأمر واضطربت في أول حياتي كعميد، ولكن تذكرت قول الشيخ محمد عبده: «إن الرجل الصغير يرى أنه أصغر من الوظيفة، والرجل الكبير يرى أنه أكبر من الوظيفة» فأوحيت إلى نفسي باستمرار أنني أكبر من أن أكون عميدًا، ودلتني الحوادث أن العميد أصغر من أستاذ، ولذلك قلت يوم سئلت بعد ذلك: «هل تحب أن تعود عميدًا؟» فأجبت: «إني أكبر من عميد وأصغر من أستاذ».
وقد استفدت من عمادتي فوائد كثيرة … فخبرت أحوال الطلبة وأحوال الأساتذة، ومكنتني العمادة من أن أتصل بأعضاء مجلس الجامعة … وكلهم من كبار أساتذة الجامعة، فأصغيت إلى جدلهم ووقفت على مدى نظرهم.
هذه فيما أعتقد أشهر الأيام في حياتي، وربما كان هناك غيرها له أثر أكبر منها، ولكنه يعمل في عقلي الباطن وينعكس في عملي الظاهر، ولكن لم ألتفت إليه ولم ألقِ إليه بالًا … فقد تكون حادثة جزئية صغيرة أو جملة قرأتها في كتاب قراءة عابرة لم ألتفت إليها كثيرًا وقعت فجأة في عقلي الباطن فأخذت تكبر وتتوالد على مدى السنين وتعمل عملها الكبير في حياتي على غير شعور مني.